المدرسة مرآة مصغّرة للمجتمع، تنعكس داخلها منظومة القيم الاجتماعيّة السائدة، وتظهر آثارها في سلوكيّات الطلّاب داخل الصفوف، إذ لا يُنظر إلى الصفّ الدراسيّ بوصفه مجرّد حيّز للتعلّم الأكاديميّ، بل بوصفه مجالًا للتفاعل الاجتماعيّ الذي يُعبّر فيه الطالب عن مكتسباته القيميّة، المتأثّرة بمحيطه الأسريّ والاجتماعيّ. وتُسهم العوامل الاجتماعيّة المحيطة، مثل الوضع الاقتصاديّ، ومستوى التعليم الأسريّ، وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة، في تشكيل تلك القيم، ما ينعكس على سلوك الطالب من حيث التعاون أو العنف، والاحترام أو الرفض، والانضباط أو الفوضى. ومن هذا المنطلق، تبرز أهمّيّة تحليل العلاقة بين القيم الاجتماعيّة والسلوكيّات الصفّيّة، عن طريق الوقوف على مصادر هذه القيم، والأطراف المؤثّرة في ترسيخها أو إضعافها، إضافة إلى دراسة أثر التباين الاجتماعيّ والثقافيّ بين الطلّاب على سير التفاعل داخل الصفّ.
مفهوم القيم الاجتماعيّة وأهمّيّتها في البيئة الصفّيّة
تُشير القيم الاجتماعيّة إلى مجموعة المبادئ والمعايير التي يُقرّها المجتمع وتُوجّه سلوك أفراده، مثل الاحترام والصدق والتعاون والانضباط والمسؤوليّة، وهي لا تُكتسب بالفطرة، بل تُنقَل من جيل إلى آخر في عمليّات التنشئة الاجتماعيّة التي تبدأ في الأسرة وتستمرّ في المدرسة، مرورًا بالأقران ووسائل الإعلام ومؤسّسات المجتمع المختلفة (عمر، 2022). وفي السياق المدرسيّ، تُعدّ القيم عنصرًا أساسيًّا في تنظيم العلاقات داخل الصفّ، إذ تسهم في بناء مناخ تعليميّ صحّيّ، وتُوجّه سلوكيّات الطلّاب نحو التفاعل الإيجابيّ مع زملائهم ومعلّميهم. فالطالب الذي يتشرّب قيم الاحترام والتسامح، يكون أكثر تقبّلًا للاختلاف واستعدادًا للمشاركة الفاعلة. كما تُعدّ القيم مرجعيّة لسلوكه في مواقف الضغط أو التوتّر، وتُحدّد طبيعة استجاباته وانفعالاته داخل البيئة الصفّيّة.
أشار (2024) Iqbal وZahoor، إلى أنّ غياب القيم الاجتماعيّة أو ضعفها داخل الصفّ، يُفسح المجال أمام سلوكيّات سلبيّة مثل العنف، ورفض السلطة، وتعطيل النظام، ما يُضعف من كفاءة العمليّة التعليميّة. وفي ضوء ذلك، يُمكن القول إنّ ترسيخ القيم داخل البيئة الصفّيّة يُعدّ ضرورة تربويّة ومجتمعيّة، لضمان تعلّم فعّال وسلوك سويّ. ولا تقتصر فاعليّة القيم الاجتماعيّة في الصفّ على ضبط السلوك، بل تمتدّ لتُشكّل وعيًا جمعيًّا يُسهم في بناء شخصيّة الطالب المتزنة نفسيًّا واجتماعيًّا، إذ إنّ تحوّل القيم إلى ممارسات يوميّة يجعلها جزءًا من تكوين الفرد. ومن هذا المنطلق، لا يكفي تدريس القيم نظريًّا، بل ينبغي تجسيدها في أساليب التعليم والعلاقات داخل الصفّ، سواء بين المعلّم والطالب، أو بين الطلّاب أنفسهم، بما يُحقّق الانتقال من التربية على القيم إلى التربية بالقيم، ويُرسّخ الفعل التربويّ بوصفه أداة لإعادة إنتاج النسيج الأخلاقيّ للمجتمع داخل المدرسة.
أثر الأسرة في غرس القيم الاجتماعيّة وانعكاس ذلك على سلوك الطالب داخل الصفّ
تُعدّ الأسرة المؤسّسة الاجتماعيّة الأولى التي تُرسّخ القيم في وعي الطفل، فهي المحطّة التي يتعرّف فيها إلى مفاهيم الاحترام والمسؤوليّة والانضباط والتعاون. ويُشكّل نمط التنشئة الأسريّة العامل الأبرز في تكوين شخصيّة الطالب وسلوكيّاته داخل الصفّ. فالطفل الذي ينشأ في أسرة تُمارس القيم بشكل يوميّ، وتوفّر جوًّا من الاستقرار، غالبًا ما يُظهر سلوكًا إيجابيًّا يتمثّل في احترام القواعد والتفاعل البنّاء. أمّا في المقابل، فقد أشارت أبو خليل (2011) إلى أنّ الأسر التي يسودها التفكّك أو العنف أو التسلّط الزائد، قد تُنتج أفرادًا غير متّزنين نفسيًّا وسلوكيًّا، ويُحتمل أن يعكس الطالب ذلك داخل الصفّ، في صورة اضطرابات أو سلوك عدوانيّ أو انسحابيّ. نستدلّ من هذا أنّ سلوك الطالب لا يمكن فصله عن خلفيّته الاجتماعيّة والأسريّة، إذ تُعدّ الأسرة المرآة الأولى التي يتعلّم فيها الطفل كيفيّة التفاعل مع الآخرين وضبط انفعالاته.
وتُجدر الإشارة إلى أنّ علاقة الوالدين بالمدرسة، ومدى حرصهم على متابعة الأبناء وتعزيز قيمة التعلّم، تُسهم بشكل مباشر في تحفيز الطالب وتقديره للبيئة الصفّيّة. إذ إنّ الأسرة التي تُعلي من مكانة المعلّم، وتدعم الطالب في التزامه، تخلق نوعًا من الاتّساق بين القيم المنزليّة والقيم المدرسيّة، ما يُسهّل عليه الاندماج والتفاعل بفعّاليّة (دعجة، 2019). ويُعدّ دور الأسرة في غرس القيم الاجتماعيّة امتدادًا لا يقتصر على مرحلة الطفولة المبكّرة، بل يُشكّل الأساس الذي يستند إليه الطالب، فكلّما انسجمت القيم التي يتلقّاها في البيت مع تلك التي تُعزّز في المدرسة، زادت فرص التكيّف الإيجابيّ، وتراجعت احتمالات السلوكيّات المضطربة. ومن هذا المنطلق، فإنّ تعزيز الشراكة بين الأسرة والمدرسة لا يُعدّ خيارًا تربويًّا، بل ضرورة لتحقيق تناغم قيميّ يُسهم في بناء بيئة صفّيّة داعمة ومتزنة.
دور المعلّم في تعزيز القيم الاجتماعيّة الإيجابيّة لدى الطلّاب
يُعَدّ المعلّم حجر الزاوية في المنظومة التعليميّة، إذ لا يقتصر تأثيره على الجوانب المعرفيّة، بل يمتدّ إلى تشكيل القيم والاتّجاهات، بوصفه نموذجًا حيًّا يتعلّم منه الطالب بالسلوك قبل القول، ما يجعله أداة فعّالة في ترسيخ قيم مثل التسامح والتعاون واحترام الآخر. ويتجلّى هذا الدور في سلوكيّاته اليوميّة، واستراتيجيّات التواصل التي تُعبّر عن احترام حقوق الطلّاب، وتحفّزهم على الالتزام والمشاركة. كما يُسهم، عن طريق أساليب تدريس تقوم على الحوار والعمل الجماعيّ، في خلق بيئة صفّيّة محفّزة على احترام التعدّديّة وتقبّل الرأي الآخر، ويجعل دوره يتجاوز مجرّد نقل المعرفة، إلى الإسهام في بناء منظومة أخلاقيّة تُهيّئ الطلّاب ليكونوا مواطنين إيجابيّين.
يُمارس المعلّم تأثيرًا عميقًا بمواقفه التربويّة اليوميّة؛ إذ إنّ الطريقة التي يتعامل بها مع المواقف، وردود فعله تجاه السلوكيّات المختلفة، كلّها رسائل غير مباشرة تسهم في بناء منظومة القيم. فالمعلّم الذي يُظهر عدالة واحترامًا لتنوّع الطلّاب، يُعزّز شعورهم بالانتماء والثقة والالتزام، ما يُترجم إلى سلوكيّات إيجابيّة (الصالحي، 2021). كما أنّ إشراك الطلّاب في وضع قواعد الصفّ، وتعزيز المسؤوليّة الجماعيّة، وتقدير الجهود الفرديّة، تُعدّ وسائل عمليّة لترسيخ القيم، فيتحوّل الصفّ إلى بيئة تربويّة متكاملة، تُنمّي المعارف والقيم التي تُشكّل أساسًا للتفاعل الاجتماعيّ السليم.
وعلى الرغم من أهمّيّة دور المعلّم، إلّا أنّه يواجه عددًا من المعوّقات، أبرزها غياب البرامج التدريبيّة الخاصّة بالجانب الوجدانيّ، وضغط الأعباء الإداريّة وكثافة المناهج، ما يقلّل من فرص التفاعل القيميّ داخل الصفّ. كما يُسهم ضعف الدعم المؤسّسيّ، وغياب البيئة المحفّزة، فضلًا عن تفاوت الخلفيّات الثقافيّة بين المعلّمين والطلّاب، في الحدّ من فاعليّة هذا الدور (التركي، 2025). ويُعدّ دور المعلّم في تعزيز القيم أكثر من مجرّد توجيه، إذ يتجسّد في حضوره وسلوكيّاته التي تُشكّل مرآة حقيقيّة لما يجب أن يكون عليه الطالب. فالمعلّم الواعي بأثره، والقادر على توظيف المواقف الصفّيّة في تنمية القيم، يُسهم في بناء جيل يتحلّى بروح المواطنة والوعي والاتّزان.
تأثير اختلاف الخلفيّات الثقافيّة والاجتماعيّة في سلوكيّات الطلّاب الصفّيّة
يأتي الطلّاب إلى الصفّ حاملين موروثًا من القيم والعادات التي اكتسبوها من أسرهم ومجتمعاتهم، ما يجعل الصفّ الدراسيّ مساحة متنوّعة ثقافيًّا واجتماعيًّا. وهذا التنوّع، وإن كان مصدرًا للثراء، قد يُفضي إلى سوء فهم أو صراعات، إذا لم يكن المعلّم واعيًا بالخلفيّات المختلفة التي ينتمي إليها الطلّاب. وتشير بعض الدراسات (Cortina et al., 2017) إلى أنّ اختلاف الخلفيّات قد يُنتج أنماطًا متباينة من التفاعل؛ فبعضهم قد يميل إلى الانسحاب بسبب خجل ثقافيّ أو شعور بالدونيّة، في حين قد يُظهر آخرون سلوكًا متمرّدًا نتيجة شعورهم بعدم القبول.
كما إنّ بعض السلوكيّات التي قد تُعدّ غير ملائمة في سياق معيّن، قد تكون مقبولة في سياقات أخرى، الأمر الذي يجعل من فهم المعلّم لهذه الخلفيّات عاملًا مهمًّا في تفسير سلوكيّات الطلّاب بموضوعيّة. ويُسهم هذا الفهم في بناء علاقات تربويّة قائمة على التفهّم، وتطوير استراتيجيّات تراعي الاختلاف وتُعزّز من الانسجام الجماعيّ. ويُعدّ وعي المعلّم باختلاف الخلفيّات شرطًا لتحقيق عدالة تربويّة داخل الصفّ، وتمكين كلّ طالب من التعبير عن ذاته من دون خوف أو تمييز. كما يُسهم هذا الوعي في تصميم بيئة تُقدّر التنوّع، وتُعزّز من قيم التفاهم والتسامح، ما يُفضي إلى تحسين المناخ المدرسيّ وزيادة فاعليّة التعليم. ومن ثمّ، فإنّ احترام هذا التنوّع لا يُعدّ ترفًا، بل ضرورة مهنيّة وأخلاقيّة في مجتمع تتعدّد فيه الانتماءات والهويّات.
مظاهر الانحراف القيميّ داخل الصفوف المدرسيّة وأسبابها الاجتماعيّة
يُعَدّ الصف الدراسيّ بيئة تعكس الواقع المجتمعيّ، ويُلاحظ فيه تكرار بعض مظاهر الانحراف القيميّ، مثل عدم احترام النظام والتنمّر والغشّ واستخدام الألفاظ غير اللائقة والاستهزاء واللامبالاة والتقصير، كما وردت عند (2012) Sun وShek . وترتبط هذه السلوكيّات بعدد من الأسباب الاجتماعيّة، في مقدّمتها ضعف التنشئة الأسريّة، وغياب الرقابة، والتفكّك، وتأثير الإعلام، ورفاق السوء، والحرمان، والشعور بالتهميش أو الظلم داخل المدرسة أو المجتمع. كما إنّ الفروق الطبقيّة والثقافيّة بين الطلّاب قد تخلق بيئة من التنافس السلبيّ أو العدوانيّة.
ويُؤثّر غياب النماذج الإيجابيّة في محيط الطالب بشكل مباشر، إذ يُفتقد التوجيه القيميّ، ما يُضعف الحسّ بالمسؤوليّة والانتماء. كما يُسهم ضعف العلاقة بين المعلّم والطالب أحيانًا في شعور الطالب بعدم التقدير، وهو ما يُترجم في صورة تمرّد سلوكيّ (أبو خليل، 2011). إنّ فهم هذه المظاهر وتحليل أسبابها، يُعدّ مدخلًا مهمًّا لمعالجتها، بما يعزّز بيئة تعليميّة قائمة على القيم والاحترام المتبادل.
***
إجمالًا، يتبيّن أنّ القيم الاجتماعيّة تشكّل العمود الفقريّ للسلوك الصفّيّ، وهي تُعدّ مرآة لما يكتسبه الطالب من مؤسّسات التنشئة، وعلى رأسها الأسرة والمدرسة. كما إنّ المعلّم، بوصفه فاعلًا محوريًّا، يؤدّي دورًا حاسمًا في تعزيز هذه القيم، جنبًا إلى جنب مع وعيه باختلاف خلفيّات الطلّاب. وتبرز الحاجة إلى معالجة مظاهر الانحراف القيميّ داخل الصفوف، بفهم أبعادها الاجتماعيّة، والتصدّي لأسبابها داخل البيئة الأسريّة أو المدرسيّة أو المجتمعيّة الأوسع. ومن هنا، فإنّ بناء بيئة صفّيّة قائمة على القيم، لا يُعدّ مسؤوليّة فرديّة بل مشروعًا جماعيًّا، تشترك فيه الأسرة والمدرسة والمجتمع، بهدف إعداد جيل يمتلك من الوعي والانضباط ما يؤهّله للمشاركة الفاعلة في بناء مجتمع متماسك ومتوازن قيميًّا
المراجع:
- أبو خليل، فاديا. (2011). إدارة الصفّ وتعديل السلوك الصفّيّ. دار النهضة العربيّة.
- التركي، خالد محمّد. (2025). معوّقات دور المعلّم في تنمية القيم الأخلاقيّة لدى التلاميذ في مرحلة التعليم الأساسيّ من وجهة نظر معلّمي مدارس بلديّة الخمس. مجلّة البحوث الأكاديميّة، 29(1).
- الصالحي، أنس. (2021). أثر الأسرة والمدرسة على دافعيّة التعلّم لدى الطلبة في المدارس الثانويّة. مجلّة أُريد الدوليّة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، 3(5).
دعجة، رندة. (2019). مشاركة الأسرة في العمليّة التعليميّة وأثرها في التحصيل الدراسيّ للمتعلّمين. مجلّة الحداثة، (199-200).
عمر، أمنية. (2022). القيم الاجتماعيّة وعلاقتها بتنشئة الأطفال. مجلّة كلّيّة الآداب بقنا – جامعة جنوب الوادي، (55).
- Cortina, K. S., Arel, S., & Smith-Darden, J. P. (2017). School belonging in different cultures: The effects of individualism and power distance. Frontiers in Education, 2.
- Iqbal, Z., & Zahoor, I. (2024). Students’ behavioral problems in the classroom and coping strategies: Experiences of secondary school teachers. Bulletin of Education and Research, 46(1).
- Sun, R. C. F., & Shek, D. T. L. (2012). Classroom misbehavior in the eyes of students: A qualitative study. The Scientific World Journal.