تجربة "تماميّة" في بناء القدرات القياديّة
تجربة "تماميّة" في بناء القدرات القياديّة
رلى عبد الحميد | مديرة مدرسة البيان – الأردنّ

تهدف هذه المقالة إلى عرض تجربة مدرسة خاصّة أردنيّة "البيان" مع مشروع "تمام". تأسّست المدرسة عام 1983، وانضمّت إلى المشروع في عام 2013. تهدف المقالة أيضًا إلى تعريف القارئ بأثر مشروع تمام التطويريّ في تمكين أعضاء فريقه في المدرسة من الكفايات القياديّة، وانعكاسه الإيجابيّ على ثقافة المدرسة عمومًا.

 

انطلاقة تمام في مدرسة البيان

بدأت القصّة في شهر تشرين الثاني من العام 2013، إذ حضرت المديرة العامّة للمدرسة، السيّدة بشرى عبد الحميد، مؤتمرًا في سلطنة عُمان لمشروع التطوير المستند إلى المدرسة "تمام". وقد وجدت أنّ برنامجه التدريبيّ يهدف إلى بناء القدرات القياديّة عند أعضاء المدرسة، ليكونوا عناصر تغيير في مؤسّساتهم التربويّة من أجل تحويلها إلى مجتمعات مهنيّة تعلّميّة متجدّدة. وأنّ السياسة التشاركيّة في المدرسة تتقاطع مع إحدى ركائز تمام، ألا وهي "القيادة التشاركيّة نحو التطوير المستمرّ".

بدأنا الرحلة بتشكيل فريق من المتطوّعين من إداريّين ومعلّمين، وتسميتهم "فريق تمام القياديّ"، وذلك بمساعدة الفريق الموجّه من الجامعة الأميركيّة في بيروت، ومدرّبي الأردنّ _من المدرسة العصريّة_ الذين كانوا يتابعوننا عن كثب. كان من المهمّ للفريقين، الموجِّه والمدرِّب، جمع بيانات أوّليّة من أجل التعرّف على الكفايات، والمهارات القياديّة الموجودة لدى الفريق القياديّ على الصعيدين الفرديّ والجماعيّ. عليه، عملنا على تعبئة شبكة تشخيصيّة على مستوًى فرديّ، وشكّلنا مجموعةَ تركيز ليستخلص الفريق الموجِّه بيانات عن مهاراتنا الجماعيّة بوصفنا فريقًاً، وكذلك عبّأنا استبانات خاصّةً بالمدرسة للتعرّف أكثر على سياقها وسياساتها.

 

الرحلة التطويريّة: التعلّم بالممارسة

بعدها، بدأنا بحضور سلسلة من الورشات التدريبيّة عرّفتنا برؤية مشروع تمام، ومنهجيّته، ومرتكزاته المهنيّة، وبرنامجه التدريبيّ الذي يشتمل على استراتيجيّات لتدريب الممارسين التربويّين من داخل ممارستهم، تتمحور حول انخراطهم في رحلة التطوير المستند إلى المدرسة التي تتألّف من سلسلة محطّات تنطلق بتحديد حاجة تطويريّة ملحّة، وتصميم مبادرة تجديديّة لسدّ هذه الحاجة، وتنفيذ المبادرة التجديديّة، ومتابعتها، وصولًا إلى تقييمها.

مع انطلاقة الرحلة التطويريّة، طُلب من فريق المدرسة البحث عن حاجة ملحّة، أو ما يعدّون تطويره الأكثر أهمّيّة في المدرسة، إذ إنّ إحدى ركائز تمام هي القرارات المبنيّة على الحاجات. وكان لا بدّ من تتبّع خطوات البحث الإجرائيّ، للتعرّف على حاجات المدرسة حتّى نتأكّد أنّ قراراتنا المتعلّقة بتحديد الحاجة، وفهم مسبّباتها والظروف المؤدّية إليها مستندةٌ إلى حاجة يتّفق الجميع على كونها ضروريّةً ذات أهمّيّة، ممّا استدعى خوض أعضاء الفريق نقاشات عديدة، ودخولهم مراحلَ طويلةً من التفكّر والتقصّي من أجل تحديد هذه الحاجة لنبني عليها غاياتنا التطويريّة.

عملنا على تحليل رؤية المدرسة ورسالتها. كانت هذه المرّةَ الأولى التي نفعل فيها هذا بوصفنا فريقًا، وهو ما تطلّب بعض الوقت لنتعمّق في فهم ما ترمز إليه رؤية المدرسة، وما تطمح إليه رسالتها. وبعد الكثير من التحليل والنقاشات، تولّد لدينا شعور بوجود مشكلة متعلّقة بسلوك الطلّاب، ولكن لم يكن ممكنًا لنا أن نبني على شعورنا دون دلائل واضحة. لذا، كان لا بدّ من استقصاء استخدمنا فيه أدوات مختلفة، فأجرينا مقابلةً مع المدير العامّ _وهي ذاتها مؤسّسة المدرسة_ لفهم مدى تطابق الرؤية التي وُضعت قبل 35 عامًا مع الواقع الحاليّ للمدرسة، ومدى تحقّقها. وأجرينا مقابلات كذلك مع منسّقي الأقسام، وطلبنا إليهم تحديد الحاجات التي يرونها مهمّةً. وبعد جمع تلك البيانات، والاطّلاع على كشوفات الإرشاد وسجلّاته الموثّقة في المدرسة، أصبح لدينا صورة مبدئيّة عن الحاجة التطويريّة للمشروع.

لأنّ الأدلّة لم تكن كافيةً لفهم الممارسات القائمة المتعلّقة بسلوك الطلبة، صمّمنا استبانةً للمعلّمين للتعرّف أكثر على الممارسات الفعّالة داخل الغرفة الصفّيّة، وهذا استدعى استخدام أداة قياس أخرى للتأكّد من صحّة هذه النتائج، ألا وهي الملاحظة، وبموافقة الإدارة ودعمها، عملنا على حضور الحصص، وملاحظة بنود الاستبانة التي عبّأها المعلّمون، وطريقة تعامل المعلّم مع الطالب، وكذلك العكس. كان هذا من الناحية السلوكيّة فقط، للتأكّد من صحّة خيار الفريق، ووضوح الحاجة المحدّد من قبله.

عقدنا بعدها عددًا من مجموعات التركيز المكوّنة من أعضاء من الهيئة التدريسيّة، وطرحنا مجموعةً من الأسئلة التي تتعلّق بما تبقّى من تساؤلات وشكوك. مع هذا الحجم الكبير من البيانات، أصبح من الضروريّ الانخراطُ في الكثير من الحوارات التفكّريّة ضمن الفريق لتحليل البيانات، وفهم دلالاتها، بالإضافة إلى جمع الأدلّة، وضمن التجربة التعلّميّة التي صمّمها لنا فريق تمام الموجِّه، كان لا بدّ لأعضاء الفريق من الرجوع للأدبيّات المتعلّقة بالإدارة الصفّيّة، وسلوك الطلّاب، واستشارة أصحاب التخصّص عند اللزوم لبناء منظومة معرفيّة حول الحاجة التطويريّة، لتكون كافيةً لرصد جوانبها وأسبابها جميعًا، في سبيل اتّخاذ القرار المستند إلى الأدلّة.

استطعنا تحديد الحاجة وهي: تحسين سلوك الطلبة بما يتناسب مع رؤية المدرسة ورسالتها. وعليه تمّت صياغة التصوّر المثاليّ لمشروعنا التطويريّ: "أن يكون سلوك طالب مدرسة البيان داخل المدرسة متوافقًا مع رؤية المدرسة ورسالتها، وبذلك يكون منضبطًا ذاتيًّا وفقًا لقوانين الانضباط المدرسيّ". بعد تحديد الحاجة ووضع التصوّر المثاليّ، وضعنا الأهداف التطويريّة والإجرائيّة، وكذلك خطط التنفيذ والمتابعة، وصولًا إلى التقييم، ومأسسة المبادرة التجديديّة في الهيكليّة التنظيميّة والثقافيّة للمدرسة. في كلّ هذه المحطّات، تكرّر استعمال الكفايات القياديّة، وتعزّز اكتسابها أكثر، حتّى باتت جزءًا من القيم المهنيّة الموحّدة المتعارف عليها في ثقافة المدرسة.

 

مكتسبات تجربة تمام في مدرسة البيان

نتج عن مشاركة مدرسة البيان في مشروع تمام، وبرنامجه التدريبيّ تجربةٌ تعلّميّةٌ حقّقت مكتسبات على الصعيدين الفرديّ والجماعيّ للفريق القياديّ، بالإضافة إلى مكتسبات على مستوى ثقافة المدرسة عمومًا، وفوق ذلك على تعلّم الطلبة.

  • على صعيد بناء القدرات القياديّة للفريق وتطوّر تعلّمه مهنيًّا

أدرك المعلّم دوره الحقيقيّ الذي لا ينحصر في الغرفة الصفّيّة، فأصبح التطوير يصدر من القاعدة، من المعلّم إذ يبحث عن الحاجة مستندًا إلى الأدلّة، وبناءً على ذلك يضع تصوّرًا مثاليًّا (حلمًا)، يطمح للوصول إليه، ويعمل على تصميم خطّة تطويريّة تبدأ من تحديد الأهداف، وتنتهي بقياس الأثر، ليتحقّق التطوير والتغيير منبثقًا ومنسجمًا مع رؤية المدرسة ورسالتها وأهدافها.

أحدث الانخراط في الرحلة التماميّة تغييرًا جوهريًّا انعكس بوضوح على الفريق خلال الرحلة، واستمرّ إلى ما بعدها. تمثّل ذلك في اكتساب مهاراتٍ عديدةً، مثل آليّة جمع البيانات، وتحليلها، وتنظيمها، وكذلك الانفتاح على الآخرين، ومشاركة البيانات والمعلومات معهم، ما سهّل نقل هذه المعرفة والخبرات إلى الزملاء في المدرسة، وأدّى إلى نقل الطريقة التماميّة في التعامل مع القضايا المهمّة في عملنا اليوميّ، واستخدامها من قبل الآخرين.

علاوةً على ذلك، أصبح العمل على قيادة المشروع التطويريّ أكثر شفّافيّةً ووضوحًا. الملاحظات التي تُعطى خلال سير العمل بوصفها نقدًا بنّاءً كانت تستقبل بوصفها تهدف إلى التحسين والتطوير. اتّحدت ركيزة التعاون المهنيّ مع سياسة المدرسة في تبادل الخبرات بالزيارات الصفّيّة، والملتقيات التدريبيّة التي تعقدها المدرسة منذ سنين بهدف التطوير المستمرّ، وساعد هذا في زيادة تفاعل أعضاء الفريق القياديّ في العمل، وبناء روح الفريق بينهم. ساعد ذلك أيضًا في تعاون باقي أعضاء أسرة المدرسة في تحقيق أهداف الفريق في أثناء جمع الأدلّة، وكذلك في مرحلة تنفيذ المشروع. أصبح مصطلح الرعاية المهنيّة مألوفًا في المدرسة، وأثناء عمل الفريق على المشروع التطويريّ، استعان الفريق بخبرات المدارس الرديفة المشاركة في برنامج تمام في الأردنّ للإفادة من تجاربهم. وفي كلّ مرحلة من مراحل الرحلة، خاض أعضاء الفريق عمليّة توثيق منظّمةً مستمرّةً بهدف ضمان استمراريّة أثره في المستقبل حال رغبة أيّ فرد بالاطّلاع عليه أو تطويره. وقد وثّقت التجربة في تقرير نهائيّ منشور على موقع تمام.  

 

  • على مستوى ثقافة المدرسة المهنيّة

رغم أنّ المشاركة في برنامج تمام التدريبيّ اقتصرت على فريق المدرسة القياديّ، انعكس الانخراط فيه إيجابًا على ثقافة المدرسة، فانتشر التعاون المهنيّ بين أعضاء الهيئة التعليميّة، كما أصبحت فكرة أخذ القرارات بناءً على أدلّة، والمطالعة حول موضوع ما، وزيادة المعرفة به أركانًا أساسيّةً لدينا. وقد كان تبنّي هذه الممارسة المهنيّة واضحًا بقوّة في ظلّ أزمة الجائحة، حين درست الإدارة السيناريوهات المختلفة، من أجل اتّخاذ قرار حول أفضل سيناريو يجب تبنّيه.

خلال المرور بمحطّات "رحلة تمام التطويريّة"، ترسّخت ثقافة التطوير المهنيّ، وأصبحت ركيزةُ التعلّم بالتجريب من ركائز العمل اليوميّ على الصعيد الإداريّ والتعليميّ. الدليل على ذلك ظهور بعض المعلّمين المبادرين في طرح أفكار جديدة بهدف تجربة أسلوب مبتكر أو فكرة يُقاس أثرها، وأصبح تقبّل المعلّم لتطبيق فكرة تجديديّة داخل الغرفة الصفّيّة يحدث بمقاومة أقلّ.

هنا، قد يُطرح سؤال: كيف انعكست هذه التجربة على تعلّم الطالب وإدارة الغرفة الصفّيّة؟ لذا دعونا ننظر إلى هذا الجانب. لقد أصبح لدينا معلّم يمتلك مهارة جمع البيانات والأدلّة، ويستخدمها من أجل إصدار قرارات أكثر مصداقيّة ومنهجيّة، ممّا يخوّله تحديد مستوى أداء الطالب على أساس تحليل التقييم والأداء، ومن ثمّ وضع خطّة علاجيّة ملائمة. فوق ذلك، فإنّ بناء الثقة بين الزملاء لتبادل الخبرات يجعل من مدّ يد العون لأحد الزملاء سلوكًا يبعث على الراحة، ويزيل أيّ تحفّظ. هكذا أصبح طلب المساعدة نقطة قوّة لا ضعف، فانعكس هذا المناخ التعلّميّ التطويريّ على تعلّم الطالب داخل الغرفة الصفّيّة. أصبح الطالب أكثر استقلاليّةً، وبات محبًّا للتعلّم والمعرفة، لأنّ لديه معلّمًا قدوةً في نشر هذه الرسالة للطلبة.

 

خلاصة

بعد تسع سنوات على انضمامنا لمشروع تمام، سواء كمدرسة أو كأفراد، يمكننا القول: إنّ برنامج تمام لبناء القدرات القياديّة قد حقّق أهدافه المرجوّة على صعيد بناء القدرات القياديّة للفريق، ولأعضاء الهيئة التعليميّة، بل وزاد على ذلك تبنّي الكفايات القياديّة ورحلة تمام التطويريّة بوصفها قيمًا وأعرافًا مهنيّة، وآليّات تطوير دمجت في الهيكليّة الثقافيّة، والتنظيميّة للمدرسة. أصبحت مراجعة خطوات العمل ركيزةً أساسيّةً في عملنا، ومثلها تقييمُ العمل عبر محطّات متابعة، وتعديل الخطّة إن لزم الأمر. وهو ما جعل لغتنا وآليّة عملنا أكثر مهنيّةً. رحلتنا في تمام جعلتنا أكثر تمرّسًا، وأكثر ثقةً. ساعد اكتسابنا للكفايات القياديّة على تقليل المركزيّة في المدرسة، وتوزيع المهمّات والمسؤوليّات بين الأفراد حسب الخبرة، والتخصّص.