في تعاون بين منهجيّات ومركز الدراسات اللبنانيّة، صدر كتاب "التعليم في زمن الحرب: فعل حياة". جمع الكتاب مقالات ملفّ العدد السادس عشر من منهجيّات: "التعليم في زمن الحرب"، والمحاورة المنشورة في العدد ذاته مع المعلّمة الغزّيّة أسماء مصطفى، ونصوصًا لتربويّات وتربويّين غزّيّين نُشرَت في "مدوّنة غزّة" على موقع منهجيّات. الكتاب صدر باللغتين العربيّة والإنكليزيّة، وسيكون متاحًا إلكترونيًّا على موقعَي منهجيّات والدراسات اللبنانيّة.
ننشر هنا مقتطفات من مقدّمة الكتاب باللغة العربيّة
***
الأكاديميا ليست جنّة، لكنّ التعلّم مكان يمكن أن تُبنى فيه الجنّة. الصفّ الدراسيّ، بكلّ ما فيه من محدوديّات، يبقى ساحةً ممكنة. وفي هذه الساحة من الاحتمال، تُتاح لنا الفرصة للعمل من أجل الحرّيّة، ولمساءلة أنفسنا ورفاقنا، بانفتاح العقل والقلب، كي نواجه الواقع ونتخيّل معًا سُبل تجاوزه وتخطّي حدوده. هذا هو التعليم بوصفه ممارسة للحرّيّة.
Bell Hooks (Teaching to Transgress p.207; 1994)
لكن، ما الذي يصير إليه التعليم، حين تتحوّل المدارس إلى مقابر جماعيّة، وحين لا يبقى من الصفوف الدراسيّة سوى شظايا بين الركام؟ عندما يُرغم المعلّمون على أن يكونوا أكثر من مجرّد ميسّرين للتعلّم: حماةً من اليأس، ومهندسين للأمل في عالمٍ يسعى لمحوهم؟
هذا الكتاب شهادةٌ، ورفضٌ للصمت.
يجمع الكتاب أصوات المعلّمين والمعلّمات في فلسطين المُحتلّة، في غزّة المحاصرة والمُستهدفة بالإبادة، في الضفّة الغربيّة الواقعة تحت الاحتلال، وفي لبنان الذي يتعرّض إلى هجمات متواصلة. هؤلاء المُعلّمون الذين علّموا وواسَوا وقاوموا أمام وجهٍ من أوجه الاحتلال الأكثر وحشيّة في عصرنا. كلماتهم، الصادقة القاطعة، تخترق الخطاب الملوّن المُعقّم لحقل "التعليم في أوقات الأزمات والنزاع". وهو حقلٌ لطالما نوقِش في أروقة أكاديميّة مغلقة، وغرف اجتماعات معقّمة في منظّمات دوليّة، بعيدة عن أصوات الانفجارات ورائحة الدم. يسعى هذا الكتاب لمساءلة "الأرثوذكسيّات" المُهيمنة في الحقل الأكاديميّ، والتي تبنّى معظمها منطقَ الهيئات المانحة المُهيمِن ومؤسّساتها التي أنشأت هذا الحقلَ، وتُواصل الاستفادة منه، من دون مساءلة الجذور الأنطولوجيّة والإبستيمولوجيّة التي تكرّس هذا التسلّط.
على مدى الخمس والعشرين سنةً الماضية، توسّع حقل التعليم في مناطق النزاع وما بعد النزاع بسرعة، مدفوعًا بعجلة الحروب العالميّة والأزمات الإنسانيّة. لكنّ نموّه خضع لأولويّات المموّلين، والتكنوقراطيّين، ومنطق بناء السلام الليبراليّ، وهو إطار يركّز على الاستقرار أكثر من العدالة، وعلى الإدارة لا التحرّر. وتحت شعار "الحياد"، تحوّل التعليم إلى مجرّد تدخّل تقنيّ، إلى خدمة تُقاس بأدلّة إجرائيّة ومناهج مُوحّدة ومعايير دنيا. يتحدّثون عن "الصمود"، من دون التطرّق إلى البُنى التي تَضطرّ المجتمعات إلى التسلّح بالصمود أصلًا. ويروّجون لـ "التربية من أجل السلام"، متجاهلين الاحتلال والفصل العنصريّ والإبادة الجماعيّة التي تجعل السلام ذاته مستحيلًا.
ماكينة هذا النظام شاسعة، تصمّم المنظّمات الدوليّة ووكالات الأمم المتّحدة والمؤسّسات البحثيّة – التي يقع مقرّ معظمها في الشمال العالميّ – البرامج، وتوزّع التمويل، وتنتج المعرفة، من دون مساءلة حقيقيّة من المجتمعات التي تدّعي خدمتها. وقد حُوِّلَت المؤسّسات المحلّيّة التي كانت ذات يوم جزءًا من نضالات شعبيّة، إلى مجرّد مقدّمي خدمات ومقاولين فرعيّين للمنظّمات الكبرى. يُستغَلّ عملهم وفق متطلّبات التقارير البيروقراطيّة لمموّلي الشمال العالميّ، وفق تعريفاتهم الضيّقة للمساءلة. واللغة المنمّقة لـ "بناء القدرات"، كثيرًا ما تُخفي تآكلًا أعمق: تفكيك النضال المستقلّ، واستيعاب المقاومة داخل مؤشّرات المساعدات الإنسانيّة.
ثمّ جاءت غزّة.
في مواجهة إبادة جماعيّة تُبثّ مباشرةً أمام العالم، انكشف خواء حقل "التعليم في أوقات النزاع"؛ إذ تخوّفت الوكالات الإنسانيّة من أن تفقد تمويلها، فتردّدت في تسمية المجازر باسمها. الأونروا، العمود الفقريّ للتعليم في فلسطين، تعرّضت إلى إلغاء التمويل والتشويه، بينما قُصفت مدارسها وقُتل أفراد من طاقمها بشكلٍ ممنهج. الشبكات التي ادّعت تمثيل التربويّين والأكاديميّين عجزت حتّى عن نعي زملائها! انهارَ وهم "الحياد" تحت ثقل نفاقه، كاشفًا حقيقةً كانت معروفة منذ زمنٍ طويل، لكن نادرًا ما يُصرّح بها: لم يكن هذا النظام يومًا محايدًا، بل بُني على يد القوى ذاتها التي تسلّح الجلّاد، وتمنع وقف إطلاق النار، وتحيل الصفوف الدراسيّة أهدافًا عسكريّةً.
وكانت الأكاديميا شريكة في هذا التواطؤ. صمت الباحثون الذين بنوا مسيرتهم المهنيّة على دراسة فلسطين ولبنان. وكمّمت الجامعات أفواه معارضيها تحت ضغط الحكومات والمموّلين. أمّا ما يُسمّى بأخلاقيّات البحث، التي تُعرّف تعريفًا ضيّقًا ضمن لجان المراجعة المؤسّسيّة، فتحوّلت إلى غطاء للجبن، وكأنّ الأخلاق تنتهي عند جمع البيانات، ولا تمتدّ إلى التضامن مع الناس الذين كانت معاناتهم تملأ الهوامش وتُموّل المشاريع البحثيّة. وعادت الأكاديميا إلى زمن الوضعيّة، حيث يُفترض بالباحث أن يبقى منفصلًا عن موضوع دراسته، مُجسّدةً إفلاسها الأخلاقيّ. وعلى رغم كلّ نظريّاتها، عجزت عن الإجابة عن أكثر الأسئلة إلحاحًا: ما مسؤوليّة المعرفة في ظلّ الإبادة والاستعمار؟
هذا الكتاب محاولة لمواجهة هذا الفشل.
هو تحدٍّ لغطرسة الأكاديميا التي تحتكر تعريف "المعرفة الأكاديميّة"، وتمنح صفة "النظريّة" لمنتجات الشمال العالميّ فقط، بينما تُهمّش المعارف الأخرى المستندة إلى التجربة والمعاناة والمقاومة، وتقصيها من المجال الأكاديميّ بوصفها "أدبيّات رماديّة" وأقلّ شأنًا. يهدف هذا الكتاب إلى كسر هذا الهرم، عبر وضع صوت المُعلّمين والمعلّمات الفلسطينّيين في المركز، لا باعتبارهم "مواضيع للدراسة"، بل منظّرين لنضالهم، كما تقول بيل هوكس:
"أجد الحديث النظريّ أكثر فائدة حين يدعو القارئ إلى التفكير النقديّ والمُمارسة. بالنسبة إليّ، تنبع النظريّة من الحياة الملموسة، من محاولاتي لفهم الخبرات اليوميّة، ومن جهودي للتدخّل نقديًّا في حياتي وحياة الآخرين. ليست النظريّة بطبيعتها علاجيّة أو تحرّريّة أو ثوريّة، إذ لا تُؤدّي هذا الدور إلّا إذا طلبنا منها ذلك، ووجّهناها نحو هذا الهدف" (Hooks, 1994).
لقد آن الأوان لمساءلة نظريّاتنا في مجال التعليم في النزاعات.
في غزّة، حيث دُمّرت جميع الجامعات، وحيث قُتل أكثر من 18,000 طفل، وفُقد الآلاف، وقُتل أكثر من 400 مُعلّم، لم يتوقّف التعليم. بل استمرّ في الخيام، وفي أطلال البيوت المدمّرة، وفي المساحات الواقعة بين النجاة والحِداد. تحوّل المُعلّمون إلى مُداوين، ورُواة، وحُماة للذاكرة، ومُفجّرين للأمل.
"ما هو التعليم في زمن الحرب؟" تسأل معلّمة في رفح.
"هو فعل الإصرار على أن ثمّة مستقبلًا، حتّى عندما يكون الحاضر مشتعلًا".
هذا ليس تعليمًا بوصفه تحضيرًا للحياة، بل هو الحياة ذاتها: هشّة، عنيدة، لا تلين. هو رفضٌ لأن يُملي الجلّاد حدود الممكن.
لا يحتاج أطفال غزّة إلى برامج "تربية من أجل السلام" كي يتعلّموا العدالة، فهم يعيشون غيابها الكامل.
لا يحتاجون إلى تدخّلات علاجيّة نفسيّة تسمّي آلامهم، بل يحتاجون من العالم أن يتوقّف عن التسبّب بها، والكفّ عن مطالبته لهم بالموت بصمت.
الرسائل المستخلصة من هذا الكتاب واضحة.
تنبغي إعادة بناء حقل التعليم في النزاع لا بوصفه امتدادًا لمصنع الإغاثة والعمل الإنسانيّ، بل بوصفه ساحة تضامن جذريّ. عليه أن يُصغي إلى صوت المُعلّمين والمُعلّمات الذين كتبوا مناهجهم بالدم والتحدّي. عليه أن يرفض أكذوبة الحياد في زمن الإبادة. عليه أن يُدرك بأنّ البحث، إن كان له معنى، فلا بدّ أن يكون خاضعًا للمساءلة أمام المجتمعات التي يسعى للتعلّم منها.
الأصوات التي يجمعها هذا الكتاب لا تطلب الشفقة، بل العدالة والمحاسبة. تذكّرنا بأنّ جوهر التعليم لا يقوم على الأنظمة والمناهج، بل على أعمق حقوق الإنسان: الحقّ في أن نعيش، أن نتخيّل، أن نتساءل، أن نوجد ونقاوم.
بينما تخفّض الوكالات الإنسانيّة العالميّة تصنيف التعليم من "أساسيّ" إلى "ثانويّ" تحت وطأة التخفيضات في التمويل، تقول غزّة روايةً مختلفة.
هنا، تحت القصف والحصار، لم يعد التعليم مجرّد حقّ، بل شريان حياة، وطريقة لمواجهة المحو، وتحدّيًا لمنطق الفناء.
"هنا، المُعلّم مثل الطبيب؛ كلاهما يضع يده على موضع الألم. أحدهما يشفي وطنًا، والآخر يرمّم الأمل، روحًا بعد أخرى"، (ميسون أبو موسى، 3 شباط/ فبراير 2025).
يمثّل هذا الكتاب ثمرة تعاون بين مركز الدراسات اللبنانيّة ومجلّة منهجيّات. ويهدف إلى إبراز أصوات المعلّمين الذين يُعلّمون الأطفال في ظلّ حرب إبادة متوحّشة. وقد أَعدّت منهجيّات هذه المجموعة من المقالات باللغة العربيّة، ضمن ملفّ عددها السادس عشر بعنوان "التعليم في زمن الحرب". كما يتضمّن الكِتاب مجموعة تدوينات من "مدوّنة غزّة"؛ منصّة أطلقتها منهجيّات مع بدايات الحرب على غزّة على موقعها الإلكترونيّ، لتجمع شهادات مؤثّرة وتأمّلات نقديّة من تربويّين يواجهون واقع الحرب والتهجير في فلسطين ولبنان.
المراجع:
- - Hooks, b. (1994). Teaching to transgress: Education as the practice of freedom. Routledge.
- - التعليم في زمن الحرب. 2024. [العدد 16 من منهجيّات].
- - مدوّنة غزّة على موقع منهجيّات.