مناهج رياض الأطفال في موريتانيا: العوامل الواجب اعتبارها عند تطويرها في ضوء المناهج الحديثة
مناهج رياض الأطفال في موريتانيا: العوامل الواجب اعتبارها عند تطويرها في ضوء المناهج الحديثة
أحمد سيدِ الشيخ | دكتور في علوم التربية -موريتانيا

أصبحت المجتمعات الحديثة تولي اهتمامًا خاصًّا بمرحلة الطفولة المبكِرة، لحساسيّة هذه المرحلة العمريّة، إذ ترسم معالم شخصيّة الطفل المستقبليّة وتُرسِي دعائم نموّ شخصيّته. فالنموّ العقليّ في هذه المرحلة العمريّة يحلّ بسرعة، حيث يستجيب الدماغ استجابة كبيرة للبيئة الماديّة والاجتماعيّة والوجدانيّة؛ وبحسب العالم النفسيّ بولمان، يحصل 50% من النموّ العقليّ بين الميلاد والعام الرابع من عمر الطفل، و30% منه بين العام الرابع والثامن (ميلاد، 2015). يدفع ذلك مناهج رياض الأطفال الحديثة إلى الاهتمام بخصائص الطفل النمائيّة، وتقديم المحتوى التربويّ في كلّ مرحلة عمريّة وفق هذه الخصائص. من هنا، تهدف مناهج رياض الأطفال الحديثة إلى تحقيق نموّ الطفل الشامل، وتقديم وضعيّات تربويّة يتكامل فيها المعرفيّ - العقليّ مع الوجدانيّ - الاجتماعيّ.    

في العقد الأخير، اهتمّت الدولة في موريتانيا بالتعليم ما قبل المدرسيّ، وأطلقت من أجل ذلك برنامجًا وطنيًّا لتطويره سنة 2022. هدف هذا البرنامج إلى رفع نسبة الاستيعاب من 10% سنة 2022 إلى 30% بحلول سنة 2024 (وزارة العمل الاجتماعي). ضف إلى ذلك الزيادة الملحوظة، في العقد الأخير، في عدد رياض الأطفال الحكوميّة والخاصّة والمؤسّسات الاجتماعيّة التي تقدِّم الرعاية للأطفال، نتيجة الوعي المتزايد في المجتمع والدولة بأهمّيّة هذه المرحلة النمائيّة من حياة الطفل. ورغم ذلك، ما زالت رياض الأطفال في موريتانيا تواجه عدّة تحدّيات، نتيجة ضعف تكوين المربّيّات والمشرفين عليها، وعدم إخضاعهم لتكوين أكاديميّ ومهنيّ، فضلًا عن عدم توفّر تصوّر بيداغوجيّ واضح للمنهاج التربويّ. بالإضافة إلى ذلك، أدّى نقص تعبئة الأسر الاجتماعيّة والجمعيّات ومؤسّسات رعاية الأطفال وقلّة التكوين البيداغوجيّ في معظمَ رياض الأطفال، إلى الاعتماد على ممارسات بيداغوجيّة تُركِّز على التلقين، مع ندرة الوسائل التعليميّة والأنشطة التربويّة التي تُسهِم في صقل شخصيّة الطفل. 

من هنا، يهدف هذا المقال إلى عرض مفصَّل للعوامل الواجب اعتبارها عند تطوير مناهج رياض الأطفال؛ لحاجة المربّين والمربّيّات والمشتغلين في الحقل التربويّ إلى معرفتها.

 

جوانب تحقيق النموّ الشامل في مناهج رياض الأطفال الحديثة

أسهمت العديد من العوامل في تطوير مفهوم المنهاج الحديث، منها: الثورة الصناعيّة الرابعة، والأبحاث النفسيّة والتربويّة، والتغيّر الذي طرأ على البنيات الاجتماعيّة للمجتمعات الحديثة. لذلك، عُرِّف المنهاج الحديث بأنّه مجموع الخبرات التربويّة التي تُهيِّئها المدرسة للأطفال خارج المدرسة وداخلها، بهدف مساعدتهم على تحقيق النموّ الشامل؛ أي النموّ في جميع الجوانب العقليّة والانفعاليّة والنفس - حركيّة والاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة والجسميّة والحركيّة، من أجل تجاوز المنهاج التقليديّ الذي يركِّز على المحتوى المعرفيّ، حيث يكتفي المربّي بتلقين الأطفال المادّة التعليميّة من دون الأخذ بعين الاعتبار الجوانب النفسيّة والوجدانيّة وخصائص الأطفال النمائيّة

وعليه، يمكننا القول إنّ التربية الحديثة أضحت عمليّة علميّة، ولم تعد عمليّة اعتباطيّة أو عشوائيّة، فهي تُزوِّدنا بالعديد من المبادئ التي تقوم عليها عمليّتا التعليم والتعلّم في مرحلة رياض الأطفال، وبقيّة المراحل التعليميّة. وبحسب محمّد وجاد (2007)، من بين هذه المبادئ اللازم اتّباعها عند تخطيط مناهج رياض الأطفال وتنفيذها:

 

مراعاة مستوى نضج الأطفال أثناء تقديم الأنشطة التعليميّة    

يمرّ الطفل بمراحل عمريّة معيّنة حتّى يكتمل نضجه. وبالتالي، تعدّ مساعدة الطفل على النموّ والوصول به إلى تحقيق أقصى إمكاناته هدفًا من أهداف مؤسّسات رياض الأطفال. فلا ينبغي للمربّية أن تُقدِّم للطفل أنشطة تعليميّة تفوق مستواه ومرحلته النمائيّة، ولا أن تقدِّم له أنشطة دون مستواه، فتقلِّل من دافعيّته إلى التعلّم؛ فالموازنة مطلوبة. لذلك، يجب أن تناسب الأنشطة التعليميّة المقدَّمة نفسيّات الأطفال وعقليّاتهم، لشحن دافعيّتهم نحو التعلّم. وعليه، لا بدّ أن تراعي هذه الأنشطة مستويات نضج الأطفال ودرجة نموّهم، وأن تقدَّم في سياق دالّ وذي معنى.

تقدَّم الأنشطة التعليميّة غالبًا في رياض الأطفال، عند بناء مفهوم الأعداد والحروف مثلًا، بخبرات مادّيّة ومحسوسة. فمن المعروف أنّ المحسوسات المادّيّة التي تبدأ بالتكوِّن عند الطفل في هذه المرحلة تشكِّل دعامة أساسيّة لتعلّمه، كما تعجِّل من نموّه المعرفيّ، إذ يؤسِّس التعلّم للطفل في هذه المرحلة جسرًا من المحسوس إلى المجرّد.

 

مراعاة فروقات الأطفال الفرديّة

يختلف الأطفال عن بعضهم اختلافات واضحة في جميع نواحي نُموّهم (الجسميّ، والعقليّ، والوجدانيّ...)، وهو ما يتطلّب من المربّين والمربّيّات مراعاة قدرات كلّ طالب ووتيرة تعلّمه. فالتربية السليمة هي التي تأخذ بعين الاعتبار الفروقات الفرديّة بين الطلّاب، سواء في ما يمارسونه من أعمال أو نشاطات، أم في السرعة التي يتقدّم بها الطفل في مجال تعلّمه. عندما نعطي أنشطة تعليميّة للأطفال، مثلًا، يُنجزها بعضهم بسرعة، وبعضهم الآخر بدرجة أقلّ، فهذه الاختلافات أمر طبيعيّ، وعلى مربيّة الأطفال أن تَتقبّلها وتأخذها بعين الاعتبار أثناء تخطيط الأنشطة التعليميّة.  

 

التربية بالعمل والنشاط واللعب 

يكتسب طفل الروضة الخبرات والمفاهيم بالإدراك الحسّيّ والتفاعل مع البيئة المحيطة. فليس للطفل في هذه المرحلة القدرة على التعامل مع المفاهيم المجرّدة. لذلك، يحبّ الطفل التحرّك واللعب وحده أو مع الآخرين؛ ففضوله الفطريّ يـدعوه لذلك، إذ يتفاعل أثناء اللعب مع الأشياء المحسوسة الموجودة في محيطه، والتي تُثري تعلّمه وخبراته وتنمي قدراته.  

يشجِّع التعلّم الحسّيّ الطفل على اكتشاف البيئة باللعب الحرّ، إذ يساعده ذلك على فهم كيفيّة عمل الأشياء بفاعليّة والشعور بالراحة في بيئات مختلفة، وينمّي مهاراته الحركيّة ووظائفه المعرفيّة، باكتشافه العالم من حوله وتجريبه الأشياء مباشرةً. كما يشجِّع على التعلّم والتفكير النقديّ والتبصّر في العلاقات بين الأشياء التي يجرّبها بالحواس، ويربط بها الأسباب بالنتائج. فالطفل يجد في الأنشطة التعليميّة التي توظِّف اللعب والنشاط والمتعة والحماس للتعلّم.  

لذلك، تضع المناهج الحديثة الطفل المحور الرئيس في جميع الأنشطة التعليميّة. ومن هنا، لا بدّ من التخطيط لأنشطة تعليميّة تُنمِّي في الطفل ثقافة الاكتشاف والتجريب والمحاولة، مع ترك الحرّيّة له في ممارسة نشاطاته واكتشاف قدراته وميوله وإمكاناته، قصد مساعدته على اكتساب مهارات وخبرات جديدة. ولا يمكن لتلك المهارات والخبرات أن تُنمَّى إلّا بتقديم الأنشطة التعليميّة من خلال اللعب والنشاط؛ لأهمّيّة اللعب والمحسوسات اليدويّة، بمختلف أنواعها، عند طفل الروضة.    

وعليه، يجب أن يدرك المربّي أهمّيّة استخدام الحواس أداةً للتعلّم، يمكن للطفل بها أن يكوِّن روابط ذات معنى مع البيئة المحيطة به، منذ سنّ مبكِرة. لكن، يجب التنبّه كذلك إلى أنّ التعلّم الحسّيّ وسيلة وليس غاية في حدّ ذاته، إذ الهدف منه الانتقال إلى مرحلة التجريد. فالمطلوب، إذًا، الموازنة بين مزايا هذا التعلّم وعيوبه.

 

إعداد البيئة والظروف المناسبة 

لم يعد عمل المربّي، ولا سيّما في هذه المرحلة تعليميًّا فحسب، وإنّما تهيئة الظروف المناسبة للطفل كي يتعلّم تعليمًا ذاتيًّا بقدر ما تسمح به إمكاناته. لا يعني ذلك التقليل من شأن المربّي أو إعفاءه من مسؤوليّاته، فللمربّي دور كبير في التوجيه والتشجيع المستمرّ، وتــهيئة الظروف المناسبة لاكتساب الطفل الخبرات والمهارات، وتكوين الاتّجاهات السليمة في العمليّة التعليميّة. ومن هذا المنطلق، تتضح أهمّيّة إعداد البيئة التعليميّة التي تتيح للطفل فرص إشباع حاجاته وممارسة النشاط البنّاء، فلا بدّ أن تتوفّر في بيئة الروضة الوسائل التعليميّة والمحسوسات الماديّة التي تحفِّز الأطفال على التعلّم. 

وعليه، يواجه عمل المربّين والمربّيّات في رياض الأطفال تحدّيًا، يتمثّل في مدى قدرتهم على توفير بيئة مناسبة تشتمل على الوسائل والأدوات والمثيرات الكفيلة بإيقاظ انتباه الطفل. فضلًا عن ضرورة أن تكون البيئة التعليميّة آمنة وجاذبة ومحفِّزة. 

 

* * *

تعدّ مرحلة رياض الأطفال مرحلة حاسمة في بناء شخصيّة الطفل وصقلها، حيث يجب أن تسهِم الأنشطة التعليميّة المقدَّمة فيها في تعزيز النموّ الشامل لجميع الأطفال، أي السماح لهم بتنمية مهاراتهم في جميع المجالات. وينبغي على المشرفين على رياض الأطفال إدراك أهمّيّة تنمية كلّ جانب من هذه الجوانب، واقتراح أنشطة تعليميّة تسمح بذلك، بمراعاة العوامل التي سبق ذكرها. وبرغم تقديمنا العوامل بصورة مُنفصِلة، يبقى الترابط بينها قائمًا، فكلّ عامل منها مكمِّل للآخر، وكلّ مجال يؤثِّر في المجالات الأخرى، حيث يحصل التكامل في ما بينها. وعليه، لا بدّ من توافر العوامل كلّها في مناهج رياض الأطفال، لكي يكون للأنشطة التعليميّة المقدَّمة جدوى، ولكي تحقِّق النموّ الشامل للطفل.

بناءً على ذلك، يجب على المشرفين على رياض الأطفال في موريتانيا أخذ هذه العوامل في الاعتبار عند بناء المناهج وتصميم الأنشطة التعليميّة، للارتقاء بالعمليّة التعليميّة وتحقيق النموّ الشامل لطفل الروضة. ويقتضي ذلك التأمّل الدائم في ممارساتهم التعليميّة قصد تطويرها، آخذين في الاعتبار التطوّرات التي تحدث باستمرار في مجال التربية والتعليم. 

 

المراجع

- محمّد، منى، وجاد، علي. (2007). مناهج رياض الأطفال. دار المسيرة.  

- مديريّة المناهج في المغرب. (2020). الدليل البيداغوجيّ للتعليم الأوّليّ. وزارة التربية الوطنيّة. 

- ميلاد، محمد محمود. (2015). علم نفس نموّ الطفل المعرفيّ. دار الإعصار العلميّ للنشر والتوزيع.