الحراك اليوميّ للغة
الحراك اليوميّ للغة
2025/12/17
محمّد تيسير الزعبي | خبير مناهج اللغة العربيّة وأساليب تدريسها، ومصمم برامج تدريبيّة - الأردن

تُشعرنا نقرات هواتفنا وأجهزة حاسوبنا بخيانة لغويّة لحروف لغتنا العربيّة، والتي نتصفّحها في منصّات التواصل الاجتماعيّ مليئة بالأخطاء اللغويّة والإملائيّة، وتكتب بلغات غير العربيّة، وتأخذ الصور والرموز فيها مكان الكلمات في التعبير عن المشاعر والأفكار.

هذه المشاهد اليوميّة تدفع اللغويّين وحرّاس اللغة القلقين على اندثارها، إلى اتّهام عامّة الناس بأنّهم الأبواب التي سيدخل منها موت اللغة، أو على الأقلّ، تراجع مرتبتها بين قوائم اللغات المهدّدة بالانقراض. ثمّ ندخل في نقاش حول ضرورة إنقاذ اللغة بوصفها ركن الزاوية في هويّة العرب، والقاسم المشترك الأساس في العروبة، وأنّ التخلّي عنها واستخدام لغة أجنبيّة لا يقرّبنا من الغرب، ولا يجعلنا أرقى وأكثر ثقافة.

بمناسبة احتفالنا باليوم العالميّ للغة العربيّة، سأنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى.

ماذا لو تصالحنا مع منصّات التواصل الاجتماعيّ، وأدوات التكنولوجيا المتنوّعة، وبنينا معها علاقة تقوم على الثقة والمنفعة المتبادلة؟

لقد تراجعت الدعوات التي انطلقت منذ ثلاثة عقود تحذّر من قرب زوال العربيّة واندثارها، بحجّة بُعدها عن التكنولوجيا، وعدم استخدامنا لها بالشكل الكافي. لكنّ الواقع أثبت أنّ استخدام الفصحى هو ما يُعطي أيّ مشروع أدبيّ أو فكريّ أو ثقافيّ هويّته الواضحة، ويقدّمه للجمهور، فالفصحى الوسيلة الأكثر تعبيرًا عن الذائقة اللغويّة. استنادًا إلى هذا الأمر، فإنّه من غير المنطقيّ التضييق على من لا يتحدّثون الفصحى، ولا يعرفون أسماء الحبّ الكثيرة في اللغة أو درجاته، ولا يستسيغون قول "أهيم بك" أو "أنا في أعلى درجات الصبابة الآن"، في سياق اجتماعيّ حقيقيّ ربّما يكون في ساحة جامعة أو حديقة عامّة، بل ربّما يجدون في كلمة "حبّيتك" القدرة الكاملة على حمل مشاعرهم وأحاسيسهم في تلك اللحظة.

فهل استخدام "حبّيتك" والتخلّي عن "الهيام والجوى" يدفع اللغة إلى الانقراض، ويُدخل المستخدمين قفص الاتّهام؟  

أرجو ألّا يُفهم من هذا السياق التنازل عن الضوابط اللغويّة، وأنّها دعوة لميوعة لغويّة، بل هو نوع من تقبّل مستوى لغويّ لا بأس به من عامّة الناس، ممّن لا تسعفهم مستوياتهم اللغويّة على الحديث بفصاحة تليق باللغة. فنحن لا نريد إبعادهم أكثر، بل لعلّ ذلك يشكّل إحدى الخطوات لإطلاعهم على المستويات اللغويّة الأعلى للمفردات التي يظنّون أنّها الوحيدة للتعبير عمّا يريدون.

ظواهر نمّت اللغة

أتاحت منصّات التواصل الاجتماعيّ حرّيّة واسعة للناس جميعًا، يكتبون ويعبّرون ويخوضون النقاشات في الموضوعات كلّها. ومنذ عقد ونصف والساحات لا تهدأ بسبب النزاعات والصراعات، والحراكات الاجتماعيّة متعدّدة الأهداف، وهذا كلّه زاد معجم الناس من المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها عندما يُبدون رأيهم بالشأن الجاري، ويمسكون بما يجدونه متوائمًا مع مستوياتهم الفكريّة، ولو جرّبت وحاولت نصحهم، فإنّك ستواجه برفض يستند إلى أنّ اللغة -برأيهم- ما أقدر على استخدامه لإيصال فكرتي وما أريد قوله.

كي لا ندخل في جدال لا طائل منه، فإنّنا نجد في سيولة اللغة العربيّة واتّساعها مبرّرًا لتلك الفئة التي تبحث في معجم اللغة الواسع، ما يبرّر استخدامها مفردات بسيطة للتعبير عن شؤون عميقة وقضايا جادّة.

دور محوريّ للمعلّمين

الحراك اليوميّ لأبناء اللغة واشتباكهم مع القضايا المجتمعيّة، أخرج الاهتمام اللغويّ من معلّم اللغة العربيّة وحده، وصار مسؤوليّة مشتركة للمعلّمين جميعًا. في حصّة الرياضيّات قد يسمع المعلّم كلمة "هاب" في سياق الخوف من حلّ المعادلات، مع إنّه يدرك أنّها قادمة من سياق حياتيّ تكرّره شاشات التلفزة في سياق تحذير الناس من أمور متنوّعة، حفاظًا على صحّتهم وسلامتهم.

هذا السياق يلزمه مجتمع متفاعل من المعلّمين، إذ سيكون من المفيد تعزيز حصيلة الطالب اللغويّة القادمة من المجتمع والناس والإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، ومن هتاف متكرّر في مباراة كرة قدم، والاتّفاق بين مجموع المعلّمين على تنميته، فالجهد الفرديّ قد لا يُحدث الأثر المطلوب.