قراءة في تطلّعات المعلّمين نحو البيئة الصفّيّة المنشودة
قراءة في تطلّعات المعلّمين نحو البيئة الصفّيّة المنشودة

أصداء الدردشة قراءات في سؤال من أسئلة قسم الدردشة في منهجيّات، تختار فيها هيئة التحرير سؤالًا من نسخة من نسخ الدردشة في المجلّة، بناءً على ارتباط السؤال بملفّ العدد، أو بأهمّيّة الموضوع أو راهنيّته المستجدّة، حيث تُدرَس إجابات مجموعة من المعلّمين، ويُجمع بينها باستنتاجات أو خلاصات منها. في كلّ عدد من منهجيّات صدى جديد من أصوات معلّمينا ومعلّماتنا. 

في خضمّ التغيّرات المتسارعة التي يشهدها العالم التربويّ، تتزايد الحاجة إلى إعادة التفكير في بيئة الصفّ الدراسيّ ودورها في تشكيل تجارب التعلّم. فالصفّ لم يعد مجرّد حيّز مادّيّ يجتمع فيه الطلّاب والمعلّمون، بل غدا فضاءً حيويًّا تتفاعل فيه العلاقات، وتُصقل فيه المهارات، وتُبنى فيه القيم والمعاني. ومن هنا، بات الحديث عن مواصفات الصفّ المثاليّ أمرًا جوهريًّا في أيّ نقاش حول جودة التعليم وتحسين مخرجاته. 

يتقاطع مفهوم الصفّ المنشود مع مفهومات أوسع تتعلّق بالمناخ النفسيّ، والعدالة التعليميّة، والتفاعل الإيجابيّ، والدافعيّة، والشغف بالتعلّم. فليس كافيًا أنّ يكون الصفّ منظّمًا أو مجهّزًا بالتقنيّات الحديثة؛ وإنّما الأهمّ أن يكون بيئة يشعر فيها الجميع – طلّابًا ومعلّمين – بالأمان والتقدير والإلهام. في هذا السياق، تصبح نظرة المعلّم إلى الصفّ الذي يطمح إليه مرآة تعكس أولويّاته وتطلّعاته، وما يراه ضروريًّا لتحقيق تعلّم حقيقيّ وإنسانيّ. 

يأتي هذا المقال في إطار محاولة للإجابة عن سؤال: "ما مواصفات الصفّ الذي ترغب في تدريسه؟"، وذلك بتحليل إجابات مجموعة من المعلّمين والمعلّمات والتربويّين الذين طُرح عليهم هذا السؤال ضمن إحدى نسخ الدردشة لعام 2020. وقد تنوّعت إجاباتهم وتدفّقت بشغف واضح، كاشفةً عن رؤى ملهمة، لكنّها في الوقت ذاته عكست واقعًا مهنيًّا يتأرجح بين التطلّعات والمعوّقات، وبين ما يُراد تحقيقه وما تفرضه الظروف من حدود. 

 

البيئة الصفّيّة الملموسة 

انطلق بعض المعلّمين في إجاباتهم من الجانب الفيزيقيّ للبيئة الصفّيّة، مؤكّدين أنّ التصميم المادّيّ للصفّ ليس مجرّد تفصيل شكليّ؛ وإنّما عنصر جوهريّ في دعم العمليّة التعليميّة. يرغب البعض في أن يكون الصفّ واسعًا، ومُضاءً طبيعيًّا، وجيّد التهوية، ويُشعِر من فيه بالراحة والسكينة. يقول عبد الرحمن دويكات: "أن يكون موقع الصفّ في مكان هادئ ومريح، بعيدًا عن ضجيج الشوارع والآلات". 

لا بدّ من توفير مقاعد مرنة قابلة للتحريك، تُعزّز التنقّل والتعلّم التعاونيّ، عوضًا عن اعتماد الصفوف الثابتة التي تُكرّس نمطًا تقليديًّا في التعليم. كما لا بدّ من تهيئة زوايا صفّيّة مخصّصة للقراءة أو الهدوء أو الأنشطة الإبداعيّة، تعكس احترام التنوّع في احتياجات المتعلميّن. 

يطالب البعض بوجود شاشات ذكيّة تفاعليّة، ولوحات إلكترونيّة، وأجهزة حاسوب محمولة تتيح للطلّاب البحث والتفاعل مع المحتوى الدراسيّ بطريقة أكثر مرونة. فيقول محمّد ميسوم: "إنّ الجيل الحاليّ ديجيتاليّ بامتياز"، وأعرب عن رغبته في تمتّع طلّابه بمهارات استخدام الوسائط التربويّة التكنولوجيّة الحديثة. ولتحقيق ذلك، لا بدّ أن يكون الصفّ مجهّزًا بالأدوات التي تسهّل التعلّم التفاعليّ، وتمنح الطلّاب الفرصة للاستفادة من تقنيّات العصر. وهذا ما أشارت إليه أسماء مصطفى بقولها: "أرغب في أن تكون الغرفة مزوّدة بجميع الأدوات الرقميّة اللّازمة للمعلّم، وأن يتوفّر فيها إنترنت". 

 

وهكذا، يتبيّن أنّ البيئة الصفّيّة الملموسة، بما تحمله من تفاصيل فيزيائيّة مثل الإضاءة والتهوية وترتيب المقاعد والتقنيّات الحديثة، تعتبر أحد العناصر الضروريّة في نجاح العمليّة التعليميّة. كما أظهرت إجابات المعلّمين، فإنّ تصميم الصفّ لا يقتصر على كونه مجرّد فضاء مادّيّ، وإنّما جزء أساسيّ في خلق بيئة تحفّز التعلّم، وتدعم التفاعل الإيجابيّ بين المعلّم والطلّاب. فالصفّ الواسع، والمُضاء بشكل طبيعيّ، والمجهّز بمقاعد مرنة، يسهم في توفير مناخ تعليميّ صحّيّ يريح الطلّاب، ويشجّعهم على المشاركة الفعّالة. 

كما يتّضح أيضًا أنّ وجود وسائل تكنولوجيّة متطوّرة، مثل الشاشات الذكيّة والأجهزة المحمولة، بات مطلبًا ضروريًّا للصفّ الحديث. تفتح هذه الأدوات أمام الطلّاب آفاقًا أوسع من الفهم، وتساعدهم في التفاعل بشكل أكبر مع المحتوى؛ وهو ما يعزّز تجربتهم التعليميّة. ومن هذا المنطلق، يمكننا القول إنّ الاهتمام بالجانب الملموس للبيئة الصفّيّة يتكامل مع أهمّيّة وجود مناهج وأساليب تعليميّة فعّالة، بحيث تتعاون جميع العناصر لتحقيق بيئة تعليميّة شاملة، تعزّز قدرات الطلّاب وتنمّي مهاراتهم. 

 

الفصول المكتظّة ضغوط على المعلّم والطلّاب معًا 

تُعدّ مشكلة الاكتظاظ في الفصول الدراسيّة من أبرز المعوّقات التي تؤثّر بشكل مباشر في جودة التعليم. فوجود عدد كبير من الطلّاب في الصفّ الواحد يجعل من الصعب على المعلّم أن يركّز على احتياجات كلّ طالب على حدة. تقول فيروز شريف: "أرغب باستمرار في أن يكون عدد المتعلّمين في الصفّ الذي أدرّسه منخفضًا، فالاكتظاظ يؤثّر سلبًا في طلبتنا وأدائهم، ويصعّب علينا مهمّتنا التعليميّة". 

يحدّ الاكتظاظ من التفاعل الفرديّ مع الطلّاب؛ وهو ما يعيق قدرة المعلّم على متابعة تقدّم كلّ طالب بشكل دقيق، وبالتالي تؤثّر هذه المشكلة في فعّاليّة التعلّم، وفي تقديم الدعم المناسب لكلّ طالب. تقول فرح الشمري: "أفضّل أن يحتوي الصفّ 25 طالبًا فقط، لأتمكّن من إيصال المادّة إليهم بصورة أفضل، وإعطاء كلّ طالب الاهتمام والوقت الذي يستحقّهما". 

يؤدّي الاكتظاظ إلى صعوبة خلق بيئة صفّيّة آمنة وداعمة؛ إذ تزداد الفوضى وارتفاع الصوت، وهو ما يعيق التفاعل الفعّال بين المعلّم والطلّاب. يعزو صديق الرعوي ذلك إلى وجود طلّاب متمرّدين ذوي نزعة مشاغبة ناتجة عن بيئة غير داعمة، إذ يفتقرون إلى الفرصة للتعبير عن أنفسهم بشكل عقلانيّ؛ ما يدفعهم إلى محاولة لفت الانتباه بتصرّفات فوضويّة أو مزعجة. يؤدّي هذا الأمر إلى تشتّت تركيز الطلّاب الآخرين، ويؤثّر سلبًا في تجربتهم التعليميّة، بالإضافة إلى أنّه يخلق تحدّيات للمعلّم في إدارة الصفّ، وتنظيم الأنشطة بشكل فعّال. 

ويرى بعض المعلّمين أنّ تقليل عدد الطلّاب في الصفّ ليس عاملًا في تحسين جودة التعليم وحسب، وإنّما أيضًا في رفع مستوى تحفيز الطلّاب ودافعهم إلى التعلّم. فتقول نادية إسماعيل: "أن يكون عدد طلّاب الصفّ مناسبًا لا يزيد عن ثلاثين طالبًا، وفيه إمكانيّات وتجهيزات تجعل عمليّة التعليم ممتعة. صفّ يدرس فيه الطالب مناهج وخبرات يتشوّق إلى دراستها". تساعد الصفوف الأقلّ اكتظاظًا في خلق بيئة تعليميّة أفضل؛ إذ يتمكّن المعلّم من تقديم رعاية فرديّة لكلّ طالب، وتنظيم الأنشطة بشكل أكثر فعّاليّة. 

 

ويرى سببو عبد الباسط أنّ تقليل الاكتظاظ يتيح فرصًا أكبر للطلّاب في التفاعل مع أقرانهم؛ وهو ما يعزّز مهارات التعاون والعمل الجماعيّ. فيقول: "تحتاج العمليّة التعليميّة التعلّميّة شروطًا معيّنة لأداء المهمّة المنوطة بها، ولعلّ أهمّها ألّا يتجاوز عدد التلاميذ 15 في أقصى تقدير، وتوفير وسائل التدريس، وعدم وجود تباين كبير في الفروقات الفرديّة، وأن يحتكم الصفّ إلى الشروط البيداغوجيّة من حيث التصميم، وغيرها". 

تعكس هذه الآراء المتنوّعة حجم التحدّي الذي يشكّله الاكتظاظ في الفصول الدراسيّة، وهو تحدٍّ لا يبدو معزولًا أو فرديًّا، إنّما يمثّل ظاهرة متفشّية في عدد كبير من السياقات التعليميّة في الوطن العربيّ. وتتقاطع هذه التجارب لتكشف عن أنّ الاكتظاظ مشكلة بنيويّة تتجذّر في سياسات تخطيط التعليم، وقصور البنية التحتيّة، ونقص الكادر التدريسيّ المؤهّل، فضلًا عن التوزيع غير المتوازن للموارد التعليميّة بين المناطق. 

ويشير تفاقم هذه الظاهرة إلى ثغرات عميقة في إدارة المنظومات التعليميّة؛ إذ تزدحم الصفوف بلا مراعاة للطاقة الاستيعابيّة للمكان، ولا للاحتياجات النفسيّة والمعرفيّة للطلّاب. وفي غياب حلول حقيقيّة، يصبح المعلّم الحلقة الأضعف بين مطرقة الأعداد المتزايدة وسندان التطلّعات التربويّة. 

 

الصفّ مساحة آمنة للذات 

لا يكمن تميّز الصفّ في التحصيل الأكاديميّ فحسب، بل في ثراء الشخصيّات وتنوّع أنماط التفكير بين طلّابه. فالصفّ المثاليّ يضمّ الطالب المتسائل، والمجازف، والمفكّر، والهادئ، والنشيط، في مزيج متكامل يخلق بيئة تعليميّة نابضة بالحياة. ترى سماح نقاوة أنّ المدرسة مساحة للاختلاف والتنوّع، فتقول: "برأيي، تميّز الصفّ يكمن في تنوّع الطلّاب واختلافهم. أحبّ أن أدرّس في صفّ يعي كلّ طالب فيه مميّزاته ونقاط قوّته مهما كانت، ويسخّرها لدعم زملائه ومجتمعه". 

عبّر معلّمون آخرون عن رغبتهم في التدريس داخل صفّ يشعر فيه الطالب بحرّيّته الجسديّة والفكريّة والعاطفيّة. فلا يُقيّد بحركة أو كلمة أو تعبير، وإنّما يُشجّع على التفاعل والتساؤل والتعبير عن حاجاته ومشاعره، حتّى لو كان ذلك بالحركة أو الحديث المتكرّر. تؤمن ربى دبابنة ببناء بيئة مدرسيّة حرّة وآمنة للتعبير، فتقول: "أحبّ أن يعبّر الطلبة عن مشاعرهم وحاجاتهم وتساؤلاتهم وتعلّمهم بطرق مختلفة كيفما يرغبون، من دون الشعور بأنّ هناك سلاسل تقيّد أفكارهم وألسنتهم وأجسامهم، لأنّ الأطفال يحتاجون إلى الشعور بحرّيّتهم وقدرتهم على الثقة بمن حولهم، وبأنّ صوتهم مسموع في المكان الذي يقضون فيه ساعات طويلة من يومهم". 

في السياق ذاته، تحدّث معلّمون آخرون عن أهمّيّة خلق صفّ يتشوّق الطالب إلى الحضور إليه، لا ذاك الذي يشعر فيه بالضيق أو الرغبة في الهروب. ويشير محمّد عمارنة إلى أنّ الصفّ النشيط يشعر فيه الطالب أنّه جزء لا غنى عنه من العمليّة التعليميّة، ويأتي إليه بإرادة حقيقيّة، لا بدافع الإلزام. 

ويرى آخرون أنّ الصفّ المميّز هوالذي يمنح الطالب مساحة لأن يكون نفسه، وأن يشعر فيه بأنّ له مكانًا وصوتًا وقيمة. لا يقتصر دور الصفّ على تدريس المنهج، بل يمتدّ إلى إتاحة المجال أمام الطلّاب للتعبير عن اهتماماتهم، والانخراط في أنشطة تُعزّز دافعيّتهم الداخليّة. ويعبّر حسين الزيتاوي عن رؤيته إلى هذا النوع من الطلّاب قائلًا: "أن يكون شغوفًا بالمعلومة، حريصًا على اكتسابها، مسؤولًا، ومُتعاونًا، ومُحبًّا، وناقدًا، ومُعبّرًا". كما يؤكّد أحمد عيد أهمّيّة إشباع الميول الفرديّة، قائلًا: "يجد طلّابي ما يشبع ميولهم واهتماماتهم، ويرون في أنفسهم دافعًا إلى الانخراط والإسهام في مجريات ما يحدث في هذا الصفّ". 

 

بماذا يمكننا أن نُجيب؟ 

إذا أردنا أن نجيب عن هذا السؤال بعد الاطّلاع على تنوّع الآراء المطروحة، فإنّنا قد نميل إلى تصوّر صفّ يتوازن فيه الممكن مع المأمول. صفّ يتوفّر فيه الحدّ الأدنى من الشروط المادّيّة والتربويّة التي تجعل من التعلّم تجربة فاعلة ومحترمة لكلّ من الطالب والمعلّم. 

صفّ لا يعاني الاكتظاظ المفرط، ولا يفتقر إلى التهوية أو الإضاءة أو مقوّمات الراحة الأساسيّة. يسمح للطلّاب بالحركة والتفاعل من دون أن تتحوّل الفوضى إلى عائق. صفّ يجد فيه الطالب مساحة للتعبير عن نفسه، ويشعر فيه بالأمان النفسيّ والانتماء، ويُعامل باعتباره فردًا له احتياجاته وصوته الخاصّ. 

أن يكون في الوقت ذاته صفًّا يملك المعلّم فيه أدواته، ووقتًا كافيًا للتفاعل الفرديّ، وعددًا معقولًا من الطلّاب، وبيئة داعمة، وموارد ولو بسيطة، لكنّها قابلة للتوظيف بذكاء. ليس شرطًا أن يكون مجهّزًا بأحدث التقنيّات، ولكن من المهمّ أن يكون قابلًا للتكيّف مع أهداف التعلّم، ويمنح المعلّم والطلّاب فرصة حقيقيّة للعمل والنموّ المشترك. 

نهاية القول، الصفّ الذي نرغب في تدريسه ليس بالضرورة نموذجًا مثاليًّا، وإنّما صفّ نؤمن بأنّه يمكن أن يكون أفضل، ونحاول أن نطوّره مع الوقت، بقدر ما تسمح لنا به الإمكانيّات والظروف.