أهمّيّة التحلّي بالأخلاقيّات المهنيّة
أهمّيّة التحلّي بالأخلاقيّات المهنيّة
2025/12/14
نجلاء المحجوب | أستاذة تعليم ابتدائيّ- تونس

أهمّيّة التحلّي بالأخلاقيّات المهنيّة

 

تُعدّ المدرسة أحد أهمّ الأنساق الاجتماعيّة التي تُعنى بتنشئة الأفراد أخلاقيًّا، عن طريق ترسيخ القيم والمبادئ التي يرتضيها المجتمع وتقرّها الدولة، في إطار وظيفتها التربويّة التي لم تعد تقتصر على نقل المعارف فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى بناء الضمير الأخلاقيّ لدى المتعلّمين.

يعتبر المدرّس حجر الزاوية في هذه العمليّة التربويّة، والذي يتوجّب عليه أن يتحلّى بأخلاقيّات مهنيّة تمكّنه من أداء المهامّ المنوطة به على أكمل وجه.

إذا أردنا تعريف أخلاقيّات المهنة، لقلنا إنّها مجموعة المعايير السلوكيّة التي يعتبرها المعلّمون مرجعًا يرشدهم أثناء أدائهم لوظائفهم. وهي من أهمّ الموجّهات المؤثّرة فيهم، لأنّها تشكّل لديهم رقيبًا داخليًّا، وتزوّدهم بأطر مرجعيّة يقيّمون بها أداءهم وعلاقاتهم مع الآخرين، تقويمًا يعينهم على اتّخاذ القرارات الحكيمة التي يحتاجونها، ليكونوا أكثر انسجامًا وتوافقًا مع ذواتهم ومع مهنتهم ومع الآخرين.

وهنا تبرز أهمّيّة التحلّي بالأخلاق المهنيّة، إذ إنّ سلوك المتعلّم كثيرًا ما يكون انعكاسًا مباشرًا لسلوك معلّمه. وقد أشار إلى هذه الحقيقة العلميّة جان جاك روسو، فيلسوف فرنسيّ من أبرز فلاسفة عصر الأنوار، وقد مثّلت أفكاره نقلة نوعيّة في عالم التربية، في مؤلّفه "إيميل"، حين خاطب المعلّمين قائلًا: "كونوا أنفسكم فضلاء صالحين، تنطبع قدوتكم الفاضلة الصالحة في أذهان تلاميذكم". مؤكّدًا بذلك أنّ تحلّي المدرّس بالأخلاق الفاضلة أساس للتربية الناجعة.

ومعلوم أنّ الطفل يتعلّم بالتقليد أكثر ممّا يتعلّم بالتلقين، فهو يتشرّب هدوء معلّمه واتّزانه الانفعاليّ، ويعيد إنتاجه بصور متعدّدة، ويكون نتاجًا له.

لذلك، يجدر بالمدرّس أن ينتبه كثيرًا إلى تصرّفاته وانفعالاته وأقواله، وتعاملاته مع محيطه التربويّ في الفصل وخارجه، بصفته المثل الأعلى لأطفاله.

بالتزام المدرّس بالمعايير التربويّة المرجوّة، من محبّة لتلاميذه، وابتسامة وترحيب بهم عند استقبالهم، وربط أوصال الصداقة معهم في إطار علاقة آمنة وداعمة، وحسن التسيير للأمور الطارئة، وكياسته في فضّ النزاعات وحسن تأطيره للمتعثّرين، ودعم الخجولين والمنطوين بتعزيز ثقتهم بأنفسهم، واحترامه لحقوق الطفل، وترسيخه لقيم المواطنة والديمقراطيّة في الفصل، يكون قد قدّم نموذجًا مثاليًّا لتلاميذه، وأسهم بنسبة كبيرة في ترسيخ تلك السلوكيّات لديهم، وجعلهم يمثّلونها في تصرّفاتهم في مختلف مواقفهم الحياتيّة. كما يكون بذلك قد أسهم في تطوير مهاراتهم الاجتماعيّة وبناء منظومتهم القيميّة.

إنّ كلّ ما ذكرته يدخل ضمن نظريّة التعلّم الاجتماعيّ "النمذجة" لصاحبها بندورا، ألبرت باندورا كندي، أمريكيّ كان بارزًا في علم النفس الاجتماعيّ التربويّ، ويعدّ من روّاد نظريّة التعلّم الاجتماعيّ، وهي نظريّة تربط بين السلوك والعوامل البيئيّة والمعرفيّة، وتقوم على أن يكون المدرّس مثالًا لتلاميذه، وأن يتخيّر لهم نماذج أخرى مثاليّة تعزّز السلوك المرغوب فيه، وتستطيع جذب انتباههم وتحفيزهم على تقليدها والاقتداء بها، مثل بطل في قصّة مشوّقة، وأبطال من التاريخ العريق لحضارتنا الإسلاميّة. كما تدعو المتعلّم إلى إبداء الرأي في سلوكيّات هؤلاء الأبطال، بمدحها أو نقدها، وبالتالي ترسيخ قيمة أو سلوك في ذهنه.

أمّا إذا كان المدرّس غير ملتزم بتلك الأخلاقيّات، فمهما حاول تلقينها لتلاميذه وغرسها في عقولهم، فلن تستطيع تجاوز حناجرهم والوصول إلى قلوبهم. قد يحفظونها عن ظهر قلب حتّى يجتازوا الامتحان بنجاح، ولكن على أرض الواقع، لن نجد إلّا تلك السلوكيّات التي شاهدوها أو تأثّروا بها.

وكذلك يعتبر التحلّي بالأخلاقيّات المهنيّة ضروريّ للمدرّس، من أجل إرساء علاقة تعاون وتكامل مع جميع مكوّنات الأسرة التربويّة، من زملاء وإدارة وفريق بيداغوجيّ ومشرفين، لضمان جودة العمليّة التربويّة، وتحقيق الأهداف التربويّة المنشودة.

تلك الأخلاقيّات تساعد في تأسيس علاقة شراكة وتواصل مع أولياء الأمور، يستغلّها المدرّس لمتابعة تقدّم منظوريه، وحثّ أولياء الأمور على مرافقة أبنائهم في أعمالهم، وتشجيعهم على إنجازها، وتذليل بعض الصعوبات التي قد تعترضهم، مؤازرةً لمجهود المدرسة.

***

إنّ مهنة التدريس ليست مجرّد وظيفة لنقل المعارف، بل رسالة أخلاقيّة وإنسانيّة تستدعي من المدرّس أن يكون نموذجًا يُحتذى به في السلوك والقيم. وحتّى تنطبع قدوته الصالحة في نفوس أبنائه، عليه أن يحبّ مهنته، وأن يكون مثالًا وقدوة حسنة يحتذي بها محيطه الاجتماعيّ.

فبقدر التزامه بهذه الأخلاقيّات، يكون التعليم ناجعًا وذا جودة عالية، وأداة فاعلة في بناء المواطن الصالح وتنمية المجتمع.