التعليم في غزّة: جيل على هامش الذاكرة وحرف يُنسف تحت الركام
التعليم في غزّة: جيل على هامش الذاكرة وحرف يُنسف تحت الركام
2025/06/30
شريهان بكرون | معلّمة لغة إنجليزيّة- فلسطين

في غزّة، لا تشبه الطفولة ما يُدرّس في كتب علم النفس، ولا يُقاس العام الدراسيّ بتقويم وزارة التربية والتعليم، بل يُقاس بعدد الفصول التي لم تبدأ بعد، وعدد المعلّمين والطلبة الذين باتوا أسماءً على جدران الذاكرة.

في غزّة، لا تُقرع أجراس المدارس، بل تُقرع أجراس الإسعاف. لا تُفتح الكتب، بل تُفتح بيوت العزاء. ولا تكتمل الفصول الدراسيّة إلّا على الورق، إذ يمرّ كلّ فصل في ظلّ هذه الحرب، ويخلّف وراءه فاقدًا تعليميًّا وسلوكيًّا وتربويًّا لا يُقاس بالدرجات، بل بالخذلان.

سنواتٌ من الحروب والحصار وكورونا، وها هي الحرب الأخيرة تمضي في طريقها لتمزيق ما تبقّى من بنية تعليميّة هشّة أصلًا. آلاف الطلبة اليوم خارج مقاعد الدراسة، لا لأنّهم تخلّفوا عن الحضور، بل لأنّ المدارس نفسها غابت: دُمّرت، أو أُغلقت، أو تحوّلت إلى ملاجئ للنازحين. والكوادر التعليميّة، من كان منهم حيًّا، فهو إمّا نازح، أو مفجوع، أو مكلوم.

لقد أصبح التعليم هنا مسألةً وجوديّة؛ فجيشٌ من الأطفال الذين حُرموا من مدارسهم عبر السنوات، بسبب العدوان والحصار وكورونا، ثمّ الكارثة الأخيرة، لا يمكن أن يُلحقوا بركب العالم بمجرد رابط إلكترونيّ أو تطبيق هاتف. ما فُقد ليس منهاجًا فقط، بل جيلًا بأكمله يوشك أن يُنسى.

في هذه الظروف الخارجة عن حدود الاحتمال، تحاول وزارة التربية والتعليم ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) إشعال شمعةً وسط العتمة، من خلال إطلاق التعليم الإلكترونيّ بديلًا وحيدًا ممكنًا. هي محاولة لا تُنكر، بل تُثمّن، لأنّها لا تهدف إلى تعويض ما لا يُعوّض، بل إلى لملمة ذرّات من الفاقد، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مستقبلٍ كاد يُجهض.

في زمن غابت فيه المدارس وتحوّلت إلى ملاجئ، وتقطّعت فيه السبل، وتاه فيه المعلّمون والطلبة على حدّ سواء بين النزوح والفقد، لم يكن أمام الوزارة والوكالة سوى خيار التعليم عن بُعد. ومع كلّ العوائق، من انقطاع الكهرباء، وغياب الإنترنت، وانعدام الأجهزة، اختارت هذه الجهات ألّا تستسلم للصمت. قدّمت ما استطاعت من منصّات ودروس وموادّ تعليميّة، عسى أن تصل إلى طالب هنا، أو تُضيء ذاكرة هناك، أو تُمسك بيد جيل على وشك السقوط.

لكنّ الواقع لا يرحم، فـ"الخيار الوحيد"، مع ضرورته، ليس كافيًا، ولا يوازي حجم الجرح. فكيف يُطلب من طفلٍ بلا بيت، بلا طمأنينة، بلا لقمة ساخنة، أن يفتح هاتفه ليتابع درسًا؟ كيف لأمٍّ مفجوعة أن تُرافق أبناءها في تعلّمهم؟ كيف لمعلّم فقد زميله أو بيته أن يشرح درسًا بحماس خلف شاشة لا تصلها الكهرباء إلا نادرًا؟

ومع ذلك، لا بدّ من الاعتراف: ما يُبذل اليوم من جهود، على رغم محدوديّته، هو فعلُ مقاومةٍ في وجه العدم. التعليم الإلكترونيّ في غزّة ليس رفاهيّة، بل خيط الأمل الأخير الذي نحاول جميعًا أن نتمسّك به.

لكن الحقيقة تبقى: هذا الخيط ضعيف. ضعيف أمام الانهيار النفسيّ والسلوكيّ المتسارع، ضعيف أمام جيلٍ لم يعُد يعرف معنى المدرسة، أو الانضباط، أو حتّى الحلم.

الطفل الذي لا يدخل المدرسة، لا يخسر فقط دروس الرياضيّات واللغة، بل يفقد القدرة على التواصل، على الانتماء، على الشعور بالهويّة. وما نشهده اليوم ليس تأخّرًا دراسيًّا فقط، بل فاقدًا قيميًّا وإنسانيًّا يتراكم عامًا بعد عام، ويهدّد بتكوين جيل يعجز عن مواكبة عصره أو بناء مستقبله.

من هنا، يجب ألّا تكون الجهود الحاليّة هي النهاية، بل البداية. نحتاج إلى خطة إنقاذ متكاملة، تبدأ من إعادة إعمار المدارس، إلى دعم نفسيّ متواصل، إلى برامج استدراكيّة جادّة تُعيد التوازن لهذا الجيل المُنهك.

نحن لا نطلب معجزة. نطلب فقط أن يُعامَل أطفال غزّة كغيرهم، أن يُمنحوا حقّهم في التعلّم، لا كخدمة مشروطة، بل ككرامة إنسانيّة أصيلة.

جيل غزّة اليوم لا يحتاج فقط دروسًا ومساقات، بل من يهمس له في عزّ الخراب:

نراك… نؤمن بك… وسنظلّ نحمل حلمك حتّى يعود لك حقّك الكامل في الحياة والتعليم.