التعلّم بالأجهزة المحمولة: ثورة تربويّة أم فخّ رقميّ للشباب؟
التعلّم بالأجهزة المحمولة: ثورة تربويّة أم فخّ رقميّ للشباب؟
ريم القريوي | أستاذة مساعدة للتعليم العالي، جامعة قرطاج - تونس

يشهد قطاع التعليم تحوّلًا رقميًّا متسارعًا، يُنظر إليه غالبًا على أنّه تطوّر حتميّ لا مفرّ منه. فقد أصبحت التكنولوجيا عنصرًا أساسيًّا في البيئات التعليميّة الحديثة، بدءًا من الألواح الذكيّة التفاعليّة، وصولًا إلى منصّات التعلّم الإلكترونيّ. وفي السنوات الأخيرة، برز التعلّم عبر الأجهزة المحمولة (m-learning) باعتباره أحد الاتّجاهات الرائدة، والذي يتيح للطلّاب إمكانيّة الوصول الفوريّ إلى المحتوى التعليميّ عبر الهواتف الذكيّة والأجهزة اللوحيّة، الأمر الذي يعزّز أيضًا مرونة التعلّم واستمراريّته خارج الفصول الدراسيّة التقليديّة. 

ومع ذلك، يثير هذا التحوّل تساؤلات جوهريّة حول تأثيراته بعيدة المدى، إذ تتجلّى في هذا الصدد مفارقة واضحة: هل يؤدّي تشجيع التعلّم عبر الأجهزة المحمولة إلى تحسين جودة التعليم، أم إنّه يسهم في تعميق أزمة الإفراط في التعرّض إلى الشاشات، لا سيّما بين الأجيال الشابّة؟ وفي ظلّ التحذيرات المتزايدة الصادرة عن منظّمة الصحّة العالميّة (2024) بشأن المخاطر الصحّيّة والنفسيّة المرتبطة بالاستخدام المفرط للشاشات، هل يمكن اعتبار التعلّم عبر الأجهزة المحمولة خطوة نحو ثورة تعليميّة مستدامة، أم أنّه يشكّل تحدّيًا جديدًا يتطلّب إعادة تقييم شاملة؟ 

 

التعلّم بالأجهزة المحمولة: فرصة تعليميّة أم عبء رقميّ؟ 

أصبح التعلّم عبر الأجهزة المحمولة (m-learning) وسيلة مبتكرة تسهم في جعل العمليّة التعليميّة أكثر مرونة وتفاعليّة، باستخدام مختلف التطبيقات والألعاب التعليميّة التي تحفّز المتعلّمين وتشجّعهم على اكتساب المعرفة. يُعدّ تطبيق Duolingo نموذجًا رائدًا في هذا المجال، إذ يعتمد على التلعيب (gamification)، والإشعارات الذكيّة، والتحدّيات اليوميّة لتعزيز الدافعيّة الذاتيّة، وتسريع اكتساب المعرفة. وبفضل هذه الأدوات، أصبح التعلّم متاحًا للجميع، إذ يستطيع الطلّاب متابعة تعليمهم وفق إيقاعهم الخاصّ، بعيدًا عن القيود التقليديّة للمدارس والمناهج الجامدة. 

ومع ذلك، يثير هذا التحوّل الرقميّ تساؤلات جوهريّة حول الآثار السلبيّة المحتملة في صحّة الطلّاب وحياتهم الاجتماعيّة. فوفقًا لتقرير المعهد الوطنيّ للصحّة العامّة في كيبيك (INSPQ)، يقضي الشباب بالفعل أكثر من خمس ساعات يوميًّا أمام الشاشات خارج أوقات الدراسة، ما قد يؤثّر في جودة نومهم، ومستويات تركيزهم، وقدرتهم على بناء علاقات اجتماعيّة متينة (Giroux et al., 2025). فهل يؤدّي إدماج التعلّم الرقميّ في حياتهم اليوميّة إلى تعزيز المعرفة، أم أنّه يُفاقم مشكلة الإدمان على الشاشات، ويهدّد التوازن الصحّيّ والنفسيّ للمتعلّمين؟ وهل يمكن حقًّا اعتبار الوقت الذي يقضيه الطالب أمام شاشة "تعليميّة" ذا فائدة تعوّض الأضرار المحتملة للاستخدام المفرط للتكنولوجيا؟ 

في ظلّ هذا التحدّي، يصبح من الضروريّ البحث عن نماذج تعليميّة أكثر توازنًا، تدمج بين فوائد التكنولوجيا الحديثة، من دون إغفال تأثيراتها بعيدة المدى في صحّة الأجيال القادمة. 

 

زيادة في وقت الشاشة بشكل عامّ 

على الرغم من الاعتقاد السائد بأنّ التعلّم عبر الهاتف المحمول قد يقلّل من وقت الشاشة الترفيهيّ، تقرّ التجارب إلى أنّه يُضاف إلى استخدامات الشاشات الأخرى من دون أن يحلّ محلّها.  

 

وهم الشاشة التعليميّة: التكنولوجيا في خدمة التعليم أم العكس؟ 

أصبحت الفجوة بين الاستخدام التعليميّ والترفيهيّ للشاشات أكثر ضبابيّة ممّا نتصوّر. فالتطبيقات التعليميّة مثل Duolingo تعتمد على آليّات المكافآت الفوريّة التي تُحفّز إفراز الدوبامين، وهي العمليّة نفسها التي تستخدمها وسائل التواصل الاجتماعيّ وألعاب الفيديو، لضمان بقاء المستخدمين ملتصقين لأطول فترة ممكنة أمام الشاشات. وفي هذا السياق، تشير مجلّة Médiations إلى أنّ التعليم الرقميّ يجب أن يُنظَّم بعناية (Giroux et al., 2024)، إذ إنّ التعرّض الزائد إلى الشاشات لا يضمن دائمًا تعلّمًا فعّالًا، أو تنمية معرفيّة حقيقيّة. فالواقع يشير إلى أنّ الإشعارات والمكافآت الفوريّة تؤدّي إلى خلق سلوكيّات قهريّة مشابهة لتلك التي يسبّبها الإدمان على ألعاب الفيديو، إذ يسعى الفرد للحصول على المكافآت أو العواطف الفوريّة المرتبطة بالتفاعل الرقميّ. ووفقًا لتقرير صادر عن المعهد الوطنيّ للصحّة العامّة في كيبيك، فإنّ تزايد استخدام التكنولوجيا في التعليم لم يؤدّ إلى التقليل من وقت الترفيه عبر الشاشات، بل على عكس ذلك، أدّى توفّر الأجهزة الرقميّة إلى زيادة الاعتماد عليها بشكل عامّ، ما يؤثّر سلبًا في صحّة الشباب، خصوصًا من حيث تأثيراته في النوم والتركيز، تحديدًا عند استخدامها في المساء (Mozayan-Verschaeve, 2024). 

وبالتالي، يتطلّب هذا الأمر تقليص التعرّض المستمرّ إلى هذه المؤثّرات الرقميّة، لا سيّما لدى الأطفال والمراهقين، وذلك من أجل حماية صحّتهم النفسيّة والجسديّة، ووضع قيود تنظيميّة تهدف إلى تعزيز استخدام التكنولوجيا بشكل أكثر توازنًا وصحّة في السياقات التعليميّة، ما يضمن استفادة حقيقيّة، من دون التسبّب في تأثيرات جانبيّة ضارّة. 

 

إمّا الحظر أو التنظيم: كيف نحمي الشباب من دون عرقلة الولوج إلى أدوات تعليميّة مبتكرة؟ 

في مواجهة هذه القضايا، يدعو بعض الخبراء إلى حظر كامل لاستخدام الشاشات التعليميّة. فعلى سبيل المثال، يؤكّد الباحث في علم الأعصاب ميشال ديمورجيه، أهمّيّة الحدّ من الإفراط في استخدام الشاشات، بما في ذلك الشاشات المخصّصة للأغراض التعليميّة. في المقابل، يسلّط الضوء على أهمّيّة الأنشطة البديلة، مثل القراءة ودورها المحوريّ في تعزيز النموّ الفكريّ والعاطفيّ للشباب، ويشير إلى فكرة فرض قيود صارمة على استخدام الشاشات (Desmurget, 2023).  

كما قدّم الباحثون فابيو ستيكا، وفاليري بروخلي، وباتريشيا لانين، مراجعات منهجيّة وتحليليّة للتأثيرات المعرفيّة والاجتماعيّة والعاطفيّة الناتجة عن تعرّض الأطفال إلى الشاشات، واقترحوا حظرها لضمان نموّ صحّيّ سليم ومتوازن (Sticca et al., 2024). في هذا السياق، تشير أستاذة الأدب الفرنسيّ روكسان بيلير، إلى أنّ بعض المدارس تفرض قيودًا على استخدام الشاشات في الفصول الدراسيّة، ولكنّها في الوقت نفسه تحذّر من نهج متشدّد قد يعيق الولوج إلى أدوات تعليميّة مبتكرة (Le Devoir, 2024). وقد تبنّت العديد من الدول، مثل فرنسا والمملكة المتّحدة وفنلندا، سياسات تنظيميّة للحدّ من استخدام الهواتف المحمولة في المدارس لتحسين البيئة التعليميّة، ومع ذلك، تحذّر من تبنّي نهج صارم قد يحرم الطلّاب من أدوات تعليميّة مبتكرة. ومن بين السياسات المعتمدة لتنظيم استخدام الهواتف المحمولة في المدارس، نذكر، على سبيل المثال، الحظر الذي فرضته فرنسا على استخدام الهواتف في المدارس منذ سنة 2018، بهدف تحسين بيئة التعليم والتعلّم (Ministère de l'Éducation nationale, s.d). وإعلان المملكة المتّحدة في سنة 2024 عن حظر مشابه، لمواجهة مشكلات التشتّت والمضايقات (Journal du Geek, 2024). أمّا في فنلندا، وعلى رغم تعقيدات الحظر التامّ، أوصت الوكالة الوطنيّة للتعليم بتنظيم استخدام الهواتف أثناء الحصص لتعزيز الفوائد التعليميّة (Phone Locker, s.d). 

 

في هذا الإطار، نشير إلى ضرورة تبنّي نهج متوازن في استخدام الشاشات، مع التركيز على دور الأسر في دعم الجهود المدرسيّة. إذ تشمل الحلول المقترحة ما يأتي: 

  • - وضع حدود زمنيّة للتعلّم باستخدام الهاتف المحمول (m-learning)، لتجنّب الإفراط في التعرّض إلى الشاشات، والحفاظ على صحّة المستخدمين. 
  • - دعم التعليم الهجين، إذ يظلّ التعليم التقليديّ مكمّلًا للتكنولوجيا، ما يوفّر توازنًا بين الأساليب الحديثة والتقليديّة. 
  • - تعزيز وعي الشباب بآليّات الانتباه والتركيز، لمساعدتهم في إدارة وقتهم بشكل أفضل وتقليل التشتّت. 
  • - إعادة تصميم التطبيقات التعليميّة لتقليل التحفيزات الإدمانيّة، وجعلها أكثر ملاءمة للاستخدام الصحّيّ. 

 

*** 

سيكون المستقبل التعليميّ رقميًّا بلا شكّ، ولكن لتحقيق فعّاليّته، تجب إدارته وتنظيمه بشكل متوازن مع مراعاة تأثيراته في صحّة الطلّاب وتركيزهم. من الضروريّ إيجاد هذا التوازن، لضمان أن تكون التكنولوجيا أداة تعليميّة فعّالة، تسهم في تحسين التجربة التعليميّة من دون التأثير سلبًا في الجوانب الأخرى من حياة الطلّاب. 

 

المراجع