المهمّات الأدائيّة في التقويم البديل- "أنموذج تطبيقيّ"
المهمّات الأدائيّة في التقويم البديل- "أنموذج تطبيقيّ"
أمينة طالب الجابري | مدير المناهج الوطنيّة في مدارس الإمارات الوطنيّة

مقدّمة

شهدت طرق التقويم ونظريّاته تطوّرًا كبيرًا في القرن الحادي والعشرين، تماشيًا مع التحديثات الحاصلة في أساليب التعليم والتعلّم، وأصبح للتقويم أهداف تربويّة وتعليميّة تتعدّى عمليّة التقرير أو عمليّة تحديد مستوى الطالب، فصار بذلك جزءًا لا يتجزّأ من عمليّة التعليم، حيث يوجّهها ويعزّزها ويصحّح مسارها. وقد هدف التربويّون بمبادراتهم ونظريّاتهم إلى الوصول إلى أطر تلبّي جميع احتياجات الطلّاب التعليميّة، وإلى أساليب ونظم تسهم في تحقيق التوازن والتكامل في شخصيّة الطالب، وفي تمكينه من توظيف مهاراته لبلوغ أقصى عمق معرفيّ.

درسنا في قسم المناهج في مدارس الإمارات الوطنيّة الأطر الفلسفيّة للتعليم، وما يتبعها من طرق واستراتيجيّات محرّكة للمنهج، بهدف الوصول إلى طريقة تتناسب مع فلسفة التقويم وممارساته في برنامج السنوات المتوسطة، وتتضمّن، في الوقت نفسه، تحدّيّات شيّقة ودامجة ومعياريّة لطلّابنا. وبعد تجربة عدد من الاستراتيجيّات التقويميّة، اعتمدنا أنموذج "G.R.A.S.P.S" لتطبيق التقويم البديل، وهو طريقة تقويميّة ابتكرها التربويّان  Wiggins و McTighe (2005)، تقوم على تصميم مهامّ حقيقيّة وفق ستّة أسس تمّ اختصارها في كلمة "G.R.A.S.P.S" والتي تتمثّل في العناصر الآتية: الهدف، ودور المتعلّم، والفئة المستهدفة، والموقف الذي تُحدَّد الغاية وفقه، والأداء الذي ينفّذه المتعلّمون، ومعايير النجاح.

نعرض في هذا المقال تجربتنا في تطبيق التقويم البديل وفق أنموذج "G.R.A.S.P.S" الذي نجحنا من خلاله بتحقيق الأهداف المنشودة. فنبدأ بالحديث عن المهمّات الأدائيّة الذي يقتضيها الأنموذج في الوحدات البحثيّة، ثمّ نبيّن كيفيّة تعزيزه دافعيّة المتعلّم وتمكينه من تحقيق الأهداف التعلّميّة، لنختم بتبيان ضرورة التوفيق بين نهج التقويم البديل ومبدأ التقويم التقليديّ.

 

مهمّات التقويم الأدائيّة

يتعامل التقويم البديل مع المعرفة من خلال المتعلّم، أي أنّه يُبنَى وفق مستويات تراعي الفروقات الفرديّة بين المتعلّمين الذين تختلف لديهم طرق التعلّم والتفكير، حيث يتمّ تقويمهم بتكليفهم بمهمّات متعدّدة تتطلّب اندماجًا نشطًا، مثل توظيف البحث والاستقصاء في معالجة المشكلات، أو القيام بالتجارب الميدانيّة، أو التصوير المرئيّ للتفكير، أو غيرها من المهمّات الأدائيّة التي يقتضيها أنموذج "G.R.A.S.P.S"، والتي بدت لنا أنّها الطريقة الأنسب لتقويم الوحدات البحثيّة التي تعتمد المدخل المفهوميّ في تصميمها، إذ ساعدتنا على تقويم أساليب التعلّم التي اكتسبها طلّابنا. ذلك أنّ هذا النوع من المهمّات يتطلّب من المتعلّم إثبات فهمه وكفاءته في ضوء المخرجات التعليميّة المخطّط لها، بإنتاج ملموس يكون دليلًا على تحقّق التعلّم، وينعكس في سياقات حقيقيّة توظّف فيها المعارف والمهارات. 

تُعرَّف المهمّات الأدائيّة بأنّها نشاط أو تقييم تعليميّ يتطلّب من المتعلّم القيام به لإثبات فهمه وكفاءته، في ضوء المخرجات التعليميّة المخطّط لها، والمنفّذة خلال الوحدة. تؤدّي مهمّات الأداء إلى إنتاج أداء أو منتج ملموس كدليل على التعلّم، ما يعكس سياقات حقيقيّة لتوظيف المعرفة والمهارات. كما يمكن للمهمّات الأدائيّة أن تضمن تطوّر قدرة المتعلّم على التفكير التأمّليّ والتفكير الاستراتيجيّ اللذين يساعدانه على معالجة المعلومات ونقدها وتحليلها، ويبعدانه عن سلبيّات الامتحانات التقليديّة التي تهتمّ بالحفظ والاستظهار فقط (Mehrens & Lehmann، 2016). فوفق أنموذج "G.R.A.S.P.S" نضع المتعلّم أمام مشهد لمشكلة حياتيّة واقعيّة، وذات صلة بشؤون الحياة العمليّة التي يعيشها، تستدعي توظيف المعارف والمهارات للتوصّل إلى الحلول المناسبة. فنجد أنّ عمليّة البحث عن الحلول تمكّن المتعلّم من إعمال مهارات التفكير العليا لديه، فيؤدّي عددًا من عمليّات التقصّي والبحث والتحليل والاستكشاف وتركيب المعلومات، بغية إيجاد حلول يوظِّف من خلالها ما تعلّمه ضمن سياق جديد. كما تشجع المهمّات الأدائيّة المتعلّمين على توظيف مهاراتهم البحثيّة وتطويرها إثر التوصّل إلى معلومات جديدة، واقتراح حلول مبتكرة في كثير من الأحيان، والذي يعدّ بدوره من أعلى مستويات التفكير والعمق المعرفيّ. 

تحتوي كلّ مهمّة أدائيّة شبكة تقويم تحليليّة وصفيّة، تعتبر دليلًا واضحًا على قيادة عمليّة التقويم الذاتيّ قبل استخدامها في مرحلة التقويم الختاميّ. فيسبق التقويمات الختاميّة للوحدات البحثيّة المعدّة للتعلّم (Assessment of Learning)، تقويمات تكوينيّة معدّة من أجل التعلّم (Assessment for Learning). يحدث هذا النوع من التقويم خلال الوحدة البحثيّة أكثر من مّرة، ويستخدم كأداة للكشف والتشخيص عن مدى العمق المعرفيّ الذي توصّل إليه المتعلّمون، ودرجة إتقان مهارات التعلّم وأساليبه التي تمّ التخطيط لها، كما يتيح الفرصة أمام المتعلّم لإظهار فهمه، ولتحصيل التغذية الراجعة اللازمة من المعلّم.

 

أنموذج مهمّة أدائيّة

ارتكز تصميمنا للمهمّات الأدائيّة على تعزيز دافعيّة المتعلّم وتمكينه من التعلّم، وذلك بإشراكه في تحديد معايير الأداء وتوضيحها له، ما يساعده على التقويم الذاتيّ لأدائه، وتحديد حاجاته التعليميّة، والعمل على تطوير مهاراته في سبيل الوصول إلى أعلى المستويات الممكنة، كما يحفّزه على الاستمرار في عمليّة التعلّم، ولا يجعل من التقويم أداة للعقاب، بل أداة لتطوير الأداء بتزويده بتغذية راجعة وصفّيّة وفعّالة. فالمهمّات الأدائيّة تقويم معياريّ المرجع، يقارن أداء المتعلّم بالأهداف التعليميّة المخطّط لها خلال عمليّة تصميم الوحدات، مع الأخذ في الاعتبار مستويات إتقانها. وبالتالي، لا يقتصر العمل في تنفيذ المهمّات الأدائيّة على تشجيع المتعلّمين على التفاعل مع بعضهم والتعاون في ما بينهم فحسب، بل يقتضي كذلك مقارنة أدائهم بمستوى الإتقان المطلوب وفق معايير التقويم، من أجل تعزيز دافعيّتهم للتعلّم، مع ضرورة تجنّب عقد المقارنات بينهم كأفراد.

نذكر من بين التجارب التي تمّ تطبيقها في مدارسنا حول المهمّات الأدائيّة تجربة أجريت في مادّة اللغة العربيّة للصفّ السابع. كان الهدف من الوحدة الثانية أن يصل المتعلّمون إلى الفهم الآتي: " الانتقال من حالة إلى أخرى يساعد على التطوير النفسيّ والاجتماعيّ، ويشكّل وجهات نظر جديدة، وطرق تعبير إبداعيّة عن الذات، مستندة إلى الأدب". وللوصول بالمتعلّمين إلى هذا الفهم الدائم وغيره من التفاهمات المرتبطة بالمفاهيم المتّصلة بالوحدة البحثيّة، تمّ تصميم محتوى الوحدة تصميمًا يشتمل على عدد من الموضوعات المتمحورة حول "الإبداع" مفهومًا رئيسًا، وحول "وجهة النظر" و"التعبير عن الذات" مفهومَيْن ذوَي صلة. ولمّا كان اعتماد كتاب الوزارة كمصدر رئيس من مصادر المنهاج ضروريًّا، قمنا بتوظيف مجموعة مختارة من دروسه على النحو الآتي: نصّ شعريّ بعنوان "قوّة العلم"، وقصّة قصيرة بعنوان "قوّة الورق"، ومجموعة من النصوص المعلوماتيّة، كان من بينها نصّ بعنوان "التعلّم مؤلم"، ونصّ بعنوان "رحلة المعرفة"، بالإضافة إلى توظيف الأدب المصاحب كمصدر داعم من مصادر المنهاج، لمساعدتنا في تحقيق الهدف، والتركيز على نمط كتابيّ واحد خلال الوحدة البحثيّة لمساعدة المتعلّمين على الكتابة، وهو النمط التفسيريّ القائم على المقارنة. 

ركّزت النصوص والموضوعات على قضيّة اكتساب العلم، وقد تناولها المعلّمون خلال نقاشاتهم بالتركيز على مفهوم الإبداع الحاصل في عمليّتي التعليم والتعلّم، متناولين، استقراءً واستنتاجًا، وجهات نظر مؤلّفي النصوص وكيفيّة تعبيرهم عن ذواتهم ومجتمعاتهم من خلالها. في نهاية رحلة البحث المبنيّة على المفاهيم، تمّ تشجيع المتعلّمين على التعبير عن وجهات نظرهم حول ما قرأوه، ولا سيّما وأنّ رحلة البحث الغنيّة قد كوّنت المعنى لديهم تكوينًا عميقًا يضمن اتخاذ وجهات نظر ناقدة ومبدعة في الوقت نفسه. صُمِّمت المهمّة الأدائيّة وفق التخطيط العكسيّ تبعًا لأنموذج ". G.R.A.S.P.S"، كما نوقشت مع المتعلّمين لإجراء أيّ تعديل عليها قبل اعتمادها، بهدف تقييم فهمهم والأساليب التي تعلّموها خلال الوحدة، إلى أن تمّ تحديد عناصر المهمّة على النحو الآتي:

 

- الهدف: أن يبرهن المتعلّم كيف أنّ الانتقال من حالة إلى أخرى يساعد على التطوير النفسيّ والاجتماعيّ، ويشكّل وجهات نظر جديدة، وطرق تعبير إبداعيّة عن الذات، بالاستناد إلى الأدب.

- الدور: أن يتذكّر المتعلّم معايشته للأحداث المتعلّقة بجائحة كورونا، والخاصّة بالتغييرات التي ارتبطت بعمليتيّ التعليم والتعلّم، ومدى تأثيرها في المتعلّمين والمعلّمين وإدارات المدارس، وفي أولياء الأمور والمجتمع عامّة، وفيه كطالب في الصف السابع خاصّة. فحُدِّد دور المتعلّم بالتأمّل في التجربة، واستخلاص النتائج بكتابة مقال تفسيريّ يقارن فيه بين التعليم الوجاهيّ والتعليم الافتراضيّ، من خلال الوسائل وطرق التعليم والتعلّم المستخدمة، ويحدّد فيه الصعوبات والتحدّيات التي واجهها المتعلّمون وأفراد مجتمعهم إثر التغييرات التي حدثت، وكيفيّة تأقلمهم معها، ثمّ يستقري وجهة نظر أفراد المجتمع حول الطريقتين، مبيّنًا، من وجهة نظره، أيّهما أصلح لاكتساب العلم والمعرفة، ومشيرًا إلى أوجه الإبداع في عمليّة التعليم عن بعد.  

- المعايير: تمّ التقييم وفق ثلاثة معايير: التنظيم، وإنتاج النصّ، واستخدام اللغة. وقد حُدِّدت وفقها الأهداف والتقديرات اللفظيّة لكلّ مستوى بعناية تامّة، بحيث توفّر للمتعلّم شبكات تقييم وصفيّة تحليليّة، تفسح له المجال لتوضيح علامات التقدّم بوصف كمّيّ ولفظيّ دقيقين.

 

بالإضافة إلى ما سبق، صمّمنا وثائق توقّعات بعدد الكلمات المطلوب كتابتها في المهمّات الأدائيّة لكلّ وحدة، وكذلك الوقت المستغرق لإنجاز مهمّة الأداء الشفويّ. جاءت هذه التوقّعات نتيجة ما قمنا به من دراسات ومقارنات معياريّة تضمن التطوّر الرأسيّ والأفقيّ لمهارات المتعلّم وفق التخطيط العكسيّ ( من الصفّ الثاني عشر إلى الروضة)، والذي يضمن بدوره نجاعة نتاجات البرنامج الدراسيّ للصفّ الثاني عشر، الذي من شأنه أن يخرّج طلّابًا ثنائيّي اللغة، يتحلّون بمستويات أداء عالية جدًّا. ومن الجدير بالذكر هنا أنّنا نستخدم الأنموذج ذاته لتصميم المهمّات الأدائيّة لبقية المواد الدراسيّة، ومنها العلوم والرياضيات واللغة الإنكليزيّة، ما يضمن ترسيخ مبادئ التقييم وانسيابيّة التطبيق. 

 

خاتمة

في النهاية، يتبيّن أنّ هذا النوع من التقويم يختزل في مراحله الكثير من طرق التعلّم الحديثة، مثل التعلّم المبنيّ على البحث، والتعلّم المبنيّ على المشاريع، والتعلّم التفاعليّ، كما يدمج إطار التعليم القائم على الظواهر الطبيعيّة، وهو نهج يضمن وجود خمسة أبعاد رئيسة في العمليّة التعليميّة، تتمثّل في الشمولية، والأصالة، والسياق، والاستقصاء الموجَّه بالمشكلات، وعمليّات التعلّم والبحث الموجَّهة والمفتوحة، فيوفّر بذلك نموذجًا عمليًّا للمعلّمين والمتعلّمين. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ اعتمادنا التقويم البديل باستخدام أنموذج المهمّات الأدائيّة، لا يغنينا عن أساليب التقويم التقليديّة، لأنّ الطريقتين تكمّلان بعضهما بعضًا. فالدمج بين عدّة استراتيجيّات تجعل المتعلّم محور عمليّة التقويم وتوفّر له الفرصة لإبراز مهاراته والتعبير عن ذاته بما تعزّزه من عمليّتي التقويم الذاتيّ وتقويم الأقران، فتسهم في إشراك المتعلّمين في تقويم أعمالهم، فضلًا عن أنّها تعين المعلّم على معرفة التقدير الأنسب والأدقّ لمستوى طلّابه في كلّ مهارة. 

 

المراجع

Mehrens, W. & Lehmann, I. (2016). Measurment and Evaluation in Education and Psychology. American Psychological Association.

Wiggins, G. & McTighe, J. (2015). Understanding by Design. 2nd Association for Supervision & Curriculum Development.