لا تزال العلاقة بين الحفظ والفهم تشكّل محورًا للجدل في قضايا التربية والتعليم: هل يجب أن نُقدّم الحفظ باعتباره المدخل الأوّل لبناء المعرفة، أم أنّ الفهم يجب أن يتصدّر العمليّة التعليميّة باعتباره أداةً لتثبيت المعلومات ومعالجة المفاهيم؟
تاريخيًّا، اعتمدت التربية التقليديّة على الحفظ باعتباره حجر الزاوية في نقل المعارف الدينيّة والعلميّة؛ فقد شكّل حفظ القرآن الكريم والمتون العلميّة في الكتاتيب والمدارس القديمة، الأساس الذي بُنيت عليه شخصيّة المتعلّم الدينيّة والاجتماعيّة. لم يكن الهدف مجرد استظهار النصوص، بل كان الحفظ مدخلًا إلى بناء الفهم العميق وترسيخ القيم الأخلاقيّة، مع السعي نحو تكوين شخصيّة علميّة وروحيّة متكاملة.
مع مطلع القرن العشرين، شهد الفكر التربويّ تحوّلات جذريّة، مع بروز نظريّات التعلّم الحديثة، مثل النظريّات السلوكيّة والمعرفيّة والبنائيّة والاجتماعيّة. هذه النظريّات أكّدت أنّ الفهم العميق، وليس الحفظ الآليّ، هو الطريق الأمثل لبناء معارف صلبة، ولتنمية التفكير النقديّ وحلّ المشكلات. فالفهم عمليّة بنائيّة تفاعليّة تنطلق من خبرات المتعلّم، وتراعي خصوصيّاته الإدراكيّة والثقافيّة.
غير أنّ المقارنة الموضوعيّة بين التربية التقليديّة والنظريّات الحديثة، تكشف أنّ الحفظ والفهم ليسا مسارين متضادّين بالضرورة؛ بل إنّ الحفظ الواعي، المبنيّ على الفهم، يشكّل رافعة قويّة لترسيخ المعارف. وهو ما ينسجم مع الرؤية البيداغوجيّة الحديثة التي تدعو إلى تكامل بين الحفظ والفهم في سيرورة تعلّم نشطة وهادفة.
من هذا المنظور، يبدو أنّ تجاوز الطرح الثنائيّ بين الحفظ والفهم لم يعد خيارًا، بل ضرورة تربويّة. إنّ الحاجة ماسّة اليوم إلى مقاربات تعليميّة تجمع بين قوّة الحفظ وعمق الفهم، في ضوء مستجدّات علم النفس التربويّ وعلوم الدماغ، مستلهمةً في ذلك الحكمة التراثيّة التي لم تفصل يومًا بين العلم والعمل، وبين النصوص ومقاصدها.
على إعادة ترتيب أولويّات التعلّم أن ترتكز على رؤية تكامليّة تجعل من الفهم هدفًا، ومن الحفظ وسيلة داعمة له. فلا بناء معرفيًّا متينًّا من دون حفظ واعٍ، ولا تثبيتًا للمكتسبات من دون فهم عميق، في ظلّ بيئات تعلّم تفاعليّة تضع المتعلّم في قلب العمليّة التعليميّة، وتؤمن بقدرته على الإبداع والاكتشاف.