فضاء صوتيّ بديل: كيف يصنع الأطفال عالمهم من الحكاية
فضاء صوتيّ بديل: كيف يصنع الأطفال عالمهم من الحكاية
2025/08/11
محمد الزقزوق | منسّق برنامج المكتبات المجتمعيّة في مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ - فلسطين

في خيمة نازحين بمنطقة المواصي على أطراف خانيونس في قطاع غزّة، جلست ملك شعث (11 سنة)، تحت بطانيّة بسيطة وسط زحام المكان وظروفه الصعبة. فقدت بيتها منذ بداية الحرب، وأصبحت معتادة على سماع صوت الطائرات والقصف في الليل. في إحدى الليالي الباردة، أعطتها أمّها هاتفًا محمولًا وقالت: "اسمعي هذه القصّة، يمكن تساعدك تنسي شوي".

مثل ملك، كثيرٌ من الأطفال وجدوا في "يوم جديد" مساحةً صغيرةً للهرب من الواقع، ونافذة يطلّون منها على عالم أقلّ قسوة، وأكثر دفئًا.

برنامج "يوم جديد" الإذاعيّ، الذي يُبثُّ عبر الراديو والإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعيّ ويقوم عليه فريق من مجموعة لابيس Lapis Group، وبدعم من مؤسّسة التعليم فوق الجميع في قطر، لم يكن مجرد برنامج مسموع؛ بل أصبح رفيقًا يوميًّا لمَلك. تلفّ نفسها بالبطانيّة، تضع السمّاعة، وتستمع إلى أصوات البحر، زقزقة العصافير، وحكايات تُروى بنبرة هادئة. تقول ملك: "لما بسمع البرنامج، بحسّ كأني مش لحالي، الأصوات حواليا بتخلّيني أحسّ بعالم ثاني، بلا صوت حرب، بحسّ كأنّي داخل قصّة مش بس في خيمة".

وفي مكان آخر، هو بيتي في مدينة حمد قبل أن أنزح منه للمرّة العاشرة، يجلس أبنائي جواد (6 سنوات) وبراء (8 سنوات) يستمعان إلى الحلقات عبر جهاز اللابتوب. يقول براء: "أضحك لمّا أسمع صوت إيّاد وبعرف إنّ القصّة حتصير حلوة، وأطلب من جواد يسكت علشان نسمع سوا." أمّا جواد فيضيف: "بحبّ لما بابا يحكي معنا عن القصّة بعد ما تخلص، بنرسم الأشياء اللي شفناها في الصوت".

برنامج "يوم جديد" مساحة وجدانيّة وتعليميّة صُمّمت بعناية للأطفال بين 7 و11 سنة، حيث تلتقي الحكاية بالتعلّم، والخيال بالحياة اليوميّة. الحلقات، التي تتنوّع بين الدراما والموسيقى والمؤثّرات الصوتيّة، تُركّز على بناء مهارات حياتيّة ونفسيّة مثل الثقة بالنفس، التحكّم بالعواطف، والقدرة على التعاون.

الفضاء الصوتيّ: حين يُغلق باب الحرب ويُفتح باب الخيال

في حياة الطفل الفلسطينيّ، الأصوات جزء من الخوف اليوميّ: الانفجارات، الطائرات، الصراخ، وضجيج النزوح. لكن حين تبدأ حلقة من "يوم جديد"، يُغلق باب الواقع القاسي، ويُفتح باب جديد: باب الصوت. خطوات هادئة، همسات الريح، ضحكات بعيدة، هدير البحر، وأغنيات خفيفة. هذه ليست مؤثّرات، بل أدوات بناء لعالم داخليّ بديل.

الصوت هنا بيت مؤقّت، لكنّه دافئ، مأهول بالأمان. الصمت يصبح فعلًا تعبيريًّا: صمت الحزن، صمت التأمّل، صمت الفقد. وفي كلّ ذلك، يجد الطفل نفسه داخل حكاية تشبهه، وتمنحه فرصة لأن يكون بطلًا، لا نازحًا.

الحلقات التي تُبثّ متتالية، تبني مناخًا خاصًّا يشدّ الطفل منذ اللحظة الأولى إلى عالم مختلف، مألوف لكنّه متخيّل، مُرتّب بطريقة يحبّها الطفل. هذا العالم هو انعكاس لرؤية الأطفال، أو كما يرغبون أن يروا عالمهم، وسط فضاءات صوتيّة قاسية تغمر حياتهم.

الموسيقى ليست مجرد خلفيّة، بل تملك وظيفة وجدانيّة، تحضن الطفل، تثير فيه الحنين أو تفرحه. تشكّل هذه العناصر معًا ما يمكن تسميته "البيت السمعيّ" الذي يعيشه الطفل لدقائق: بيت مؤقّت لكنّه دافئ، فيه أصوات صديقة تفهمه وتعيد إليه شعور الأمان الذي سرقته الحرب.

الغرابة كدعوة للانتباه

يحاول برنامج "يوم جديد" أن يقدّم إلى الأطفال أشياء مألوفة من عالمهم اليوميّ، لكنّه يفتح أمامهم آفاقًا جديدة من التساؤل والانتباه. في حلقة "شبرة قمرة"، تُستدعى لعبة شعبيّة فلسطينيّة قديمة، توارثتها الأجيال بلا توقّف، على رغم غموض بداياتها. تركّز الحلقة على كلمات محدّدة في اللعبة مثل "شبرة قمرة"، "شمس"، "نجوم"، وتتجنّب كلمات أخرى مثل "فجلة" أو "جزرة". يبدأ الأطفال رحلة داخل اللعبة لا للبحث عن إجابات جاهزة، بل لطرح أسئلة جديدة.

قال براء:
"بس ليه ما فيش ولا كلمة من الأشياء اللي بناكلها؟ يعني الشمس بتطلع، بس الفجلة كمان بتطلع من الأرض!"
وردّد جواد:
"شبرة قمرة... ليش مش بنقولها لما نكون زعلانين؟ يمكن هي بتيجي عشان تضحّك الحزن!"

في حلقة أخرى، "حجرة ورقة مقص"، تتحوّل لعبة شعبيّة بسيطة إلى مشهد يعكس صراعًا داخليًّا صغيرًا لكنّه عميق. يشعر إيّاد بالإحباط من خسارته أمام شقيقته سعاد، ويظنّها تتحايل عليه، ما يجعله يفقد ثقته. يلجأ إلى "العمّ عارف" الذي يُوجهّه بأسئلة تعزّز تفكيره المنطقيّ، وتقوده إلى أنّ الفوز ليس دليلًا على الذكاء، بل قد يكون للحظّ دور فيه. تُطوّع الحلقة لعبة "حجرة ورقة مقصّ" في تعليم إيّاد والأطفال المستمعين أهمّيّة الاحتمالات، كما يتعلّمون أنّ اللعبة ليست معركة، بل مساحة للمرح والمشاركة، وأنّ الخسارة جزء طبيعيّ لا تعني الفشل.

سعاد ذكيّة وتلعب بلا تعمّد التفوّق، أمّا العمّ عارف فهو الميسّر الحكيم الذي يوسّع أفق الطفل من دون فرض حُكم.

بذلك، لا تتحوّل الكلمات والألعاب إلى تعابير عابرة، بل حاملة لذاكرة حيّة شعبيّة تتجدّد مع كلّ تكرار، تمنح الطفل فرصة لرؤية العالم من زوايا جديدة، وتعكس كيف يشكّل الفلسطينيّون عالمهم عبر استحضار تاريخهم وتمسّكهم بهُويّتهم الثقافيّة والشعبيّة.

سعاد تمثّل الفتاة التي ترفض التصنيفات الضيّقة، وتدافع عن حقّها في التعبير بحريّة. الأطفال الآخرون يشكّلون صورة مصغّرة عن مجتمع يمكن أن يكون أكثر عدلًا حين يتّسع للجميع.

في صوت البرنامج: تعلّم وتأمّل وتنفّس

أطفال مثل ملك وجواد وبراء، وغيرهم من أطفال غزّة، يعيشون طفولة ليست عاديّة. فقدوا بيوتًا وألعابًا وإخوة. لكن في "يوم جديد"، وجدوا شيئًا آخر: صوتًا يُربّت على أرواحهم. ويهمس لهم: "ما زلت هنا. ما زال بإمكانك أن تحلم، أن تلعب، أن تتخيّل، أن تبني بيتًا من الأصوات." صوتًا يساعدهم على فهم مشاعرهم، على تسمية الخوف، والبوح بالحزن، وتعلّم التنفّس وسط الرعب والدمار.

البرنامج ليس مجرّد محتوى إذاعيّ، بل بيت سمعيّ للطفولة الفلسطينيّة في زمن الدمار. بيت فيه قصص وضحكات وتساؤلات وأغنيات. يحمي خيال الطفل من التفتّت، يعزّز قدرته على التعامل مع مشاعر معقّدة مثل الفقد والقلق والتوتّر، ويفتح نوافذ صغيرة على عالم أرحب، أكثر احتمالًا، وأكثر إنسانيّة.

بهذا، يصبح "يوم جديد" مساحة حقيقيّة لإعادة بناء الطفولة، صوتًا يعانق الجراح، ويمنح الأطفال فرصة لأن يكونوا أبطال قصصهم، لا ضحاياها فقط. صوت يغلق أبواب الحرب، ويفتح أبواب الخيال، ويمنح الطفولة حقّها في الشعور، والتعافي، والحلم.