يوم المعلّم الفلسطينيّ... احتفال بلا حقوق، وصوت يبقى آخر من تُسمَع شكواه
يوم المعلّم الفلسطينيّ... احتفال بلا حقوق، وصوت يبقى آخر من تُسمَع شكواه
2025/12/17
هاني عبد الحميد حمدونة | معلّم في وزارة التربية والتعليم العالي ومحاضرًا في جامعة الأقصى - فلسطين

في كلّ عام يحلّ يوم المعلّم الفلسطينيّ محاطًا بمظاهر احتفاليّة، تتنوّع ما بين كلمات تقدير وصور رمزيّة وعبارات ثناء. غير أنّ هذا المشهد على جماليّاته الظاهرة، لا يعكس حقيقة الواقع الذي يعيشه المعلّم في غزّة، ولا يقترب حتّى من مساحة المعاناة اليوميّة التي ترافق أداءه المهنيّ والإنسانيّ. فالمعلّم هنا لا ينتظر خطابًا منمّقًا، ولا باقة ورد تُلتقط بجانبها صورة، بل يطمح إلى اعتراف صادق بحقوقه، وإلى إجراءات تحفظ كرامته وتضمن له حياة مهنيّة مستقرّة.

يعمل المعلّم الغزّيّ في بيئة يختلط فيها العبء المهنيّ بثقل الأزمات العامّة التي يعيشها القطاع، غير أنّ المشهد اليوم أكثر تعقيدًا ممّا كان عليه سابقًا. فعدد كبير من المدارس تدمّر أو تضرّر، وتوقّفت خلالها العمليّة التعليميّة في مساحات واسعة، ما جعل كثيرًا من المعلّمين خارج نطاق العمل الفعليّ، ينتظرون وضوح الرؤية في ظلّ وضع ميدانيّ متقلّب وظروف إنسانيّة قاسية.

 ومع ذلك، فإنّ أولئك الذين ما زالوا قادرين على أداء مهامهم، يدخلون ما تبقّى من "فصول" لا تشبه الفصول (خيمًا مؤقّتة أو ساحات مستعارة) ليحاولوا تأدية دورهم، ليس فقط بوصفهم معلّمين، بل بوصفهم عناصر أساسيّة من عناصر الصمود المجتمعيّ. ومع أنّ رسالتهم تظلّ محلّ تثمين لفظيّ في المناسبات الرسميّة، إلّا أنّ حقوقهم تبقى مؤجّلة أو منقوصة، الأمر الذي يجعل الاحتفال بيومهم مناسبة رمزيّة أكثر منها فعليّة.

تتراكم الضغوط على المعلّم الغزّيّ في جوانب عدّة؛ فالمعاناة الاقتصاديّة الناتجة عن صرف الرواتب بنسب متفاوتة أو على فترات غير منتظمة، تحرم المعلّم من أبسط مقوّمات الاستقرار الأسريّ، إلى جانب الضغوط المستمرّة الناتجة عن تفكيره بمصيره الوظيفيّ في ظلّ تقلّب الحكومات، وغياب رؤية واضحة لمستقبله المهنيّ، وعدم حصوله على راتب ثابت ومنتظم، يضمن له الحدّ الأدنى من الأمان المهنيّ والمعيشيّ. إنّ هذا القلق المستمرّ بشأن وضعه موظّفًا ومعلّمًا، يشكّل عبئًا نفسيًّا ثقيلًا يلازمه طوال الوقت، كما أنّ البيئة المدرسيّة المزدحمة وقلّة الموارد التعليميّة تضيف أعباء جديدة على كاهله، فضلًا عن التوتّر النفسيّ الذي يسبّبه تعرّضه وطلّابه لظروف طارئة ومتكرّرة من انعدام الأمن وغياب الاستقرار. كلّ ذلك يحدث في ظلّ إحساس دائم بأنّ الجهود المبذولة لا تجد بالمقابل ما يكرّس قيمتها أو يحمي أصحابها.

وبرغم جميع التحدّيات، لم يتوقّف المعلّم الغزّيّ عن أداء دوره، فقد واصل تعليم طلّابه حتّى في أحلك الظروف، وابتكر بدائل حين تعذّر الوصول إلى المدارس، وواجه مسؤوليّات مضاعفة في فترات الأزمات، إلّا أنّ هذا التفاني لم يقابله حتّى اللحظة تقدير عمليّ يعكس مستوى التضحيات. ولذلك، تحوّل يوم المعلّم، بالنسبة إلى الكثيرين، إلى مناسبة تستعرض فيها المؤسّسات كلمات الشكر، بينما يبقى جوهر القضية معلّقًا بلا حلّ.

إنّ الاحتفال الحقيقيّ بالمعلّم لا يكون بالصور ولا بالشعارات، بل بإعادة الاعتبار لحقوقه المادّيّة والإداريّة، وتوفير ضمانات مهنيّة تحمي مكانته، وتطوير بيئة تعليميّة تُمكّنه من أداء دوره بكرامة وكفاءة. فالمجتمع الذي يطالب بمستوى تعليميّ أفضل، ويعتمد على المدرسة بوصفها أحد ركائز الاستقرار، لا يمكنه أن يتجاهل احتياجات من يقف في الصفّ الأوّل لتحقيق ذلك.

إنّ الحديث عن يوم المعلّم الفلسطينيّ ينبغي أن يخرج من إطار المجاملات الموسميّة، إلى مساحة النقد الجادّ والمسؤوليّة الأخلاقيّة. فالمعلّم الذي ظلّ ثابتًا أمام كلّ الظروف، يستحقّ أن يحصل على حقوقه كاملة، وأن يُعامل باعتباره شريكًا أساسيًّا في بناء المستقبل، ولا يمكن لأيّ احتفال أن يكون ذا معنى حقيقيّ، ما لم يُبنَ على واقع مهنيّ عادل يضمن للمعلّم حياة كريمة، ويصون مكانته بوصفه أساس العمليّة التعليميّة ومحرّكها الأوّل.

على أعتاب يوم المعلّم: لماذا يبقى المعلّم آخر من تُسمَع شكواه؟

على أعتاب يوم المعلّم، تتكثّف الأصوات التي تُحيّي دور المعلّم وتُثني على رسالته، غير أنّ هذه الأصوات تخفت سريعًا حين يتعلّق الأمر بشكواه أو مطالبه. فالسؤال الذي يتكرّر كلّ سنة، من دون إجابة واضحة: لماذا يبقى المعلّم آخر من تُسمَع شكواه، على الرغم من أنّه أوّل من يُطلب منه الصبر، وأوّل من يُحاسب حين يتعثّر النظام التعليميّ؟

لطالما كان المعلّم ركيزة أساسيّة في بناء الوعي، وعمودًا مركزيًّا في تشكيل الأجيال، إلّا أنّ مكانته الرمزيّة هذه لم تُترجم إلى مكانة عمليّة في ميزان الحقوق. فالمعلّم، في كثير من السياقات، يُتوقّع منه أن يتحمّل كلّ شيء: ضغط الحصص، وضعف الموارد والاكتظاظ، والمهامّ الإداريّة، والالتزامات المجتمعيّة، وأحيانًا مسؤوليّات لا تصل للتعليم بصلة. وبرغم ذلك، حين يرفع صوته مطالبًا بحقّ بسيط أو اعتراض مشروع، يُواجَه بالتجاهل أو بالتأجيل أو بالتقليل من شأن معاناته، وكأنّ صمته جزء من واجبات مهنته.

إنّ المفارقة الكبرى تكمن في أنّ شكوى المعلّم لا تُمنح الجدّيّة التي تُمنح لغيرها؛ فحين يحتجّ، يُنظر إلى احتجاجه على أنّه تعطيل للعمل، لا صرخة لإنقاذ العمليّة التعليميّة، وحين يطالب بتحسين رواتبه أو ظروف عمله، يُقال إنّ الظروف العامّة لا تسمح، وحتّى حين يواجه أزمات نفسيّة أو ضغوطًا تتجاوز طاقته، يُطالَب بالتماسك بوصفه "القدوة"، من دون أن يجد من يقف إلى جانبه باعتباره إنسانًا له احتياجات ومشاعر وحدود.

يقترب يوم المعلّم، وتبدو المناسبة في ظاهرها احتفاءً برمز كبير، غير أنّ هذا الاحتفاء يظلّ ناقصًا حين يُقصى صوت المعلّم نفسه من دائرة الاهتمام، فالمجتمع كلّه يرى جهده، ويعترف بدوره في تخريج الأجيال، لكنّه يتردّد في منح ما هو أبسط: الإصغاء. وربّما تكمن المعضلة في عدم إدراك أنّ شكوى المعلّم ليست مطلبًا فرديًّا، بل مؤشّرًا مباشرًا على صحّة المنظومة التعليميّة نفسها. فالمعلّم الذي يشعر بالإجهاد، أو بعدم تقدير جهده، أو بانعدام الحماية المهنيّة، لا يستطيع أن يؤدّي دوره بكامل طاقته، مهما بلغت درجة إخلاصه.

وهكذا يتكرّر المشهد كلّ عام: مناسبة رسميّة تفيض بالكلمات، وواقع يفيض بالصمت المفروض. وبينهما يقف المعلّم، يدرك أنّ صوته يأتي دائمًا متأخّرًا، وأنّ مطالبه مؤجّلة إلى أجل غير معلوم. ومع ذلك يواصل عمله، ليس لأنّه لا يشعر بالإنهاك، بل لأنّ إحساسه بالمسؤوليّة يتقدّم على شعوره بالخُذلان.

إنّ ما يحتاجه المعلّم اليوم، قبل أيّ احتفال، منصّة حقيقيّة يُسمع عبرها صوته، واعتراف واضح بأنّ شكواه ليست ترفًا، بل ضرورة للحفاظ على جودة التعليم. فالمجتمع الذي يريد مستقبلًا أفضل لأبنائه، لا يمكن أن يبنيه على معلّم يصمت مضطرًّا، ويُضحّي مضطرًّا، ويُهمَّش حين يُطالب بحقوقه. احترام المعلّم يبدأ من احترام صوته، ومن إدراك أنّ إصغاء المؤسّسات لشكواه ليس منّة، بل واجب لا يحتمل التأجيل.

وعلى أعتاب يوم المعلّم، يبقى السؤال معلّقًا: متى يأتي اليوم الذي لا يُضطرّ فيه المعلّم إلى رفع صوته كي يُسمع، ولا إلى تكرار شكواه كي تُفهم، ولا إلى الانتظار طويلًا كي يحصل على أبسط حقوقه؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال لا تصنع احتفالًا أجمل فحسب، بل تصنع تعليمًا أفضل، ومجتمعًا أكثر عدلًا، ومستقبلًا أكثر استقرارًا.