تخيّل لو أنّ أفلاطون، الفيلسوف الذي أسّس الأكاديميّة الأولى في أثينا، استيقظ في عالمنا الرقميّ اليوم ليُدَرِّس مجدّدًا. كيف سيتعامل مع الفصول الافتراضيّة، والذكاء الاصطناعيّ، ومنصّات التعلّم على الإنترنت؟ هل سيقبل بفكرة أنّ "المعلّم" قد يكون روبوتًا؟ أم إنّه سيرى في هذا العصر فرصة لإحياء فلسفته التعليميّة بأسلوب جديد؟
التعليم في عصر أفلاطون: البحث عن الحقيقة
كان أفلاطون في أكاديميّته يؤمن بأنّ التعلّم ليس مجرّد تلقّي المعلومات، بل رحلة بحث عن الحقيقة؛ من خلال الحوار والتأمل. كان يرفض التلقين، ويرى أنّ دور المعلّم توجيه العقل نحو التفكير النقديّ، وليس فقط تزويده بالمعرفة الجاهزة.
لكن، ماذا لو رأى طلّاب اليوم يتعلّمون عبر فيديوهات يوتيوب، ويستخدمون الذكاء الاصطناعيّ لحلّ واجباتهم، ويعتمدون على جوجل بدلًا من عقولهم؟ هل سيرى في ذلك تدهورًا في الفكر الإنسانيّ أم ثورة تعليميّة تستحقّ الاهتمام؟
أفلاطون في مواجهة التعليم ما بعد الرقمنة
إذا دخل أفلاطون إلى صفّ دراسيّ حديث، سيجد مشهدًا غريبًا:
- طلّاب يحضرون الحصّة من منازلهم عبر الميتافيرس.
- معلّمون رقميّون يعملون بتقنيّات الذكاء الاصطناعيّ، يجيبون عن الأسئلة فورًا.
- مناهج مخصّصة لكلّ طالب بناءً على تحليل بياناته الشخصيّة، وسرعة استيعابه.
لكن، على رغم هذا التقدّم التكنولوجيّ، قد يتساءل: هل فقد الإنسان دوره في العمليّة التعليميّة؟ هل أصبح الطلّاب مجرّد متلقّين للمعلومات من دون أن يطوّروا مهارات التفكير النقديّ والفلسفيّ التي نادى بها؟
هل الذكاء الاصطناعيّ يمكن أن يكون سقراط الجديد؟
اعتمد أفلاطون حواراته على أسلوب أستاذه سقراط في التعلّم، عن طريق التساؤل المستمرّ للوصول إلى الحقيقة. اليوم، لدينا أنظمة ذكاء اصطناعيّ؛ مثل ChatGPT قادرة على الإجابة عن أيّ سؤال في ثوانٍ، بل وتحليل المعلومات بطرق غير مسبوقة.
لكن، هل يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن يكون "سقراط الرقميّ" الذي يحفّز الطلّاب على التفكير النقديّ؟ أم إنّه مجرّد آلة تعيد إنتاج المعرفة من دون إضافة أيّ بعد فلسفيّ أو إنسانيّ؟
ما الذي سيثير إعجاب أفلاطون؟
على رغم مخاوفه، قد ينبهر أفلاطون ببعض الجوانب الإيجابيّة لهذا العصر:
- التعليم الديمقراطيّ: لم يعد الوصول إلى المعرفة حكرًا على نخبة معينة؛ فبضغطة زرّ، يستطيع أيّ شخص في أيّ مكان في العالم، التعلّم من أفضل الجامعات مجانًا.
- التعلّم القائم على التجربة: بدلًا من الكتب الجامدة، أصبح بإمكان الطلّاب خوض تجارب تعليميّة تفاعليّة، من خلال الواقع الافتراضيّ؛ مثل: دخول معمل كيميائيّ ثلاثيّ الأبعاد، أو استكشاف الفضاء من داخل الفصل الدراسيّ.
- إلغاء التلقين: بفضل أدوات التعلّم الحديثة، لم يعد الطالب مجرّد متلقٍّ، بل أصبح مشاركًا في العمليّة التعليميّة؛ ما يتماشى مع مبادئ أفلاطون في البحث عن المعرفة.
التحدّيات: هل فقدنا روح الحوار؟
لكن، قد يشعر أفلاطون بالقلق من شيء آخر: هل أدّى الاعتماد على التكنولوجيا إلى تراجع قيمة الحوار الحقيقيّ بين الطلّاب والمعلّمين؟ هل تلاشت الحوارات الفلسفيّة العميقة لصالح مقاطع فيديو قصيرة و "تحدّيات التيك توك"؟
قد يدعو أفلاطون إلى إعادة دمج الفلسفة في المناهج الرقميّة، بحيث لا يكون التعلّم مجرّد اكتساب مهارات تقنيّة، بل وسيلة لفهم العالم بشكل أعمق.
لو كان أفلاطون يدرّس اليوم
ربّما لو كان أفلاطون بيننا اليوم، لما رفض الرقمنة بالكامل، لكنّه كان سيطالب باستخدامها بحكمة. كان سيدعو إلى دمج التكنولوجيا مع الفلسفة، بحيث لا تكون مجرّد أداة لنقل المعرفة، بل وسيلة لتعزيز التفكير النقديّ، وتحفيز النقاش، وخلق جيل لا يعتمد فقط على الذكاء الاصطناعيّ، بل يمتلك الذكاء الفلسفيّ أيضًا.
فهل نحن مستعدّون لنأخذ دروسًا من أفلاطون في عصر ما بعد الرقمنة؟



