"مذكّرات مقعد فارغ": حكاية لم تُروَ من الصفّ الأخير
"مذكّرات مقعد فارغ": حكاية لم تُروَ من الصفّ الأخير
ياسمين حسن | مستشارة تعليميّة ومدرّبة في التخطيط الاستراتيجيّ وإدارة الأزمات- مصر

يسعى هذا المقال التربويّ لتسليط الضوء على واقع التفاعل داخل الصفّ الدراسيّ من زاوية غير تقليديّة؛ من عدسة رمزيّة تمثّلها "مذكّرات مقعد فارغ"، وهدفه استكشاف ما يدور في الصفّ من مشاعر خفيّة، وسلوكيّات غير مرئيّة، وتقديم قراءة عميقة لطبيعة العلاقة بين المعلّم والطالب، في ظلّ تحدّيات التربية الحديثة، ومفاهيم الانضباط المتغيّرة، وهو ما سنراه معًا في السطور الآتية. 

- في الركن المنسيّ... وُلدَت الحكاية 

في زوايا الصفوف، حيث يغيب الضوء، وتهدأ الأنظار، تقبع أشياء صامتة تُخفي في طيّاتها كثيرًا من الحكايات التربويّة. من بينها، مقعد خشبيّ قديم مُحاط بالصمت والغبار في أقصى الزاوية من الصفّ الأخير، حيث تغيّرت الألوان، وتبدّلت الوجوه؛ لكنّه بقي شاهدًا أمينًا على تحوّلات عميقة في علاقة الطالب بالصفّ، والمعلّم بمفاهيم الانضباط، والإدارة المدرسيّة التي تُسهم في تشكيل البيئة التعليميّة. هو مجرّد مقعد خشبيّ باهت اللون، لا يُنظر إليه إلّا حين تمتلئ المقاعد الأخرى. لكنّه رأى كلّ شيء من دون أن يراه أحد. لا يشكو ولا يعلّق ولا يتدخّل، فقط يراقب.  

هذا المقعد الذي لم يسأله أحد يومًا: "ماذا ترى؟" يروي الآن. 

 

- أرواح مرّت من هنا 

في كلّ صباح، تأتي وجوه جديدة، وحقائب مُثقلة، وخُطًى متثاقلة. بعضهم يدخل الصفّ بنشاط زائف، وآخرون تسبقهم نظرات شاردة. رأيت التلميذ الذي يُخفي حزنه بابتسامة، والآخر الذي يضع حقيبته بلا اهتمام، يجلس متراخيًا يهرب بعينيه من السبّورة. رأيت من انكمش على نفسه، ومن تظاهر بالتركيز، ومن ضحك سرًّا، ومن كتب رسائل خفيّة، أو تأمّل النافذة كأنّ شيئًا خلفها يناديه. رأيت التلميذة التي تتظاهر بالاهتمام، بينما ترسم عالمًا في دفاترها بعيدًا عن صوت المعلّم، ومن يخاف الاختبار، ومن يرغب في النوم، ومن لديه شغف الإجابة، ومن يشعر بقلق الدرجات. سمعت أنين الحبر على الورق أكثر ممّا سمعت ضحكات حقيقيّة. كلّهم، على رغم اختلافهم، تركوا أثرًا فيّ: خدوشًا صغيرة، أو توقيعات بالطباشير، أو تنهيدات عالقة بين الخشب والمعدن. وعرفت أنّ في كلّ نظرة شيئًا لا يُقال، كأنّهم يطلبون شيئًا لم يعرفوا كيف يُقال، وأنا المقعد، حاولت أن أسمع. 

 

- في زاويا الصمت... حين لا يُسأل الطالب شيئًا 

كثيرًا ما جلس على ظهري طالب عوقب بنقله إلى "الوراء". سمعت تنهيداته، وشعرت باهتزاز غضبه. ليس لأنّه لا يُجيد، بل لأنّه لم يُفهم. شهدت دفاتر تُمزّق خلسة، ودموعًا تُمسح سريعًا، ورسائل صغيرة تُمرّر في الخفاء. كلّ ذلك لا يظهر في نتائج التقويم، ولا في لوحات الشرف، لكنّني حفظته. 

جلس فوقي مرّة طالب هادئ. لم يكن مشاغبًا، ولا متفوّقًا. لم يلفت النظر، لم يشكُ، لم يتأخّر. لكنّه كان صامتًا بصورة توجع القلب. لم يسأله أحد إن كان يفهم، أو يحبّ الدرس، أو إن كان بخير. ومرّت شهور وهو يكتب ما يُطلب، ويرفع يده حين يُطلب، ثمّ يختفي مع الجرس. كأنّ الحضور الجسديّ كافٍ. يا تُرى، كم مثل هذا الطالب يمرّ بلا أن يلاحظه أحد؟ وكم ضاعت منّا مواهب وطاقات، فقط لأنّها لم تُسأل؟ 

 

- المعلّم من خلف اللوح: ضجيج بلا أثر؟ 

كنت أراقب المعلّم من بعيد، أراه وهو يحاول ضبط الصفّ؛ يرفع صوته، يُكرّر التعليمات، يُهدّد، يُعاقب، ثمّ يحاول المزاح علّه يكسر الجدار. لكن ما لا يراه، أنّ الانضباط لا يُمثّل فقط الصمت أو الانتباه. أحيانًا، قد يجلس الطلّاب بأجسامهم، لكنّ أرواحهم في مكان آخر، لا تشعر بأنّها جزء من هذا الدرس. فقد أدركت أنّ الضجيج لا يعني الفوضى دومًا، كما أنّ الصمت لا يعني الانضباط. بعض الصمت كان مليئًا بالأفكار، وبعض الصراخ كان نداء استغاثة. لكن من يستمع إلى مقعد أو إلى من يجلس عليه؟ الانضباط الحقيقيّ يا معلّمي، ليس فقط في النظام، لكنّه في الشغف. 

 

- حكايات لا تُقال 

أنا المقعد الذي يظنّ الجميع أنّه لا يرى. لكنّني رأيت الضجر يتكوّن، والأمل يذبل. رأيت كيف يتحوّل الصفّ من مساحة للتعلّم، إلى ساحة انتظار. رأيت الطلّاب الذين يتظاهرون بالفهم، والمعلّمين الذين يظنّون أنّ شرحهم كافٍ. رأيت من يبني علاقة، ومن يُنفّر من دون أن يدري. رأيت كم تغيب الأسئلة الحقيقيّة خلف جدار الصمت، وكيف يتحوّل الصمت نفسه إلى ردٍّ دامغ. 

 

- عندما يصبح الصفّ حلبة مقاومة 

رأيت طلّابًا يُقاومون النظام بأساليب طفوليّة: رسم على الجدران، كتابة على المقاعد، تململ دائم، اختلاق أسباب للخروج. لكن خلف كلّ سلوك، كانت هناك قصّة لم تُسأل. كنت شاهدًا على صراع بين عالم يحاول قول شيء، ومعلّم مُرهق يسابق المنهج، ويطارد الهدوء. 

 

- رسّامة الحصص المجهولة 

في إحدى الحصص، جلست فتاة كانت ترسم طوال الوقت. لم تكتب شيئًا، كانت ترسم وجوهًا وأبوابًا ونوافذ. صادرت المعلّمة رسوماتها، وبّختها، وأعادتها إلى الدفتر. لكنّ أحدًا لم يسألها: "لماذا ترسمين؟" ربّما كانت تلك الرسوم محاولتها الوحيدة لفهم العالم، للتعبير عن فكرة لا تعرف كيف تنطقها. ربّما كانت صرختها الصامتة.  

فالتعليم لا يكون دائمًا بالكلمات. أحيانًا تكون الخطوط والرسوم لغة أكثر صدقًا. 

 

- عن الغياب الصامت... والفراغ الذي يتكلّم 

بقيتُ فارغًا في كثير من الأيّام، لكنّ غيابي لم يكن عن الدرس؛ بل عن الشخص الذي كان يُفترض أن يجلس عليّ. كم من مقعد فارغ يعني فشل علاقة تعليميّة؟ كم من غياب كان يجب أن يُسأل عنه لا أن يُسجّل فقط؟ 

 

- من الضبط إلى الفهم... ومن السيطرة إلى التواصل 

كان يُنظر إلى ضبط الصفّ لعقود طويلة على أنّه عمليّة "فرض النظام"، باستخدام أدوات مباشرة، مثل الصمت والتهديد والطرد، أو التوجيه اللفظيّ الصارم. لكن ما رآه "المقعد" في سيرته الطويلة، يكشف عن هشاشة هذه الأدوات أمام تحوّلات الطالب ذاته. فطالب اليوم، وفق ما تُظهره تجاربه اليوميّة، لا يستجيب للسلطة التقليديّة كما في السابق؛ هو يطلب مساحة للفهم والتقدير والاحترام المتبادل. فالمعلّم الذي يترك مساحة للنقاش ويستمع ويفتح أبواب الحوار، يصبح أقرب إلى عقل الطالب وقلبه، بدلًا من اتّباعه أسلوب الصراخ داخل الصفّ. هذه ليست دعوة إلى الفوضى، بل تعديل لمكانة السلطة داخل الحصّة. 

 

- ماذا لو أصغى المعلّم إلى ما لا يُقال؟ 

أنا لا أطالب المعلّم بأن يصبح معالجًا نفسيًّا، ولا بأن يقرأ الأفكار، ولكن... ماذا لو تأمّل وجوه طلّابه مرّةً واحدة بصمت؟ لو سأل "كيف تشعر؟" بدلًا من "هل أنجزت الواجب؟" ربّما تغيّرت أشياء كثيرة. ربّما لم أكن فقط مقعدًا، بل شاهدًا على تحوّل تربويّ. 

 

- الفوضى المنظّمة ليست عيبًا... بل ضرورة حيويّة 

في كثير من الصفوف، يُصنّف أيّ تجاوز للصمت أو الحركة على أنّه "فوضى". لكنّ "المقعد الفارغ" كان شاهدًا على لحظات تحوّلت فيها الفوضى إلى تعليم حقيقيّ، يرويها قائلًا: رأيت تلميذًا لا يهدأ، يُحرّك قدميه باستمرار. لم يكن متمرّدًا، بل كان عقله يعمل أسرع من الدرس. حركته كانت حاجته إلى التفريغ، لا إلى التمرّد. وكم من مرّة رأيت كيف تحوّلت حركات مشاغبة إلى نشاط تفاعليّ، حين غيّر المعلّم طريقة شرحه. وشاهدت ورقة كتبها تلميذ آخر بطريقة ساخرة، جعلت المعلّم يُعيد التفكير في أسلوبه، وانفتاحه على روح الدعابة فتح بابًا لإعادة الانضباط داخل الصفّ، لا لفرض النظام، بل لتكييفه مع الواقع الحيّ للطلّاب. 

 

- من يُقصى إلى الخلف؟ نظرة نقديّة للمقاعد الأخيرة 

من المفارقات الرمزيّة أنّ المقاعد الخلفيّة غالبًا ما تكون "منفى تربويًّا"، يُرسل إليها من يُصنّف أنّه مُشتّت أو مشاغب أو غير منضبط. وكأنّ الصفّ الأماميّ للفهم، والخلفيّ للإقصاء. 

لكن، قليلًا ما يُسأل: لماذا يخرج هذا الطالب عن النسق؟ من يُرسَل إلى الخلف قد لا يكون أقلّ ذكاءً أو التزامًا، لكنّه فقط لا يُشبه النموذج التقليديّ. فالمقاعد الأخيرة ليست مساحة للفوضى، بقدر ما هي مرآة للقصور في أدوات التفاعل. لو اقترب المعلّم منها قليلًا، سيكتشف كم من الجواهر تقبع هناك، تنتظر فقط فرصة للظهور. 

 

- ضبط الصفّ يبدأ من بناء العلاقة الإنسانيّة 

الصمت لا يُنتِج بالضرورة صفًّا منضبطًا، كما إنّ النشاط لا يُترجم دائمًا إلى فوضى. ما يحتاج إليه الصفّ حسّ العلاقة الإنسانيّة. فكثير من الطلّاب لا يحتاجون إلى صراخ، بل إلى سؤال بسيط: "كيف تحبّ أن تتعلّم؟" هذا السؤال وحده قد يكون نقطة تحوّل. ويتّضح مفهوم الانضباط، حين ينبع من تقدير الطالب وشعوره بالأمان والاحترام. يتحوّل إلى ممارسة ذاتيّة، لا إلى إجراء مفروض خارجيّ. فالانضباط الحقيقيّ نتيجة للثقة وليس الخوف. والتعلّم الحقيقيّ لا يُقاس فقط بدرجات الامتحان، بل بكمّ الأمان الذي يشعر به الطالب داخل الصفّ.  

وأنا، المقعد الأخير، رأيت كيف تصنع كلمة لطيفة فرقًا، وكيف يمكن لنظرة قاسية أن تُطفئ حماسًا. 

 

- نداء من الصفّ الأخير 

أتمنّى لو يُصغي الصفّ ذات يوم إلى ما تقوله زواياه. أن تُفتح النوافذ على من يجلس في الخلف. أن يُسأل من لا يشارك، ويُشجّع من يتلعثم، ويُفهم من يخطئ. فأنا "المقعد الأخير" الذي طال صمته، أكتب الآن نيابة عن كثيرين مرّوا بي، ولم يُسمع لهم صوت. ففي كلّ صفّ حكايات غير مرئيّة، تنتظر فقط من يُنصت. مذكّراتي ليست لتثير الشفقة، بل لتفتح نافذة؛ نافذة يرى منها المعلّمون ما لا تقوله الخطط الدراسيّة، ولا تظهره نتائج التقويم. فأنا مجرّد مقعد... لكنّني رأيت كلّ شيء. 

 

***** 

في النهاية، يبقى "المقعد الفارغ" رمزًا تربويًّا عميقًا. ليس فقط لما يُقصى، وإنّما لما يُغفل أيضًا. فالتلميذ الذي لا يُفهم، لا يمكن أن يُضبط، وضبط الصفّ في عمقه لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل: من ضبط القيم والتوقّعات ومساحة التعبير. وربّما كان صوت المقعد الخشبيّ الصامت يقول دائمًا: "اضبط القلب أوّلًا… قبل الصفّ".