الكتاب المدرسيّ: أداة تعلّم أم عائق أمام التحرّر؟
الكتاب المدرسيّ: أداة تعلّم أم عائق أمام التحرّر؟
وئام حمدان | باحثة دكتوراه - فلسطين / بريطانيا

على الرغم من التحوّلات المتسارعة في النظم التعليميّة حول العالم، لا يزال الكتاب المدرسيّ يشكّل محورًا رئيسًا في ممارسات التعليم والتعلّم، لا سيّما في السياقات التي تعاني محدوديّة الموارد التربويّة. إلّا أنّ هذا الحضور المستمرّ يثير إشكاليّة مركزيّة: إلى أيّ مدى يمكن للكتاب المدرسيّ أن يظلّ المصدر الأساس للمعرفة، في ظلّ واقع معرفيّ متغيّر ومفتوح ومتعدّد الوسائط؟ وهل يسهم تقييد التعلّم بنصّ جامد في بناء متعلّمين ناقدين ومستقلّين وواعين رقميًّا؟ 

يقدّم هذا المقال تأمّلًا تربويًّا يستند إلى التجربة الشخصيّة في تدريس اللغة الإنجليزيّة في مدارس فلسطينيّة، وإلى مقاربات نقديّة في التعليم، أبرزها مقاربة Dogme ELT التي طوّرها سكوت ثورنبري، ورؤية منير فاشة للمعرفة الحياتيّة. نحاول بهذا التأمّل مساءلة دور الكتاب المدرسيّ من منظور تحرّريّ، والتفكير في سبل إعادة تموضعه في سياق تعلّم يقوم على الحوار والتجربة والاستقلاليّة. 

 

الإطار النظريّ: من Dogme ELT إلى فاشة – في نقد المعرفة الجاهزة 

مقاربة Dogme في تدريس اللغة، والتي قدّمها سكوت ثورنبري في أوائل الألفيّة الثالثة، قامت على نقد جوهريّ للكتاب المدرسيّ بوصفه نصًّا مُعدًّا مسبقًا، ومفروضًا على المعلّمين والمتعلّمين. تدعو المقاربة إلى تعليم "منزوع الأدوات" (teaching unplugged)، يركّز على التفاعل اللحظيّ في الصفّ، وعلى ما ينشأ من اللغة داخل الموقف التعليميّ، بدلًا من التقيّد بمحتوى الكتاب. المقاربة لا ترفض المحتوى المنظّم، لكنّها تضع أولويّة للمعنى الحيّ والموقف التربويّ القائم على الحوار. 

يلتقي هذا الطرح مع النقد الذي يقدّمه منير فاشة للمعرفة "المدرسيّة" التي تنفصل، في كثير من الأحيان، عن حياة المتعلّم. يشير فاشة إلى أنّ والدته التي لم تلتحق بمدرسة رسميّة قطّ، كانت تمارس، في ممارستها الخياطة، رياضيّات حيّة ومرتبطة بسياقها اليوميّ، خلافًا للرياضيّات "الرمزيّة" التي تعلّمها في المدرسة، والتي افتقرت إلى المعنى. يرى فاشة أنّ المعرفة لا تُختزل في الكتب والمناهج، بل تتشكّل داخل العلاقات والسياقات والخبرات. 

تمثّل هاتان الرؤيتان نقدًا تربويًّا لمركزيّة الكتاب المدرسيّ، وتفتحان أفقًا لتخيّل ممارسات تعليميّة بديلة تقوم على المعنى والحوار والاستقلاليّة. 

 

بين النصّ والتجربة: تعليم اللغة في السياق الفلسطينيّ 

على مدار سنوات من التدريس في فلسطين، لاحظت أنّ الممارسات الصفّيّة تدور في الغالب حول محتوى الكتاب، وأنّ جودة التعلّم تُقاس بمدى "تغطية" الصفحات المقرّرة. في أحد الفصول، طلبت من المتعلّمين كتابة نصّ حرّ عن موضوع يهمّهم. تفاجأ البعض بالطلب، وسألني أحدهم: "مش لازم نكتب من الكتاب؟" هذه اللحظة العفويّة كشفت عمق التعلّق بالمادّة المطبوعة، وإلى أيّ مدى أصبحت المعرفة بالنسبة إلى الطالب شيئًا خارجيًّا يُعيد إنتاجه، بدلًا من أن يخلقه أو يُسهم فيه. 

هذا النمط من التعلّم التكراريّ الذي يقوم على التلقين والاختبار، لا يفتح المجال أمام تكوين المهارات الحاسمة، مثل التفكير النقديّ، والربط بين المعارف، وتقييم المعلومات. بل أكثر من ذلك، إنّه يُضعف ثقة الطالب بنفسه، ويؤخّر بناء استقلاليّته. 

 

نقد اصطلاح "مهارات القرن الحادي والعشرين" وسياق التعلّم العربيّ 

غالبًا ما يُشار إلى التفكير النقديّ، والقدرة على التقييم، والربط بين المعارف، والوعي الرقميّ، على أنّها من "مهارات القرن الحادي والعشرين". غير أنّ هذا التصنيف، على رغم انتشاره العالميّ، قد يغفل حقيقة أنّ هذه المهارات ليست جديدة بالمعنى الجوهريّ، بل امتداد لما كان يُمارَس في بيئات تربويّة حرّة قبل فرض أنظمة القياس الممركزة. 

في السياق العربيّ، على سبيل المثال، نجد في فكر خليل السكاكيني وتجربته ملامح تربية نقديّة حُرّة سبقت هذا التصنيف الزمنيّ بكثير؛ فقد دعا السكاكيني إلى تربية تنبُت من الحياة، لا من الكتب، وركّز على أهمّيّة تطوير شخصيّة المتعلّم، لا فقط حشو ذاكرته بالمعلومات. فالتعليم في فكره كان تفاعلًا حيًّا، لا تكرارًا لمحتوى جامد. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ "مهارات القرن الحادي والعشرين" كانت حاضرة في رؤى تربويّة عربيّة سابقة، لكنّ التحوّلات السياسيّة والاقتصاديّة، وظهور أنظمة التقييم الممركزة، مثل "التوجيهيّ"، غيّرت معنى التعلّم نفسه. 

لقد أسهمت هذه الأنظمة في تحويل المعرفة إلى مادّة اختباريّة، وربطت النجاح بالتذكّر لا بالفهم، وبالحفظ لا بالتحليل. وأصبح الكتاب المدرسيّ المرجع الأوحد للنجاح الأكاديميّ، ما عمّق تبعيّة الطالب للنصّ، وأضعف ثقته في تجربته الذاتيّة. 

تساعدنا العودة إلى شخصيّات تربويّة عربيّة مثل السكاكيني في استعادة جذور محلّيّة لفكرة التعلّم النقديّ والتحرّريّ، وتُذكّرنا أنّ التعلّم الذي يتجاوز الكتاب ليس اختراعًا جديدًا، بل استعادة لما طُمس تحت هيمنة الاختبارات والمؤشّرات والمعايير. 

 

التحوّل إلى الاستقلاليّة: فجوة المدرسة – الجامعة 

أحد التحدّيات الملحوظة في النظام التعليميّ الفلسطينيّ يتمثّل في الانفصال المفاجئ بين طبيعة التعلّم في المدرسة وبين متطلّبات التعلّم الجامعيّ. يُطلب من المتعلّم في الجامعة أن يكون مستقلًّا، قادرًا على البحث والتحليل والتفكير النقديّ، بينما لم تُتح له، خلال 12 عامًا من التعليم المدرسيّ، سوى فرص ضئيلة لممارسة هذا النمط من التعلّم. 

هذا الانفصال لا يقتصر على السياق الفلسطينيّ فقط، لكنّه يأخذ بعدًا خاصًّا في ظلّ التحدّيات البنيويّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي يعيشها الطلبة والمعلّمون. ومع ذلك، يمكن تجاوز هذه الفجوة بإعادة بناء العلاقة بين الطالب والكتاب المدرسيّ، ليصبح الأخير نقطة انطلاق، لا نقطة نهاية، في رحلة التعلّم. 

 

الوعي الرقميّ والتعلّم الناقد: الحاجة إلى تساؤل دائم 

في زمن وفرة المصادر، لم تَعُد المعضلة في نقص المحتوى، بل في القدرة على التمييز بين المحتويات وتقييمها وربطها بالسياقات المختلفة. وهذا ما يُعرف بالوعي الرقميّ الذي يُعدّ اليوم من أهمّ مكوّنات التربية المعاصرة. 

لكنّ هذا الوعي لا ينشأ في بيئة تعليميّة تقوم على النقل والحفظ، بل في بيئة تسمح بالخطأ، وتشجّع على التساؤل، وتُعيد الاعتبار للتجربة والسياق. حين يُربّى الطالب على أنّ هناك "إجابة صحيحة واحدة" في آخر كلّ درس، يصعب عليه أن يتعامل مع عالم مفتوح متعدّد الأصوات، يتطلّب فحصًا وتحليلًا مستمرّين. 

إنّ بناء وعي رقميّ ناقد مسؤوليّة تربويّة، لا تقلّ أهمّيّة عن مسؤوليّة إكساب المهارات اللغويّة أو الرياضيّة. وهو لا يتحقّق من دون تدريب المعلّمين على الممارسات الصفّيّة التي تدعم الحوار، وتُدرّب على أدوات التفكير، لا على أدوات التقويم وحسب. 

 

نحو "دوغما" عابرة للموادّ: كيف نُطبّق مبادئ Dogme في تدريس مختلف التخصّصات؟ 

على رغم أنّ مقاربة Dogme ظهرت في حقل تعليم اللغة الإنجليزيّة، إلّا أنّ المبادئ التي تقوم عليها – مثل التعلّم التشاركيّ والحوار والمحتوى المنبثق من السياق – يمكن أن تُشكّل أساسًا لتعليم أكثر إنسانيّة ومرونة في مختلف الموادّ الدراسيّة، بما فيها العلوم والرياضيّات والدراسات الاجتماعيّة، وحتّى التربية الإسلاميّة. 

1. التعلّم المنبثق من المتعلّمين (Emergent Content)  

بدلًا من فرض محتوى محدّد من الكتاب، يمكن للمعلّمين أن ينطلقوا من أسئلة الطلّاب واهتماماتهم وتجاربهم اليوميّة. على سبيل المثال، يمكن في حصّة رياضيّات ربط المفاهيم بالمواقف الواقعيّة (مثل إدارة المصروف، أو قياس مساحة الغرفة). وفي مادّة العلوم يمكن طرح قضايا بيئيّة من المجتمع المحلّيّ، بدلًا من التركيز على أمثلة نظريّة بعيدة. 

2. الحوار منهجًا 

في Dogme، الحوار ليس مجرّد وسيلة، بل أساس التعلّم. في كلّ المواد، يمكن للمعلّمين اعتماد أسئلة مفتوحة، ومناقشات جماعيّة، وعروض تفاعليّة لطرح المفاهيم بطريقة تسمح بالتفكير النقديّ والربط والتقييم. في التربية الإسلاميّة مثلًا، تمكن مناقشة معنى آية أو حديث في ضوء واقع الحياة اليوميّة. 

3. دور المعلّم الميسّر 

ينتقل دور المعلّم في Dogme من ناقل للمعرفة إلى مُيسّر للنقاش ومرافق للتفكير. في جميع الموادّ، يمكن للمعلّم أن يشجّع على بناء المعنى بدل تقديمه جاهزًا. ففي الدراسات الاجتماعيّة، تمكن مثلًا مناقشة مفهوم "الهويّة" باستخدام سير ذاتيّة وموضوعات من حياة المتعلّمين أنفسهم، بدل الاكتفاء بتعريف جامد من الكتاب. 

4. الاستغناء التدريجيّ عن النصّ الثابت 

لا تدعو Dogme إلى إلغاء الكتاب كلّيًّا، بل إلى إعادة تموضعه. يمكن للمعلّمين استخدام الكتاب نقطة انطلاق، لكن من دون أن يُشكّل المرجع الحصريّ أو الإطار الضيّق. في موادّ مثل العلوم، يمكن استخدام الكتاب لفهم الأساس النظريّ، ثمّ الانطلاق في تجارب عمليّة أو دراسات حالة محلّيّة. 

5. التقييم التكوينيّ بدلًا من التلخيصيّ 

تشجّع Dogme على التقييم التكوينيّ (Formative Assessment)، بالاعتماد على ملاحظات الصفّ، والمشاريع القصيرة، والأنشطة الجماعيّة. يمكن للمعلّمين من كلّ التخصّصات اعتماد تقييمات مرنة تقيس القدرة على التفكير والتواصل والفهم، وليس فقط القدرة على حفظ المعلومة. 

 

خطوات مقترحة 

مركزيّة الكتاب المدرسيّ في السياقات التعليميّة العربيّة ليست فقط قضيّة أدوات ومحتوى، بل تعبيرًا عن بنية أعمق في فهمنا للتعلّم نفسه. في ظلّ التحوّلات التكنولوجيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة التي يعيشها العالم اليوم، لم يعُد كافيًا أن نُعيد كتابة الكتب، بل علينا أن نُعيد التفكير في موقعها ووظيفتها، وعلاقتها بالطالب والمعلّم والمجتمع. 

بالتأمّل في مقاربات مثل Dogme ELT، ورؤى منير فاشة، وتجارب تربويّة محلّيّة، نكتشف أنّ ما نحتاج إليه ليس المزيد من المحتوى، بل إعادة توجيه للمعنى، وإعادة تعريف لدور المعلّم، وإعادة تمكين للطالب بصفته فاعلًا أساسيًّا في إنتاج المعرفة. التعليم ليس سلسلة من الإجابات النموذجيّة، بل فعل تفاعل وبحث وسؤال. 

إذا أردنا تعليمًا يحرّر لا يقيّد، ويُنمّي التفكير لا التكرار، فإنّنا بحاجة إلى تحوّل جذريّ يبدأ من داخل الصفّ، ويمتدّ إلى فلسفة النظام التعليميّ برمّته. 

الكتاب المدرسيّ ليس عدوًّا للتعلّم، لكنّه ليس ضامنًا له أيضًا. مشكلته تبدأ حين يُمنح سلطة مطلقة، ويُعامل أداة وحيدة لنقل المعرفة. المطلوب اليوم إعادة التفكير في موقع الكتاب داخل النظام التعليميّ، لا لإلغائه، بل لإدماجه ضمن رؤية أوسع وأكثر مرونة وتعدّدًا. 

 

بناءً على ما سبق، نقترح: 

1. تحويل دور الكتاب المدرسيّ من مرجع إلى منصّة: باستخدامه نقطة انطلاق لمناقشات وموضوعات متعلّقة بالعالم الحقيقيّ. 

2. تدريب المعلّمين على التكييف والتحوير: لا لتطبيق محتوى الكتاب كما هو، بل لإعادة ربطه بالسياقات اليوميّة والاجتماعيّة. 

3. دمج مبادئ التعليم النقديّ والتجريبيّ في بناء المنهاج، مستلهمين من مقاربات مثل Dogme وPedagogy of the Oppressed. 

4. توفير مساحات آمنة للطلبة للسؤال والتجريب، ولو بشكل بسيط في البداية، لتعزيز الاستقلاليّة والوعي الذاتيّ. 

***

في النهاية، المعرفة ليست ما يُكتب في الكتاب فقط، بل ما يُبنى من خلال الحوار والسؤال والتجربة. وما لم نتعامل مع الطالب باعتباره منتجًا للمعرفة، سيبقى الكتاب المدرسيّ أداة تعيد إنتاج الصمت لا التفكير. 

 

المراجع  

  • - Thornbury, Scott & Meddings, Luke. (2009). Teaching Unplugged: Dogme in English Language Teaching. Delta Publishing. 
  • - Fasheh, M. (1982). Mathematics, Culture, and Authority. For the Learning of Mathematics, 3(2), 2–8.