في يوم المعلّم الفلسطينيّ تحيّة إلى معلّمي المبادرة.. أبطال المهنة في زمن المقتلة
في يوم المعلّم الفلسطينيّ تحيّة إلى معلّمي المبادرة.. أبطال المهنة في زمن المقتلة
2025/12/16
أسماء رمضان مصطفى | مُعلّمة لُغة إنجليزيّة- فلسطين

في غزّة، في الرابع عشر من كانون الأوّل، لا نحتفل بيوم المعلّم الفلسطينيّ بوصفه مناسبة عابرة أو طقسًا رسميًّا تُلقى فيه كلمات جاهزة، بل نقف عنده وقفة وفاء واعتراف عميق بجميل فئة حملت الوطن على أكتافها حين انهارت الجدران، وحمت الوعي حين استُبيحت الحياة، وبقيت تزرع المعنى في زمن كان فيه البقاء ذاته فعل مقاومة.

المعلّم الفلسطينيّ اليوم ليس موظّفًا يؤدّي واجبًا وظيفيًّا فحسب، بل إنسان يعيش في قلب المعاناة المجتمعيّة بكلّ تفاصيلها القاسية. هو أب أو أمّ، يعاني الفقر والنزوح، وانعدام الأمان الوظيفيّ، وضيق الحال، وقلق الغد. كثيرون منهم فقدوا بيوتهم، أو أحد أحبّتهم، أو مصدر رزقهم، ومع ذلك لم يتخلّوا عن رسالتهم، ولم ينسحبوا من الميدان، بل اختاروا أن يكونوا حيث يجب أن يكونوا: إلى جانب الأطفال والطلبة، حرّاسًا للأمل، وسندًا نفسيًّا، وجسورًا نحو الحياة.

في زمن الحرب والمقتلة، حين تعطّلت المدارس، وتكسّرت المقاعد، وتحوّلت الصفوف إلى ركام، ظهر وجه آخر للمعلّم الفلسطينيّ: وجه المبادرة. معلّمون لم ينتظروا تعليمات، ولم يكتفوا بالشكوى من قسوة الواقع، بل ابتكروا مساحات تعليميّة بديلة في الخيام، وفي مراكز الإيواء، وتحت الأشجار، وعلى ضوء الهواتف، وفي ظلّ انقطاع الكهرباء والإنترنت. علّموا بلا رواتب، وبلا ضمانات، وبلا أدوات كافية، لكنّهم علّموا بقلوبهم، وبإيمانهم بأنّ التعليم خطّ الدفاع الأخير عن الإنسان.

هؤلاء أبطال العمل التطوعيّ الحقيقيّون. لم يحملوا السلاح، لكنّهم حملوا الكلمة. لم يقفوا على الجبهات، لكنّهم وقفوا في مواجهة الجهل والانكسار واليأس. أدركوا أنّ الطفل الذي يُحرم من التعليم اليوم، يُحرم من مستقبله غدًا، وأنّ فقدان المدرسة لا يقلّ خطورة عن فقدان البيت. فكانوا هناك، يرمّمون الروح قبل العقل، ويمنحون الأطفال شعورًا بالثبات وسط الفوضى.

المعلّم الفلسطينيّ في هذه المرحلة ليس ناقل معرفة فقط، بل معالج نفسيّ، وأخ كبير، وأب بديل، وملاذ آمن. يستمع إلى قصص الفقد، ويحتوي نوبات الخوف، ويعيد للطفل ثقته بنفسه وبالعالم. يشرح الدرس وهو يحمل ألمه الشخصيّ، يبتسم وهو مثقل بالحزن، ويزرع الفرح وهو يفتقده. تلك مفارقة موجعة، لكنّها تختصر عظمة هذه المهنة حين تُمارس بضمير وانتماء.

ولا يمكن الحديث عن يوم المعلّم الفلسطينيّ من دون أن نترحّم على شهداء هذه المهنة النبيلة: المعلّمون الذين ارتقوا وهم يؤدّون رسالتهم، أو وهم يحلمون بعودة الصفوف، أو وهم يحمون أبناءهم وطلبتهم. نترحّم على أرواح الطلبة الذين غُيّبت أحلامهم قبل أن تتشكّل، وعلى الدفاتر التي لم تُكمل صفحاتها، والحقائب التي بقيت معلّقة على أبواب بيوتٍ لم تعد قائمة. نترحم على كلّ حلم تعليميّ قُصف، وعلى كلّ عقل واعد أُطفئ نوره ظلمًا.

لقد خسر التعليم الفلسطينيّ الكثير من كوادره، لكن ما لم يخسره هو روحه. روح المعلّم الذي يؤمن أنّ التعليم فعل انتماء، وأنّ الحفاظ على الهويّة يبدأ من الحرف، وأنّ مقاومة المحو تكون بالوعي. لذلك بقي المعلّم الفلسطينيّ وفيًّا لمهنته، حتّى حين خذله العالم، وتجاهلت المؤسّسات معاناته، وباتت حقوقه مؤجّلة أو منقوصة أو مُغيّبة.

في هذا اليوم، لا نطلب للمعلّم الفلسطينيّ مجرّد كلمات شكر، بل اعترافًا حقيقيًّا بقيمته، ودعمًا فعليًّا لصموده، وحماية لكرامته المهنيّة والإنسانيّة. نطالب بحقوقه العادلة، وببيئة تحترم جهده، وبسياسات تعليميّة تراعي الواقع الإنسانيّ القاسي الذي يعيشه، لا أن تزيده عبئًا فوق أعبائه. فالمعلّم المنهك لا يمكن أن يُترك وحيدًا، ولا يجوز أن يُطالَب بالعطاء اللامحدود من دون سند.

ختامًا، نقف اليوم بكلّ احترام وإكبار أمام كلّ معلّم فلسطينيّ مبادر وصامد ومخلص. أمام أبطال المهنة الذين أثبتوا أنّ التعليم في فلسطين ليس وظيفة، بل موقف. أمام أبطال الشغف والانتماء الذين اختاروا أن يبقوا، وأن يعطوا، وأن يؤمنوا، في زمنٍ صار فيه الإيمان فعل شجاعة.

نحيّيكم، وننحني تقديرًا لكلّ ما قدّمتموه في زمن المقتلة، ونقول: أنتم ذاكرة الوطن الحيّة وحرّاسه، وبوصلة مستقبله. كلّ عام وأنتم نبض فلسطين الذي لا ينكسر.