التعليم في فلسطين: من سؤال "ماذا لو؟" إلى سؤال "ماذا بعد؟"
التعليم في فلسطين: من سؤال "ماذا لو؟" إلى سؤال "ماذا بعد؟"
2025/06/05
محمّد عوض توفيق شبير | باحث متخصّص في القضايا التعليميّة والمجتمعيّة- فلسطين

في زمن يتّسم بعدم اليقين، وعدم الاستقرار، وانسداد الأفق، وتلاشي مفردات الأمل المنشود جرّاء حالة التجرّد من القيم الإنسانيّة التي ناضل من أجلها المُصلحون والفلاسفة والحكماء والقادة، بُغية جعل العالم أكثر سلامًا واستقرارًا. بالتالي، يعيش بني البشر دون صراعات وحروب تُفضي في نهاية المطاف إلى زعزعة القيم والمنظومة الأخلاقيّة العالميّة، الأمر الذي يعمّق نزعة الغلبة للقويّ على حساب الضعفاء.

وعطفًا على ما تقدّم، فإنّ حالة الإبادة التي يتعرّض إليها الشعب الفلسطينيّ تُجسّد تلك الحالة ونعيشها بعين اليقين بشكل يوميّ.

ولكون فلسطين مسرح العمليّات المؤلمة التي يشهد عليها الجميع، يبقى التعليم هو الضحيّة الأولى لحالة الإبادة المُمارسة في الميدان. تعرّض التعليم وما زال، إلى كارثة تُشبه الجحيم غير المتوقّع، حيث صودر حقّ كلّ طالب وطالبة فلسطينيّين في التعليم على مدار عامين دراسيّين كاملين.

وتقودنا هذه المقاربة إلى فهم حالة الواقع، والمتوقّع للتعليم في فلسطين وتشخصيها، عقب تعرّضه إلى هزّة هدّدت كيان المنظومة التعليميّة الفلسطينيّة بشكل كامل، وإلى استخلاص العبر، ومن ثمّ استشراف الغدّ للعبور إلى المستقبل لتفادي مخاطر محتملة مستقبلًا.

ولطالما حمل الفلسطينيّون سؤال "ماذا لو كان التعليم مستقرًّا وآمنًا؟" في قلوبهم، وسط ظروف الاحتلال والقمع والتشريد. لكن مع تصاعد وتيرة العدوان، تحوّل السؤال من افتراضات الأمل إلى واقع مرير يتساءل: "ماذا بعد كلّ هذا الدمار؟"

وبسؤال الواقع نجد إبادة للتعليم وخسائر لا تُحصى، حيث تعرّض التعليم في فلسطين، ولا سيما في قطاع غزّة، إلى حالة إبادة ممنهجة. مئات المدارس دُمِّرت أو خرجت عن الخدمة، ومنها ما تحوّل إلى مأوًى للنازحين ثم استُهدف، ومنها ما سُوِّي بالأرض. وكذلك الجامعات أُغلقت أو قُصفت، والمراكز التعليميّة تلاشت تحت وطأة الحصار والقصف.

وبحسب تقارير أمميّة، خسر آلاف الأطفال فرصة التعليم، وتحوّل عدد كبير من المعلّمين إلى ضحايا، بين شهيد ومصاب ومُهجّر. ولم تُدَمّر المباني فقط، بل تهاوت كذلك البنية النفسيّة والاجتماعيّة لمجتمع تعليميّ بأكمله.

وعقب سؤال الواقع الذي أصبح لا يحتاج إلى شهود أو شهادات، فصوت الألم ومشاهد الدمار تكفي لأن تنطق لوحدها أمام مرأى الجميع ومسمعهم. وهذا يأخذنا إلى سؤال المستقبل وهو: "ماذا بعد؟"

 

نحو خارطة طريق للاستجابة والتعافي وبناء الصمود.

إعادة بناء التعليم في فلسطين تتطلّب رؤية شاملة تتجاوز الترميم المادّيّ، لتصل إلى التمكين المجتمعيّ والسياسيّ. وللإجابة عن سؤال "ماذا بعد؟"، يجب بناء خطط ورسم سياسات، بحيث تشمل تلك السياسات التعليميّة المستقبليّة:

  • - إعادة إعمار البنية التحتيّة التعليميّة بما يشمل المدارس والجامعات والمكتبات، بوسائل تضمن استدامة المنظومة التعليميّة ومرونتها، بكلّ أركانها، في حالات الطوارئ.
  • - تبنّي نموذج تعليم مرن للطوارئ يتضمّن مناهج قصيرة الأمد تركّز على المهارات الحياتيّة، والصمود، والهويّة الوطنيّة.
  • - دعم الصحّة النفسيّة للطلبة والمعلّمين من خلال استجابة فاعلة عبر برامج علاجيّة، وتدخلات طويلة الأمد.
  • - إطلاق مبادرات تعليم بديل تشمل التعلّم الرقميّ، والصفوف المتنقّلة، والتعليم المجتمعيّ في البيئات غير الآمنة، والمبادرات التعليميّة، الملتقيات والمساحات التعليميّة، وتبنّي التعليم الشعبيّ.
  • - التوثيق والمساءلة عن الجرائم المرتكبة ضدّ المؤسّسات التعليميّة لضمان عدم إفلات المعتدين من العقاب.
  • - التكامل مع الشركاء الدوليّين لضمان التمويل والاستجابة السريعة في حالات الطوارئ، وتثبيت التعليم كحقّ غير قابل للتفاوض.

 

ماذا بعد على المستوى البعيد

يدعونا سؤال المستقبل "ماذا بعد؟" إلى معرفة الخطوة التالية المرتبطة بقضيّة التعليم في حالات الطوارئ. وهذا يقودنا إلى الاستجابة للخطوة اللاحقة، والتي تتمثّل في تبنّي إجراءات وأجندات وطنيّة تعليميّة مرنة للطوارئ، تقوم على بناء منظومة احتياطيّة تستمرّ في أداء دورها، حتّى في ظلّ النزاعات. وتشتمل كذلك على:

  • - إنشاء منصّات تعليميّة رقميّة مستدامة.
  • - تدريب المعلّمين على تقنيات التعليم في الأزمات.
  • - تطوير مناهج تُركّز على التماسك المجتمعيّ والهويّة والصمود.
  • - إعادة الإعمار للبنية التحتيّة عبر إنشاء مراكز تعليم مؤقّتة أو متنقّلة لتوفير التعليم في المخيّمات ومناطق النزوح.

أمّا على صعيد برامج الدعم النفسيّ والاجتماعيّ فينبغي تنفيذ برامج دعم نفسيّ جماعيّة وفرديّة للطلبة والمعلّمين المتأثّرين بالحرب والصدمات.

وفي ما يتعلّق بالكوادر التعليميّة، يتطلّب ذلك التحضير لإعادة تأهيل المعلّمين الذين فقدوا وظائفهم أو نَزحوا قسرًا، وإعادة توظيفهم، ورفع كفاءة المعلّمين من خلال برامج تدريبيّة في التعليم المرن، والتعليم المسرّع في حالات الطوارئ، والتقنيّات الرقميّة. وكذلك تدريبهم على أساليب التدريس التكيّفيّة والمرتبطة بالتعامل مع التوتّر والصدمات، وبناء المرونة والتأقلم.

أمّا على صعيد الحشد والمناصرة والتمويل الدوليّ، فيتطلّب هذا منا دعوة المجتمع الدوليّ إلى تأمين تمويل مستدام للتعليم في فلسطين، والضغط لاعتبار استهداف المدارس جريمة حرب، والمطالبة بتحييد التعليم عن النزاعات، وتعزيز الشراكات مع المنظّمات الأمميّة والمنظّمات غير الحكوميّة لتوفير موارد تقنيّة ومادّيّة. كما يتوجّب علينا إشراك المجتمع المحلّيّ والطلبة في وضع السياسات لضمان التكيّف مع الواقع والاحتياجات الفعليّة، واعتماد نظام بيانات مركزيّ لتتبّع الأضرار، واحتياجات التعليم، والتقدّم المحقّق.

 

ختامًا

إن الخطوة التالية للتعليم في فلسطين وسؤال "ماذا بعد؟"، يدعونا إلى فهم حقيقة التعافي التعليميّ؛ فهو ليس مجرّد ترميم للمدارس، بل هو إعادة بناء للإنسان الفلسطينيّ من جديد. والمطلوب إرادة سياسيّة، ودعم دوليّ، وتخطيط مجتمعيّ تشاركيّ لتحويل الألم إلى قوّة، والدمار إلى فرصة للتجديد، حيث لم يعد من المُجدي التوقف عند "ماذا لو كان لدينا تعليم؟" بل يجب أن نتحرّك نحو "ماذا بعد أن حُرمنا منه؟" فالتعليم ليس ضحيّة فقط، بل هو مفتاح البقاء والنهضة في وجه الإبادة. ومن هذه البديهيّة تبدأ رحلة إعادة الحياة إلى فلسطين، عبر مقاعد الدراسة التي غادرها الطلبة الفلسطينيّون في غزّة، إما مغادرة بلا عودة نهائيًّا نتيجة للقتل، أو مغادرة قسريّة نتيجة للاستهداف والإبادة للتعليم، وهذا ما زال قائمًا!