هل يساهم النظام التعليميّ الحاليّ في سوريّا في بناء السلْم المجتمعيّ؟
هل يساهم النظام التعليميّ الحاليّ في سوريّا في بناء السلْم المجتمعيّ؟
أسامة ضللي | باحث لدرجة الدكتوراه في التنمية المستديمة - سوريّا/المملكة المتّحدة

مع أنّ نيران الحرب التي استمرّت في سوريّا قرابة العشر سنوات قد انطفأت في معظم المدن السوريّة، إلّا أنّ آثارها التدميريّة على الأصعدة كافّةً كانت، ومازالت، تفوّق حدّ الوصف، حتّى إنّ هذه الحرب عُدّت من أكثر الحروب تدميرًا في التاريخ المعاصر (Akar, 2019).

من المسلّم به، أنّ إعادة إعمار ما خرّبته أيّ حرب يقوم على وضع خطط ومشاريع، تتضافر فيها جهود المؤسّسات المختلفة، ومن أهمّها المؤسّسة التعليميّة، لما لها من دور مؤثّر في إعادة النهوض بالمجتمع على المستويات الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. هنا يبرز دور التعليم في بناء السلام المجتمعيّ الذي زعزعته الحرب، عن طريق مساهمته الإيجابيّة الفعّالة في محاولة اجتثاث أسباب العنف المختلفة، ومعالجة أنماط غياب العدالة المجتمعيّة المتمثّلة بانعدام المساواة، بدءًا من الحصول على مستوىً متساوٍ من التعليم، مرورًا بالمساواة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وانتهاءً بإصلاح النظام التعليميّ ليكون نواةً لبناء مجتمع يرفض العنف والقمع بكلّ أشكالهما، ويعزّز أهمّيّة التعلّم ودور المتعلّمين بكلّ فئاتهم العمريّة في بناء مجتمع يسوده السلام المبنيّ على أسس العدالة المجتمعيّة. من جهة أخرى فإنّ إهمال أهمّيّة دور التعليم واستخدامه وسيلةً للقمع أو التجييش يعدّ من أهمّ أسباب إعادة إشعال نار النزاعات مجدّدًا (Lopes Cardozo & Shah, 2016). 

بناءً على ما سلف، يقدّم هذا المقال عرضًا لواقع التعليم في سوريّا بعد الحرب، محاولًا فهم العقبات التي تقف في وجه توظيف النظام التعليميّ الحاليّ ليكون وسيلةً لبناء السلْم المجتمعيّ، بالاعتماد على شهادات مجموعة من التربويّين والمعلّمين السوريّين في دمشق، وذلك ضمن بحث قيد النشر حول دور التعليم في بناء السلْم المجتمعيّ في سوريّا أجريته نهاية العام 2019.  

 

واقع التعليم في سوريّا قبل الحرب وبعدها

إنّ النظام التعليميّ في سوريّا لم يكن من الأصل قبل الحرب نظامًا مثاليًّا رغم حالة الاستقرار التي كانت تنعم بها سوريّا، إذ إنّه عانى من أخطاء ومشكلات أثّرت، في كثير من الحالات، في دوره في عمليّة التطوير في البلاد، لتأتي بعد ذلك الحرب، وتهزّ أركان النظام التعليميّ، وتحدث خللًا كبيرًا في النسيج الاجتماعيّ للمجتمع السوريّ، مسبّبة حالات غير مسبوقة من النزوح الداخليّ والخارجيّ، هذا بالإضافة إلى الخسائر البشريّة والمادّيّة الهائلة ( Al Hessan et al., 2016 ). وهكذا تفاقمت الهجرة الداخليّة نحو المناطق الهادئة نسبيًّا كالعاصمة دمشق، ممّا أدّى إلى تغيير كبير في طبيعة التركيبة السكّانيّة فيها، وانعكس كلّ ذلك بالطبع على المؤسّسات التعليميّة. أدّى ذلك إلى خلق كمٍّ هائل من التحدّيات في وجه مسيرة التعليم، وأرغم القائمين على النظام التعليميّ أن يفكّروا بحلول إسعافيّة لم تكن على مستوىً كافٍ من الفاعليّة، ولم تمثّل إلّا محاولةً للإبقاء على دوران عجلة التعليم، ولو ببطء شديد.

 

بناء السلْم المجتمعيّ في النظام التعليميّ: أركان وإشكالات

يُجمع التربويّون والمعلّمون المشاركون في البحث في شهاداتهم على أنّ دور النظام التعليميّ في بناء السلْم المجتمعيّ ينبغي أن يبنى على عدّة أركان، هي: المعلّمون، التلاميذ، المناهج. وهي جميعًا تتأثّر بتسلسل العلاقات في هيكليّة النظام التعليميّ، التي تسمح أو تمنع استثمار العناصر السابقة لبناء السلْم المجتمعيّ. ويعبّر المشاركون تاليًا عن المصاعب الجمّة التي تُضعف كفاءة هذه العناصر في تحقيق هذا الهدف.

 

  • المعلّمون 

يتّفق جميع المشاركين على أنّ العمود الفقريّ في النظام التعليميّ، المتمثّل بالكوادر التعليميّة، قد أصيب إصابات بليغةً، نتج عنها نقص شديد في الكفاءات المؤهّلة تأهيلًا جيّدًا، التي تمتلك على الأقلّ خبرةً مماثلةً لخبرة الكوادر التعليميّة في سوريّا قبل الحرب.

يتحدّث الأستاذ آدم، المدرّس الجامعيّ المختصّ في هذا المجال، موضّحًا أسباب هذا النقص:

"تسبّبت الحرب بموت قسم كبير من المعلّمين المؤهّلين، ونزوح قسم آخر ولجوئه من جهة، واستحالة تدريب كوادر جديدة وتأهيلهم علميًّا وتربويًّا في ظلّ القتال المتواصل في أغلب المناطق من جهة أخرى، إضافةً إلى المعضلات النفسيّة والمشكلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي عانى ويعاني منها التربويّون والمعلّمون نتيجةً للنزاع."

ويبيّن السيّد باسل (معلّم) أنّه إضافةً إلى نقص التأهيل والتدريب النفسيّ والتعليميّ، فإنّ الكثير من المعلّمين يعانون من مشكلات أخرى تقف عائقًا في وجه استثمار ممارساتهم التعليميّة في سبيل بناء السلْم، هذه المشكلات تتلخّص في عدم قدرة الكثير منهم على الوقوف في وجه المنظومة البيروقراطيّة التي تمنع أيّ تغيير في كثير من الأحيان، إذ يلعب تسلسل المصالح وسواه دورًا مثبّطًا لأيّ جهد في هذا المجال. كذلك، فإنّ أعدادًا لا يستهان بها لا تملك الرغبة أو القدرة لتطويع الممارسات التعليميّة لبناء السلام، إمّا بسبب نقص المعرفة، أو نقص الموارد المادّيّة، أو نقص التقدير لأهمّيّة هذا الفعل:

"إنّ راتب المعلّم الحاليّ يعجز عن تأمين أبسط حاجات العيش الأساسيّة في ظلّ الغلاء الفاحش والاستغلال والدمار، لذا فإنّ الكثير ينشغلون بتأمين لقمة عيشهم، ويهملون التخطيط والتنفيذ في سبيل هدف يرونه بعيدًا وعديم المعنى في ظروف كهذه."

 

  • التلاميذ

حول التلاميذ، تناقش السيّدة سلمى، وهي إداريّة ومعلّمة في إحدى مدارس دمشق، المشكلات التي تصفها بالكارثيّة في هذا السياق، معبّرةً عن أنّ المشكلات النفسيّة والأسريّة والاجتماعيّة التي عانى، ويعاني، منها الطلّاب زادت من صعوبة هذه التحدّيات:

"من الطبيعيّ لحرب استمرّت قرابة العشر سنوات مع ما خلّفته من قتل وتدمير، أن تترك شروخًا نفسيّةً عميقةً في حيوات الطلّاب الذين فقدوا أفرادًا من عائلاتهم، وربّما تحت أنظارهم، فعانوا من الرعب والحزن ما لا يمكن تخيّله، بالإضافة لفقدانهم وعائلاتهم مساكنَهم واضطرارهم للنزوح تحت ظروف قاسية من الجوع والموت والقصف."

وتضيف سلمى أنّ من أهمّ مفرزات الهجرة الداخليّة التغييرَ الكبير في البنية الديموغرافيّة في المناطق التي اتّجهت الهجرة إليها، وهو ما أدّى إلى تجمّع أعداد ضخمة من السكّان في مناطق محدودة، وانعكس سلبًا على القدرة الاستيعابيّة للمدارس فيها، فأضحت الصفوف متخمةً بالطلّاب من بيئات اجتماعيّة وأسريّة مختلفة، مع انعكاسات نفسيّة متفاوتة، وتزامن ذلك مع افتقار المدرّسين للخبرة الكافية للتعامل مع هذه المشكلة، لتنتج حالة من الفوضى وانعدام الانضباط الأخلاقيّ والتربويّ في المدارس، وعدم القدرة على ضبط العمليّة التعليميّة، الأمر الذي خلق هوّةً عميقةً بين الخطط الموضوعة للنهوض بالنظام التعليميّ، وبين تنفيذها على أرض الواقع.

ومن أوضح الأمثلة على هذه الهوّة ما يعرف بنظام الفئة ب، وهو نظام يشمل الطلّاب الذين توقّفوا عن تلقّي تعليمهم لسنوات عدّة بسبب الحرب، وتأخّروا بسبب هذا التوقّف عن أقرانهم الذين استمرّوا بتلقّي التعليم في المناطق الهادئة نسبيًّا، فاضطرّ هذا الواقع المسؤولين عن النظام التعليميّ إلى تخصيص عدد من المدارس الموزّعة في المناطق الهادئة لهؤلاء الطلبة، ليتمكّنوا من تدارك ما فاتهم خلال سنوات الانقطاع عن الدراسة. وتشترط خطّة هذا النظام أن يتلقّى طلّاب الفئة ب مناهج سنتين دراسيّتين في عام دراسيّ واحد، أي أن يُضغط منهاج عامين دراسيّين في عام واحد، فتفتّقت عن هذا القرار مشكلات عديدة أثّرت سلبًا في جودة التعليم والفائدة المرجوّة من المنهاج الدراسيّ، وأرهقت المعلّمين والطلّاب على حدّ سواء، وجعلت الطلّاب تحت ضغط دراسيّ هائل، بينما هم في الأساس ما زالوا يرزحون تحت وطأة المشكلات النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة العميقة التي صنعتها الحرب.

 

  • المناهج

توضّح السيّدة آريا، المدرّسة في المرحلة الثانويّة، أنّ المحور المتمثّل بدور المناهج الدراسيّة في تشجيع السلْم المجتمعيّ يعاني إشكالات عديدةً، أهمّها معضلة تغيير المناهج التي أقدمت عليها المؤسّسة التعليميّة في سوريّا في فترة ما بعد الحرب، وتصف آريا هذه الخطوات بالمأساويّة التي تُفرّغ المنهج من محتواه وتنقص من قيمته التربويّة وأهمّيّته التعليميّة، إذ أُلغيت بعض الموادّ وأضيفت أخرى، مع إدخال تعديلات على الكثير منها، وقد نُفّذت خطّة تغيير المنهاج الدراسيّ تدريجيًّا، فشملت مرحلةً أو مرحلتين في كلّ عام دراسيّ، لكنّ هذه الخطّة واجهت استياءً واضحًا، واضطرّ المسؤولون عنها إلى تعديل المناهج مرّتين بعد ذلك، وهو ما "زاد الطين بلّةً".

وتوضّح آريا أنّ الدافع الرئيس لتغيير المناهج كان جعلها تنسجم مع التغيّرات الكبيرة في طبيعة الحياة، والتطوّر التكنولوجيّ والعلميّ في العالم ككلّ، لذلك سعى الطرح ابتداءً إلى إدخال ما يحاكي هذا التطوّر والتقدّم العلميّ والتكنولوجيّ فيها، لكنّه اصطدم بعوائق ومصاعب عديدة ومتنوّعة على أصعدة مختلفة، مثل فقدان الكادر المطلوب لوضع المناهج المناسبة، والنقص الحادّ في الكفاءات التعليميّة القادرة على تدريس هذه المناهج على الوجه الأمثل، الأمر الذي جعل المناهج الجديدة لا تؤدّي الدور المطلوب، ولا تحقّق الفائدة المرجوّة منها. وتضيف آريا:

"من جملة العوائق التي عرقلت تطوير المناهج التعليميّة في سوريّا الإنهاكُ الذي حلّ بالاقتصاد بسبب الحرب، حتّى اضحى غير قادر على دعم عمليّة التعليم، وتنفيذ الخطط التطويريّة في مجالاته المختلفة، وبهذا افتقرت العمليّة التعليميّة إلى الأدوات اللازمة لتنميتها، وافتقدت معظم المدارس أهمّ الاحتياجات الأساسيّة، إضافةً إلى ما يلزم من بنيات لتطبيق المناهج المطوّرة، التي تعتمد نظريًّا على أحدث وسائل التكنولوجيا، مثل: الحواسيب، وشبكات الإنترنت، وشاشات التعليم الذكيّة، ولذلك أصبح التفاعل مع هذه المناهج مفقودًا، بل ومستحيل التطبيق. أوجد هذا الشرخ حالةً من اليأس والإحباط عند الطلّاب والمدرّسين، وساهم في تدنّي جودة التعليم. هذا غير التفاوت الطبقيّ الحاصل بين المدارس العامّة والخاصّة في هذا النطاق".

 

خاتمة

إنّ ما خلّفته الحرب في سوريّا من أثار سلبيّةً على الأصعدة جميعها جعل النظام التعليميّ في سوريّا مكبّلًا غير قادر على النهوض بواقع التعليم، فتبدّد الأمل في قدرة هذا النظام التعليميّ المنهك على بناء قاعدة العدالة والسلْم المجتمعيّ، وتجدّدت المخاوف من أن يصبح النظام التعليميّ نواةً لإعادة إشعال فتيل الحرب مجدّدًا. وعليه، فإنّ المرحلة القادمة تتطلّب تضافرًا جبّارًا للجهود في سبيل تجاوز العوائق المذكورة، مع الحاجة إلى خطط مرحليّة تضمن دورًا فعّالًا للتعليم في بناء قاعدة مستديمة للعدالة المجتمعيّة ونبذ العنف بكلّ صوره، تكون نواةً لبناء السلْم المجتمعيّ الذي ستستعيد به البلاد عافيتها واستقرارها المجتمعيّ والتعليميّ. 

 

المراجع

  • Akar, B. (2019). Citizenship Education in Conflict-Affected Areas: Lebanon and Beyond. Bloomsbury Publishing Plc.
  • Al Hessan, M., Bengtsson, S., & Kohlenberger, J. (2016, September). Understanding the Syrian educational system in a context of crisis. Vienna Institute of Demography. https://www.oeaw.ac.at/fileadmin/subsites/Institute/VID/PDF/Publications/Working_Papers/WP2016_09.pdf
  • Lopes Cardozo, M. T. A., & Shah, R. (2016). A conceptual framework to analyse the multiscalar politics of education for sustainable peacebuilding. Comparative Education, 52(4), 516-537.