أصداء الدردشة:صنّاع العقول ومحو الذكريات.. المعلّمون يكشفون عن تجاربهم الصعبة والمؤثّرة
أصداء الدردشة:صنّاع العقول ومحو الذكريات.. المعلّمون يكشفون عن تجاربهم الصعبة والمؤثّرة

أصداء الدردشة قراءات في سؤال من أسئلة قسم الدردشة في منهجيّات، تختار فيها هيئة التحرير سؤالًا من نسخة من نسخ الدردشة في المجلّة، بناءً على ارتباط السؤال بملفّ العدد، أو بأهمّيّة الموضوع أو راهنيّته المستجدّة، حيث تُدرَس إجابات مجموعة من المعلّمين، ويُجمع بينها باستنتاجات أو خلاصات منها. في كلّ عدد من منهجيّات صدى جديد من أصوات معلّمينا ومعلّماتنا. 

 

تُعدّ مهنة التعليم من أهمّ المهن في المجتمع، إذ يعمل المعلّمون على صقل أذهان الطلبة وتنميتها، وتوجيههم نحو مستقبل مشرق. ويشهدون الكثير من اللحظات الثمينة والتحدّيات التي تترك أثرًا عميقًا في ذاكرتهم. وفي سياق السؤال المطروح: "لو ملكت القدرة على محو أشياء من ذاكرتك إلى الأبد، ما الذي تودّ محوه؟" سنكتشف إجابات المعلّمين والتربويّين عن هذا السؤال الصعب. 

 

يعتبر السؤال المطروح محيّرًا، فلكلّ فرد تجاربه الفريدة، وذكرياته الشخصيّة. ومع ذلك، يمكننا توقّع تأثّر إجاباتهم بأوجه معيّنة في حياتهم الشخصيّة والمهنيّة. كما قد يكون لديهم ذكريات مؤلمة، أو تجارب صعبة يرغبون في نسيانها، أو لحظات شعروا فيها بالإحباط أو الفشل، أو على النقيض من ذلك، كمرورهم في مواقف يخشون أن تُمحى من ذاكرتهم عن لحظات نجاحهم، وتجاوزهم التحدّيّات. نعرض لكم في هذا المقال الأفكار الناتجة من إجابات عشرة معلّمين وعاملين في مهنة التعليم من مناطق جغرافيّة مختلفة، أثناء إجابتهم عن هذا السؤال في دردشاتهم لسنة 2020. وبالاطّلاع عليها، وصلنا إلى أفكار مشتركة بينها: 

 

  • - الرغبة في محو العنف المدرسيّ من الذاكرة، حيث يمكن للعنف، بنوعيه النفسيّ والجسديّ الذي يمارسه المعلّمون على طلّابهم أن يترك آثارًا سلبيّة عميقة في حياتهم. فالطلّاب الذين يتعرّضون للعنف المدرسيّ قد يعانون مشكلات نفسيّة واجتماعيّة خطرة، تؤثِّر في تطوّرهم الشخصيّ والأكاديميّ. اتّفق على ذلك صديق الرعوي، ومحمد ميسوم، وحسين الزيتاوي، وشاركنا عماد طنّوس في دردشته تفاصيل تأثّره بعنف معلّمته معه. الأمر الذي أثّر فيه أكاديميًّا، فكتب: "كرهت اللغة العربيّة بسبب صفعة من الخلف من مُدرّسة قالت: "ضع القلم"، ولم أسمعها لأنّي كنت مستغرقًا في الإجابة"؛ بل أثّر في شخصيّته، وانعكس على طلّابه بعد امتهانه التعليم، فكتب: "ما سأمحوه أنّي في بداية مهنتي معلّمًا استخدمت العنف، تبعًا لما رأيته في المدارس عندما كنت صغيرًا". كما يمكن أن يؤدّي العنف المدرسيّ إلى انخفاض مستوى الثقة بالنفس والشعور بالإحباط لدى الطلّاب، وهذا ما شاركتنا به فاطمة سلامة؛ فكتبت: "أرغب أن أمسح من ذاكرتي مواقف شعرت فيها بالعجز وعدم القدرة على المقاومة في صغري. وهي استهزاء إحدى المعلّمات بي، أو صراخ أحدهم في وجهي". 

 

  • - الرغبة الدائمة في التذكّر، حيث يتعرّض الإنسان لعدّة تجارب ومواقف تكوِّن جزءًا من شخصيّته وتؤثِّر في حياته المستقبليّة. ومن هنا، نادى هذا الفِكر بضرورة تذكّر المعلّم ما مرّ فيه في صغره في حياته المدرسيّة، إذ يمكن أن يتجنّب الأخطاء التي ارتكبها معلّموه في الماضي مع طلّابه في الحاضر، وتحويلها إلى دروس قيّمة يمكن أن ينقلها إليهم. تبنّت هذا الفِكر ماسة ريشة، فكتبت: "هذه المواقف أعطتني دروسًا وعبرًا مهمّة في حياتي"، وفرح الشمري، وإيمان الناظر، وفيروز شريف، وربى دبابنة التي كتبت: "لو امتلكتُ تلك القدرة في الحقيقةِ لما محوتُ أيّ شيءٍ من ذاكرتي، لأنّ ذكرياتي هي التي جعلتني ما أنا عليه اليوم، وهي التي شَكّلتني، فهي كالأحجية؛ أجزاءُها تُكمِل بعضها بعضًا وتُكملني. فلا أُنكِرُ أنّ بعض هذه الذكريات آلمني وجعلني أحزن، إلّا أنّه جعلني أقوى". 

 

من جانبنا، نلاحظ من الرأي الأوّل أنّ مشكلة العنف المدرسيّ مشكلة مشتركة لدى المعلّمين في الوطن العربيّ، ولم تكن محصورة في المدارس الحكوميّة فحسب، بل كانت تحدث في المدارس الخاصّة أيضًا. ولكنّ الفارق الرئيس أنّ المدارس الحكوميّة قد تفتقر إلى الإجراءات والسياسات الفعّالة لمكافحة العنف المدرسيّ. وبالتالي، كان يجب على الحكومات والمؤسّسات التعليميّة أن تضع خططًا واضحة للحدّ من هذه الظاهرة وحماية الطلّاب. 

 

من المهمّ كذلك أن نفهم الأسباب الكامنة وراء العنف المدرسيّ، إذ قد يكون لدى بعض المعلّمين تاريخ من التعرّض إلى العنف في صغرهم، وبالتالي ينقلون هذا السلوك إلى طلّابهم. كما كان العنف يتمثّل في زمن المعلّمين– عندما كانوا طلّابًا– في تعنيف الطلّاب جسديًّا ونفسيًّا، حيث كان المعلّمون يستخدمون الضرب والصراخ وسيلةً لتأديب الطلّاب وتوجيههم. كانت هذه الممارسة مقبولة ومنتشرة في المجتمع آنَذاك، وكان الآباء والأمّهات، وحتّى الطلّاب أنفسهم يرونها جزءًا من النظام التعليميّ. عكست هذه الممارسة القوّةَ والسلطة التي كانت تتمتّع بها السلطات في ذلك الوقت، حيث كانت السلطات تستخدم العنف وسيلةً لفرض سيطرتها وتحقيق أهدافها. ولكنّ هذه الأسباب لا تبرِّر، بأيّ حال من الأحوال، العنف المدرسيّ، ويجب على المعلّمين أن يتلقّوا التدريب اللازم لمعالجة هذه القضيّة معالجةً فعّالة.

مقابل ذلك، قد تعود أسباب هذا العنف في يومنا الحاضر إلى عدّة عوامل أخرى، منها:  

  • - ضغوط العمل والإجهاد، إذ قد يواجه المعلّمون ضغوط عمل كثيرة نتيجة عدد الطلّاب في الفصل، والمناهج الكثيرة التي يجب تدريسها. الأمر الذي قد يؤدّي إلى تدهور حالة المعلّم النفسيّة، وإلى تصرّفات عنيفة غير مقبولة.
  • - نقص التدريب والدعم، حيث يفتقر المعلّمون إلى المهارات اللازمة للتعامل مع سلوك الطلّاب الصعب، وقد يواجهون صعوبة في إدارة الفصل إدارة فاعلة.
  • - تؤدّي الثقافة المحيطة بنظام التعليم دورًا في زيادة حالات العنف لدى المعلّمين، إذ قد تُقدَّس سلطة المعلّمين المطلقة، من دون مراعاة حقوق الطلّاب. كما قد يعتبر العنف وسيلة فعّالة للتأديب. 
  • - تؤثِّر الضغوط الاجتماعيّة والاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها المعلّمون في حالتهم النفسيّة، وتزيد من توتّرهم. وقد تنعكس هذه الظروف على تعاملهم مع الطلّاب. 

 

يجب أن نفهم أنّ العنف يعكس فشل المعلّمين في استخدام أساليب تربويّة فعّالة وبنّاءة، لتأديب الطلّاب وتحفيزهم على التعلّم. يجب على المعلّمين أن يكونوا قدوة إيجابيّة للطلّاب، وأن يستخدموا الحوار والتفاهم والتحفيز أساليب فعّالة، لتحقيق الانضباط والتعلّم الناجح. 

 

كما تتطلّب معالجة مشكلة عنف المعلّمين مع طلّابهم تعاونًا بين المدارس والمجتمع وأولياء الأمور. إضافة إلى تعزيز التدريب المهنيّ للمعلّمين، وإتاحة الدعم النفسيّ والاجتماعيّ لهم. كما ينبغي تشجيع الثقافة المدرسيّة الإيجابيّة، وتعزيز التواصل بين المعلّمين والطلّاب وأولياء الأمور. 

 

علاوة على ذلك، لا بدّ من تكثيف جهود المجتمع للتوعية بحقوق الطلّاب وحقوق الإنسان عامّةً، فضلًا عن تعزيز ثقافة الحوار والاحترام في المدارس والمجتمع. كما لا بدّ من توافر آليّات فعّالة للإبلاغ عن حالات عنف المعلّمين مع الطلّاب، ومعاقبة المعتدين بما يناسب. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تعمل الحكومات على وضع سياسات وقوانين صارمة تحمي حقوق الطلّاب، وتعاقب المعلّمين المتجاوزين. 

 

أمّا في ما يتعلّق بالفكرة الثانية، فللذكريات دور مهمّ في تشكيل هويّتنا وشخصيّتنا، حيث نستخلص الدروس منها، وتساعدنا على التطوّر كوننا أفرادًا. كما تعدّ الأحداث والتجارب التي مررنا بها جزءًا رئيسًا من منهجيّة حياتنا.

 

وإن كان لبعض الذكريات ألم عميق، وهي تسبّب لنا حزنًا، إلّا أنّها قد تعزِّز قوّتنا وتساعدنا على التعامل مع التحدّيات والمواقف الصعبة في المستقبل. فيمكن أن يكون للتجارب الصعبة والألم تأثير إيجابيّ في تطوّر شخصيّتنا وقدرتنا على التكيّف مع الصعاب. ذلك من غير أن نتناسى تأثيرات تلك الذكريات السلبيّة؛ فمن الصعب التعامل مع عدد من الذكريات المؤلمة تباعًا، حيث يؤدّي ذلك إلى الارتباك والتوتّر. لذا، وبرغم أهمّيّة الذكريات في حياتنا، فقد تكون القدرة على نسيان بعضها أو تجاوزها ضرورة أحيانًا، للحفاظ على صحّتنا العقليّة والنفسيّة. 

 

في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أهمّيّة الحصول على الدعم النفسيّ. فعندما يكون الإنسان محاطًا بالدعم والمساعدة من الأصدقاء والعائلة، يصبح من الأسهل عليه التغلّب على الذكريات التي يصعب التعامل معها. ولكنّ ذلك لا يعني أنّه غير قادر على التغلّب عليها بمفرده، بل يمكن أن يكون الدعم والمساعدة عاملين مساعدين ومحفّزين له.

 

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون للمساعدة الاحترافيّة دور كبير في تخطّي الذكريات. فعندما يلجأ الإنسان إلى مساعدة الخبراء، مثل الأطباء النفسيّين، أو المرشدين التربويّين، قد يجد الدعم والتوجيه اللازمين للتغلّب على المشكلات النفسيّة والعقليّة التي قد تواجهه. 

 

وعليه، نرى ضرورة تحقيق التوازن بين هذين الفِكرين. فلا بدّ من أن نعترف بأنّ الألم والصعوبات التي مرّ فيها المعلّمون والتربويّون في صغرهم قد تكون قاسية ومؤلمة، ويجب أن تدفع بهم إلى تحسين البيئة التعليميّة التي ينمو فيها طلّابهم، لضمان عدم تعرّضهم إلى العنف وسوء المعاملة. في الوقت ذاته، يجب أن يحتفظوا بالذكريات الماضية التي ساعدتهم على أن يصبحوا الأشخاص الذين هم عليهم اليوم. كما يمكن لتلك الذكريات أن تلهم الآخرين، وتعطي الأمل، وتشجّع على التغلّب على الصعاب. 

 

ومع أنّ التجارب الشخصيّة يمكن أن تكون قوّة دافعة إلى التغيير والتحسين، إلّا أنّ بعض المعلّمين لا يرون القيمة في مشاركة تجاربهم الشخصيّة مع العنف المدرسيّ، بل قد يرون العنف وسيلة فعّالة للتعامل مع الطلّاب، وهذا أمر يعود إلى أفكار قديمة ومتجذّرة في بعض الثقافات والمجتمعات. ولكن في واقع الأمر، عدم الاستفادة من هذه التجارب يؤدّي غالبًا إلى تكرار نمط العنف والتنمّر في المدرسة. ومع ذلك، يعدّ العنف في التعليم خطأً فادحًا، ويؤدّي إلى نتائج سلبيّة على المدى الطويل. كما يؤدّي استخدام العنف والتهديد إلى إحداث تلف في العلاقة بين المعلّم والطالب. 

 

في النهاية، لا بدّ من أن نعمل معًا كمجتمع واحد لتوفير بيئة آمنة وداعمة للأطفال والشباب، لخلق مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة، حيث يكون العنف وسوء المعاملة ذكرى بعيدة. ويكون للتحدّيات الماضية دور إيجابيّ في بناء شخصيّاتنا وقدراتنا. دعونا نتعلّم من الماضي ونتطلّع إلى المستقبل بثقة وتفاؤل، ونعمل جميعًا لتحقيق تغيير إيجابيّ وتقدّم في مجال التربية والتعليم. 

 

منهجيّات