لطالما اعتُبر الكتاب المدرسيّ حجر الأساس في العمليّة التعليميّة التعلّميّة من المنظور التقليديّ؛ فهو يمثّل المصدر الرئيس للمعلومات والمحتوى التعليميّ المنظّم. في السنوات الأخيرة، بدأت المكانة الحقيقيّة للكتاب المدرسيّ تتراجع تدريجيًّا في معظم الأنظمة التعليميّة، مقارنة بالأدوات التعليميّة الرقميّة والوسائط المتعدّدة. ففي ظلّ الثورة الرقميّة والتحوّلات السوسيو ثقافيّة والاجتماعيّة التي يعيشها العالم حاليًّا، بدأت تظهر تساؤلات جدّيّة حول ملاءمة الكتاب المدرسيّ وفعّاليّته، في زمن تتسارع فيه وتيرة الابتكار وتتنوّع مصادر المعرفة. وقد أثارت هذه التحوّلات جدلًا واسعًا بين الباحثين والممارسين التربويّين حول مصير الكتاب المدرسيّ، ومدى إمكانيّة تجاوزه بنماذج تعليميّة أكثر ديناميكيّة وتفاعليّة. إذ يؤكّد العديد من الباحثين أنّ تراجع مكانة الكتاب المدرسيّ ليس نتيجة عامل واحد، بل ظاهرة متعدّدة الأبعاد، تتداخل فيها الاعتبارات التكنولوجيّة والتربويّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. نستعرض هنا هذه الأبعاد التي أدّت إلى التخلّي التدريجيّ عن الاعتماد الحصريّ على الكتاب المدرسيّ في العمليّة التعليميّة.
الكتاب المدرسيّ: من حجر الأساس البيداغوجيّ إلى أداة متقادمة
طيلة القرن الماضي، كان يُنظر إلى الكتاب المدرسيّ باعتباره الوسيلة الأساسيّة لنقل المعارف المنظّمة، إذ كان المحتوى التعليميّ يُبنى على أسس علميّة تُدرّس وفق مناهج محدّدة ومعتمدة رسميًّا. أسهم هذا النموذج في بناء قاعدة معارف مجتمعيّة متجانسة. على الرغم من النجاحات التي حقّقها الكتاب المدرسيّ بصفته أداة بيداغوجيّة في مراحل تاريخيّة سابقة، بدأت تظهر صعوبات واضحة مع تطوّر المجتمع؛ إذ يُؤكّد العديد من التربويّين على أنّ الكتاب المدرسيّ يُعدّ وثيقة جامدة، لا تُواكب نسق التطوّرات العلميّة السريعة (Gerard, 2010 ; Barré, 1972 ; Lebrun, 2007). يؤكّد باولو فريري على أنّ التعليم الذي يقتصر على نقل المعلومات الثابتة لا يمكن أن يحرّر العقول، ولا أن يلبّي تطلّعات الأجيال الجديدة (Freire, 1970).
ما سبب تراجع مكانة الكتاب المدرسيّ؟
التطوّر التكنولوجيّ والرقميّ
أدّى التطوّر التكنولوجيّ الحاصل في العقدَين الأخيرَين إلى ظهور وسائل تعليميّة رقميّة متعدّدة الوسائط، توفّر محتوى تفاعليًّا ومتجدّدًا بشكل مستمرّ. فقد أصبح بإمكان المتعلّم الوصول إلى قواعد بيانات ضخمة، ودروس مصوّرة، وكتب رقميّة، ومنصّات تعلّم إلكترونيّة مفتوحة تُحدّث المحتوى التعليميّ بشكل دوريّ. هذا الوضع قلّل من الاعتماد على الكتب المدرسيّة المطبوعة التي لا تتجدّد سريعًا، ولا سيّما أنّ وتيرة التجديد ومواكبة الأحداث في الكتاب المدرسيّ، ترتبط عادة بعمليّات إصلاح المناهج، والتي قد تمتدّ من عشرة أعوام إلى 30 عامًا في بعض المنظومات التربويّة. بالتالي، لم يعد الكتاب المدرسيّ في نسخته الورقيّة المصدر الوحيد للمعرفة في عصر المعلومات؛ بل أصبح الإنترنت والمنصّات التفاعليّة العنصر الأساس في تشكيل المحتوى التعليميّ (Kozma, 2003)، إضافة الى أدوات الذكاء الاصطناعيّ المتاحة والمجّانيّة التي انتشرت مؤخّرًا.
التحوّلات الثقافيّة والتربويّة
يرتبط تراجع مكانة الكتاب أيضًا بتغيّر الأنماط التعليميّة والثقافيّة. فالمدرسة المعاصرة تركّز على التعلّم التشاركيّ والنقديّ، بدلًا من التعليم التقليديّ القائم على الحفظ والتلقين والنقل السلبيّ للمعلومات. يعكس هذا التحوّل الرغبة في إعداد متعلّمين قادرين على التفكير الإبداعيّ وحلّ المشكلات، بدلًا من تكرار المعلومات المنسوخة من الكتب. وكما أوضح كولينز وهلفرسن (2009 ,Collins & Halverson)، تتطلّب أساسيّات التعليم الحديث نماذج متفاعلة، تسمح بتكييف المعرفة مع الاحتياجات الفرديّة للمتعلّمين، ما يجعل الاعتماد على الكتاب المدرسيّ أمرًا محدود الفعّاليّة.
رهانات اقتصاديّة وسياسيّة
تُعدّ السياسات التربويّة والاستراتيجيّات الاقتصاديّة عاملًا حاسمًا في إعادة هيكلة العمليّة التعليميّة التعلّمية. إذ تؤدّي الحاجة إلى خفض النفقات التشغيليّة، والاعتماد على مصادر مرنة تتّفق مع توجّهات السوق، إلى تقليل الاستثمارات في الطباعة والتوزيع التقليديّ للكتب المدرسيّة، تماهيًا مع أسس الاقتصاد الأخضر والتنمية المُستدامة. بالإضافة إلى ذلك، يُمكّن تبنّي استراتيجيّات التعليم المفتوح والمصادر المفتوحة المؤسّسات التربويّة من توفير محتوى تعليميّ مجّانيّ ومتجدّد بصفة مستمرّة.
التحوّل الرقميّ حلًّا بديلًا: الفرص والتحدّيات
إمكانيّات وتسهيلات التقنيّة الرقميّة
توفّر التقنيّات الرقميّة إمكانيّات غير محدودة لنقل المعلومات والتفاعل مع المحتوى التعليميّ عبر شبكة الإنترنت، إذ يُمكن للمؤسّسات التعليميّة تحديث المحتوى بصورة دوريّة، وتكييفه ليتناسب مع مستويات مختلفة من التعلّم. كما تُتيح أدوات التعلّم التفاعليّ إمكانيّة متابعة تقدّم المتعلّم بشكل فرديّ. ويضيف كوبان أنّ استخدام التكنولوجيا في الفصول الدراسيّة ليس مجرّد خيار، بل ضرورة باتت تفرضها سرعة تغيّر متطلّبات العصر (Cuban, 2001).
صعوبات التحوّل إلى المصادر الرقميّة
يواجه التحوّل من الكتاب المدرسيّ الورقيّ إلى نظيره الرقميّ تحدّيات ملحوظة، منها تفاوت الكفايات الرقميّة بين المتعلّمين، وضبط جودة المحتوى الإلكترونيّ المقدّم، واستمراريّة الدعم الفنّيّ والتكنولوجيّ في المدارس، وتباين إمكانيّات المدرّسين في مجال التكنولوجيّات الحديثة. كما يثير هذا الانتقال تساؤلات حول الحفاظ على الهويّة الثقافيّة للمناهج، وضمان نزاهة المعلومات المنقولة. في السياق نفسه، تبرز تحدّيات دمج التقنيّات الحديثة في النظام التعليميّ، فتشمل الحاجة إلى تأهيل المعلّمين، وتحديث البُنى التحتيّة، ما يتطلّب رؤى وسياسات شاملة لتأمين ذلك (Crawford & Jenkins, 2017).
تراجع الكتاب المدرسيّ والتحوّل في نمط التعليم
يظهر جليًّا أنّ التخلّي التدريجيّ عن الكتاب المدرسيّ لا يعني بالضرورة إلغاء الخلفيّة النظريّة التي يمثّلها، بل يشير إلى تحوّل في دور المصادر التعليميّة، من كونها مرجعيّة ثابتة إلى أدوات دعم للتعلّم التفاعليّ. ففي هذا السياق، يُمكن اعتبار الكتب المطبوعة مرجعًا تاريخيًّا وثقافيًّا يُستدعى عند الحاجة، بينما تُوظّف المصادر الرقميّة لتقديم تجارب تعليميّة تفاعليّة وتوضيحيّة. كما أنّ نجاح العمليّة التعليميّة التعلّميّة يتوقّف على قدرة المؤسّسات على تنويع مصادر المعرفة، بحيث يُمكن للمتعلّم الانتقال بسهولة بين المحتوى الثابت والمحتوى التفاعليّ - الديناميكيّ. هذا التعدّد في المصادر يُسهم في تكوين بيئة تعليميّة شاملة، تدمج بين الثبات والمرونة. كما يتطلّب التعليم في القرن الحادي والعشرين نظامًا تعليميًّا يوازن بين الثقة في المصادر التقليديّة والابتكار في استخدام التكنولوجيا، لتقديم محتوى ملائم ومتجدّد (Crawford & Jenkins, 2017). في نهاية المطاف، يُعيد تراجع مكانة الكتاب المدرسيّ تعريف دور المعلّم في الفعل التعليميّ، من ناقل للمحتوى المعرفيّ إلى مشرف وميسّر للعمليّة التعليميّة، إذ يضمن المعلّم في ظلّ هذا التحوّل تقديم الدعم في استخدام المصادر الرقميّة، وتوجيه المتعلّم نحو التحقّق الناقد للمعلومات، ما يُحدث تحوّلًا جذريًّا في ممارسات التدريس.
التحدّيات المستقبليّة والآفاق المقترحة
الحاجة إلى سياسات تربويّة حديثة
يتطلّب الانتقال التدريجيّ من الكتاب المدرسيّ إلى المصادر الرقميّة المختلفة، مثل الكتاب الرقميّ، ومنصّات التعلّم الإلكترونيّة المفتوحة، والدروس المصوّرة، صياغة سياسات تربويّة حديثة ومتكاملة؛ تأخذ بعين الاعتبار الفجوة الرقميّة، وكفايات المعلّمين في مجال التكنولوجيّات الحديثة، وضمان استمراريّة الجودة في المحتوى التعليميّ. تطوير هذه السياسات يقوم على أبحاث ميدانيّة وتجارب حقيقيّة في الفصول الدراسيّة، لتحديد الممارسات الفُضلى. كذلك، من المهمّ جدًّا البحث عن نموذج تعليميّ يدمج بين الكتاب المدرسيّ الورقيّ والمصادر الرقميّة المتاحة حاليًّا، بما يُتيح ما يوفّره الكتاب من قيم الاستقرار والتراث، إلى جانب ما تقدّمه التقنيّات الحديثة من مرونة وديناميكيّة. بالتالي، وبتعزيز التكامل بين المصادر التقليديّة والرقميّة، يصبح الكتاب المدرسيّ مفتاحًا لترسيخ الأسس التعليميّة، بينما تُعتبر المصادر الرقميّة أدوات لتوسيع دائرة المعارف والكفايات والخبرات لدى المتعلّم.
رؤية استشرافيّة في مستقبل التعليم
في الآونة الأخيرة، بدأت تظهر تجارب ناجحة للنماذج التعليميّة التي تقلّل من الاعتماد على الكتب المطبوعة، لصالح مناهج تفاعليّة رقميّة. يشير كولينز وهلفرسن (Collins & Halverson, 2009) إلى أنّ التعليم المتجدّد قائم على دمج التكنولوجيا في قاعات التدريس، ما يعزّز من قدرة المتعلّم على التفاعل والتحليل النقديّ والتفكير العقلانيّ، ويمهّد الطريق مستقبلًا للتعليم الرقميّ. وعلى ضوء ذلك، على الباحثين وصنّاع القرار التوسّع في التجارب الميدانيّة، لدراسة تأثيرات هذه التحوّلات في جودة التعليم وإنتاجيّته.
***
خلاصة القول، يأتي تراجع مكانة الكتاب المدرسيّ والتخلّي عنه تدريجيًّا نتيجة تحوّلات متشابكة، تشمل التطوّر التكنولوجيّ، والتحوّلات الثقافيّة والتربويّة والسياسيّة والاقتصاديّة. وعلى الرغم من أنّ الكتاب المدرسيّ ما فتئ يحتفظ بدوره التاريخيّ والثقافيّ بصفته مرجعًا رئيسا للمعرفة، إلّا أنّ التعليم الحديث يتّجه بشكل متسارع نحو بيئات تعليميّة تفاعليّة تكنولوجيّة، تُلبّي احتياجات المتعلّمين في عصر الديجيتال. في المقابل، تتطلّب استجابة المؤسّسات التعليميّة خاصّة والنظم التربويّة عامّة لهذه التحدّيات والسياقات، تبنّي سياسات تربويّة حديثة توازن بين الحفاظ على تراث المعرفة، وتوظيف أدوات التعليم الرقميّ لعصرنة التدريس والتعلّم. وفي هذا السياق، تبرز أهمّيّة البحوث والتجارب الميدانيّة، لتحديد أفضل النظم التعليميّة التي تضمن نقل المعرفة بكفاءة، وتحفّز الإبداع والابتكار لدى الناشئة. ويبقى مستقبل التعليم معتمدًا على قدرتنا على إعادة تعريف دور الكتاب المدرسيّ في ظلّ تنوّع المصادر التعليميّة ومرونتها، ما يستدعي تعاونًا مشتركًا بين الباحثين والمدرّسين ومهندسي البرامج وصانعي السياسات التربويّة، لتحقيق نموذج تعليميّ يتناسب مع تحدّيات القرن الحادي والعشرين.
المراجع
- - Freire, P. (1970). Pedagogy of the Oppressed. New York: Continuum Books.
- - Kozma, R. B. (2003). Technology and classroom practices: An international study. Journal of Research on Technology in Education. 36. 1–14.
- - Collins, A., & Halverson, R. (2018). Rethinking Education in the Age of Technology: The Digital Revolution and Schooling in America. Teachers College Press.
- - Cuban, L. (2001). Oversold and Underused: Computers in the Classroom. Harvard University Press.
- - Crawford, R., & Jenkins, L. (2017). Blended learning and team teaching: Adapting pedagogy in response to the changing digital tertiary environment. Australasian Journal of Educational Technology. 33(2).
- - Gerard, F-M. (2010). Le manuel scolaire, un outil efficace, mais décrié. Éducation & Formation. e 292, 13-24.
- - Lebrun, M., (dir.). (2007). Le manuel scolaire d’ici et d’ailleurs, d’hier à demain. Presses de l’Université du Québec.