التقييم: أفكار وممارسات
يستغرق التقييم جزءًا كبيرًا من نقاشاتنا التربويّة لما يلعبه من دور في فرز الطلّاب وترتيبهم من الأفضل إلى الأقلّ، بناءً على أحكام يطلقها المعلّمون والمعلّمات. قد يكون هذا الفرز مبنيًّا على تقييم واحد أو عدّة تقييمات في مبحث واحد أو أكثر، ولكن، مهما اختلفت
التقييم: أفكار وممارسات
يستغرق التقييم جزءًا كبيرًا من نقاشاتنا التربويّة لما يلعبه من دور في فرز الطلّاب وترتيبهم من الأفضل إلى الأقلّ، بناءً على أحكام يطلقها المعلّمون والمعلّمات. قد يكون هذا الفرز مبنيًّا على تقييم واحد أو عدّة تقييمات في مبحث واحد أو أكثر، ولكن، مهما اختلفت
أليس عبود | مديرة مدرسة الأهليّة والمطران - الأردن

يستغرق التقييم جزءًا كبيرًا من نقاشاتنا التربويّة لما يلعبه من دور في فرز الطلّاب وترتيبهم من الأفضل إلى الأقلّ، بناءً على أحكام يطلقها المعلّمون والمعلّمات. قد يكون هذا الفرز مبنيًّا على تقييم واحد أو عدّة تقييمات في مبحث واحد أو أكثر، ولكن، مهما اختلفت نظرتنا إلى موضوع التقييم يبقى في النهاية توصيفًا للمتعلّم، ويُقرَّر من خلاله نجاح الطالب أو رسوبه في المهمّة المعنيّة، ومدى جدارته لتحقيق التقدّم في المادّة أو المدرسة أو الانتقال منها إلى الجامعة.

نطلق هذا الحكم على الطلّاب لمعرفة قدراتهم أو قيمهم أو مهاراتهم، فأهمّيّة التقييم تكمن في أنّه يقرّر مصير الطلّاب، كما يقرّر، في المراحل الدراسيّة العليا، إمكانيّة استمرار الطالب في مسار أكاديميّ محدّد أو في مسارات أخرى تتطلّب معارف ومهارات أقلّ من المهارات المطلوبة في المسارات الأكاديميّة، وتتربّع مسارات الطبّ والهندسة والصيدلة في مجتمعاتنا العربيّة على قمّة الهرم، فالطلّاب الذين يحصلون على أعلى العلامات في التقييمات والامتحانات النهائيّة، يلتحقون بهذه التخصّصات، أمّا غيرهم فيلتحقون بكليّات العلوم الإنسانيّة والآداب وغيرها.

هناك تراتبيّة يفرضها المجتمع علينا، وفق ما شكّلناه فيه بقيمنا وأفكارنا، حيث وضعنا الرياضيّات والعلوم في أعلى الهرم، ووضعنا الطلّاب المتميّزين فيهما في مرتبة أعلى من غيرهم، بناءً على نيلهم علامة مرتفعة في اختبارات نهاية السنوات الدراسيّة في المرحلة الثانويّة.

 

أصبحنا نفاخر بأنّنا طوّرنا من آليّات التقييم وأشكاله ومفاهيمه في ممارساتنا التربويّة الحديثة، فنتحدّث اليوم عن التقييم التكوينيّ الذي يجري خلال عمليّة التعلّم، ويهدف إلى مساعدة المعلّم على مراجعة عمليّة التعليم عن طريق جمع أدلّة ومعلومات تسهم في تطويرها. يشار إلى ذلك بالتقييم من أجل التعلّم، وهناك أيضًا التقييم النهائيّ الذي يتمّ قياسه وفق معايير معيّنة يقتضيها المنهاج أو يضعها المعلّم. ونتحدّث، كذلك، عن مفهوم التقييم وسيلةً للتعلّم، يستخدم فيها الطالب أسلوب تقييم ذاتيّ، يقرّر من خلاله ماذا يعرف أو ماذا يستطيع أن يفعل، فيصبح المتعلّم قادرًا على تقييم نفسه، وتحليل ما يمكنه القيام به، فضلًا عن مواطن قوّته وضعفه.

على الرغم من التمايز في أنواع التقييم ومفاهيمه، أرى أنّ مفهوم التقييم ينطلق من النظرة إلى العالم من منظار وضعيّ أو ما بعد وضعيّ، يرتكز على أنّ الحقيقة موجودة باستقلاليّة خارج المتعلّم، ويستطيع المعلّم أو الباحث ملاحظتها وقياسها بتدوين ملاحظات موضوعيّة غير متحيّزة، ولا مجال فيها للشخصنة. هناك أيضًا العديد من المدارس والنظريّات التربويّة التي بحثت في نظريّات التعلّم، مثل النظريّة السلوكيّة، التي تنظر إلى المتعلّم على أنّه مركز للذاكرة، وتنظر إلى عمليّة التعليم على أنّها عمليّة تكرار للمادّة المرغوب في تعلّمها كثيرًا، وعند تعلّمها ينال المتعلّم مكافأة.

أمّا النظريّة الإدراكيّة، فترى أنّ التعلّم يعتمد على عوامل خارجيّة وعمليّات ذهنيّة داخليّة، تحوّل المتعلّم إلى معالج معلومات، يعالج المعلومات ثمّ يخزّنها في الذاكرة. أما النظريّة البنائيّة فتعتبر أنّ المتعلّم يبني أفكاره على التجارب السابقة، وبالتالي، يلعب دورًا نشطًا في عمليّة التعلّم، ويتعلّم عن طريق مشكلات واقعيّة حقيقيّة. لكن، بالرغم من سعي هذه النظريّات إلى إشراك المتعلّم في عمليّة التعلّم، وإعطائه مساحة لاتخاذ القرار، والانتقال من دور المتلقّي السلبيّ إلى الدور الفاعل، إلّا أنّه في النهاية نجد أنّ المعلّم يقوم بكلّ شيء، فهو الذي يخطّط للتعلّم، ويضع الاستراتيجيّات وينفّذها، ثمّ يقيّم المخرجات. خلاصة ذلك، أنّ المعلّم يسيطر على عمليّة التعلّم، بدلًا من تقديم الدعم للطلّاب، وبدلًا من أن يلعب الطالب دور القائد في رحلة التعلّم.

 

إنّ أشدّ سلبيّات التقييم أنّه يرفع من درجة التوتّر عند المتعلّم، وكلّما زادت درجة التوتّر زادت أهميّة التقييم في تقرير المصير. وبالتالي، تؤدّي هذه العمليّة إلى التقليل من دافعيّة المتعلّم، حتى يصبح هدفه الحصول على العلامة (المكافأة)، وهذا، بحسب الأبحاث التربويّة (Kohn, 2000; 2006)، ما يجعل التعلّم سطحيًّا، كما أنّ المعلّم يتّجه إلى إحالة نجاحه أو فشله إلى قدرات داخليّة قد تكون وراثيّة أو جينيّة، وليس إلى الوقت والجهد المبذولين في التحفيز على عمليّة التقييم. والسؤال هنا: هل نستطيع الاستغناء عن عمليّة التقييم؟ أطلق المفّكر والتربويّ November (2012) سؤالاً: من يمتلك التعلّم؟ والإجابة على هذا السؤال بديهيّة لا تتطلّب منّا تغيير عمليّة التقييم فحسب، وإنّما تتطلّب تغيير تعاملنا مع عمليّة التعلّم، فنستطيع عندها منح مساحات أكبر للمتعلّمين في تقرير ما يرغبون في تعلّمه. عندها يستطيع المعلّم أن يلعب دور الميسّر أو الداعم لعمليّة التعلّم، وتقديم النصح والإرشاد للمتعلّم.  

عندما يتغيّر مفهوم عمليّة التعلّم من مرجعيّة تتحكّم بالمعرفة، وتقرّر كيفيّة نقلها، وتقيّم مدى نجاح المتعلّم في اكتساب المعرفة والمهارة والقيم، إلى عمليّة يتعاون فيها المتعلّم مع المعلّم، ويقرّران من خلالها المحطّات التي يتوقّفان عندها لتقييم المسار معًا. يصبح التقييم عمليّة احتفاء بالتعلّم وليس عقابًا لمن لا يستطيع أن يحشر نفسه في قالب صمّمه الآخرون.

 

في النهاية، أرى أنّ هناك تطوّرًا في نظريّات التعلّم، وفي رؤيتنا للعالم من خلالها، ولكن، بقي التقييم، في أحسن أشكاله، خاضعًا إلى النظرة الوضعيّة التي تدّعي أنّ مخرجات عمليّة التعلّم قابلة للقياس والتقييم كنتاجات مستقلّة عن المتعلّم وعمليّة التعلّم التي تحدث في داخله، والتي لا بدّ أن يكون لها معنى. يساعدنا هذا القياس، في النهاية، على بناء معلومات تعيننا في الحكم على المتعلّم، كما يمكن أن يصبح تقييم عمليّة التعلّم بطرق تجريبيّة تؤكِّد أو تدحض نظريّة نطبّقها على المتعلّمين، أو نحكم عليهم من خلالها. لذلك يجب أن نسعى إلى تطوير عمليّة التقييم ونقلها من المعلّم إلى المتعلّم، كي نبتعد كلّ البعد عن إطلاق أحكام على قدرات المتعلّمين ومهاراتهم ومعارفهم. وقد يبدأ ذلك عندما تغيّر الجامعات طرق قبولها للطلّاب، إذ تتحكّم سياسات القبول بقدرة المدارس على تغيير نظرة الطلّاب والأهل والمعلّمين إلى عمليّة التقييم والاهتمام بالعلامة، والسعي إلى الحصول على أعلى المعدّلات لدخول التخصّصات المرغوب فيها، وثمّة أمثلة كثيرة لطرق مختلفة للقبول في الجامعات، ولكنّ ذلك حديث آخر. 

 

 

المراجع: 

Kohn, A. (2000). The Case against Standardized Testing: Raising the Scores, Ruining the Schools. Heinemann.

Kohn, A. (2006). The Trouble with Rubrics. English Journal, 95 (4).  https://www.alfiekohn.org/article/trouble-rubrics/.

November, Alan C. (2012). Who Owns the Learning? Preparing Students for Success in the Digital Age. Solution Tree Press.