غزّة... الانتظار الأطول
غزّة... الانتظار الأطول
2025/06/26
أسماء رمضان مصطفى | مُعلّمة لُغة إنجليزيّة- فلسطين

استيقظ العالم صباح الثلاثاء الرابع والعشرين من حزيران/ يونيو 2025، على خبر عاجل مفاده أنّ وقف إطلاق النار بين الكيان الإسرائيليّ المحتلّ وإيران، بعد اثني عشر يومًا من التصعيد المتبادل، دخل حيّز التنفيذ. وكأنّ العالم بأكمله بدأ يستعيد أنفاسه بعد موجات من التوتّر العسكريّ.

أمّا غزّة، فبقيت خارج هذا العرس الدبلوماسيّ، كأنّها غير مشمولة بخريطة الهدوء. لا اتّفاقيّات، ولا مبادرات، ولا تصريحات سياسيّة تستشعر حجم الجريمة اليوميّة. وحدها غزّة تنزف، وتنتظر، وتُسجّل على مدار الساعة قوائم جديدة من الشهداء، والمصابين، والمفقودين. وحدها غزّة ما زالت تُقصف بلا توقّف، وتُحاصر بلا مبرّر، وتُدفن تحت صمت العالم.

تموت غزّة كلّ يوم، وكلّ دقيقة من عمرها تُحسب بالدّم. يجوع أهلها أكثر وأكثر. يزداد عدد الضحايا حتّى بات من المستحيل تتبّع الأرقام. يُدفن الناس بلا وداع، ويُسحب الجرحى من تحت الركام، ويُوزّع الألم والجوع والفقد والحرمان بالتساوي على الأحياء، بينما يتسابق الناجون في طوابير طويلة للحصول على حفنة دقيق من شاحنة مساعدات قد تصل أو لا تصل، تحت سيطرة شاملة للاحتلال الإسرائيليّ على المنافذ الإنسانيّة بكاملها. هنا في غزّة المكلومة، لم يعد صندوق معونة أو شعار على لافتة غربيّة، يحملان دفئًا أو إنقاذًا، وباتا لا يمتّان للواقع بصلة.  فقد فاقت الكارثة الإنسانيّة حجم التوقّعات والتخيّلات التي قد يحتملها العالم بأكمله.

 

وغزّة تنتظر...

لا لأنّها تهوى الانتظار أو اعتادته، بل لأنّها لم تجد من يُنقذها، ولم تُمنح خيارًا آخر. غزّة تنتظر المعابر المغلقة، وتعيش الانتظار على أنقاض المنازل المدمّرة، وتتجرّعه في عيون الأطفال، وتحمّله فوق أكتاف الأمّهات الثكالى، وفي قلوب المعلّمين الذين ما زالوا يحفظون أسماء طلّابهم الغائبين، ينتظرون حلم العودة إلى ديارهم التعليميّة.

 

غزّة تنتظر...

تنتظر أن تُعامَل أرضًا تعجّ بالحياة لا مجرّد "قضيّة عابرة" أو "شهداء منسيّين". أن تُروى حكاياتها بإنصاف لا بتجاهل، أن تُسمع شهادات أهلها في أروقة العدالة الدوليّة لا فقط في نشرات النكبات. تنتظر من يعترف بأنّ ما تتعرّض إليه ليس "نزاعًا"، بل إبادة ممنهجة، وبأنّ صمت العالم يُعدُّ خيانةً للإنسانيّة، بل شراكةً في الجريمة ذاتها أيضًا.

وعلى الرغم من كلّ هذا، غزّة تنتظر، وما تزال عيون الغزّيّين معلّقة بالأمل، وقلوبهم تُقاوم بطريقة لا يفهمها الكثير: تقاوم حين تكتب طالبة اسمها على دفترها الجديد من غير أن تكون لديها مدرسة تذهب إليها؛ تقاوم حين يزرع أبٌ أرضًا قُصفت مرارًا، ويقول: "هذه لأبنائي"؛ تقاوم حين تعلّق أمّ صورة ولدها الشهيد، وتقول لأخته: "ستكملين أنتِ الطريق".

غزّة تحبّ الحياة حين تضيء شمعة في الخيمة، وتُحوك ثوبًا لطفلتها من قماش متبقٍّ، وتُجبر عظامها المكسورة بالمحبّة.

ما تزال غزّة تنتظر الحياة التي نسيت كيف تُعاش كما يعيشها الآخرون، إذ يصنع الغزّيّون من الرماد أملًا ونورًا يعيدون بهما بناء ما يُدمَّر. يحتفظون بالأمل داخل القلب، حتّى حين تتساقط الجدران. يزرعون الورود في الظلّ، ويكتبون القصائد تحت القصف، ويُربّون الأطفال على الكرامة لا الخوف، وعلى الحلم لا الخضوع.

وأنا ما زلت أحلم معهم، وأكتب معهم، وأبكي معهم، وأؤمن كما يؤمنون أنّه مهما طال الليل، لا بدّ أن تشرق شمس. ومهما طال الغياب، لا بدّ أن تعود الحياة. فغزّة لا تموت، لأنّها علّمتنا جميعًا أن نعيش برأسٍ مرفوع، حتّى في المقابر. علّمتنا أن ننتظر بكرامة لا بضعف، وأن نحمل الحزن في صدورنا لا ليُنهكنا، بل لنشهد به على هذا العالم.

فيا كلّ من قرأنا، ويا كلّ من سمعنا، ويا كلّ من مرّ على هذه الكلمات… لا تتركوا غزّة وحدها في انتظارها الطويل. لا تتركوها آخر قائمة السلام، ولا تنشغلوا عنها بتهدئات عابرة هنا وهناك. فغزّة لا تُريد إلا ما تستحق: السلام، والحرّيّة، والحياة.

 

مع كلّ هذا الظلام، أملي عظيم بالله أن تكون غزّة هي البلد التالي الذي تُطوى فيه صفحة الحرب، ويُرفع عنها الحصار، وتعود إليها الحياة كما تستحقّ. وسيأتي اليوم الذي تُفتح فيه المدارس أبوابها، وتُفرش الساحات بالضحكات، وتعود الأزقّة تمتلئ بحكايات الأمل لا أنباء القصف.

ستُشفى الجراح، وتُبنى البيوت، وتُزرع الأشجار من جديد. ستخرج غزّة من بين الرماد كطائر فينيق عنيد لا يُقهر، وسنحيا بعد كربتنا ربيعًا. هذا أملي بالله الكريم، ثمّ أملي بشعبي العظيم الذي علّمني كيف يكون الصبر إيمانًا، وكيف يكون الانتظار بوابة المعجزة.