الصالون الأدبيّ للقراءة النقديّة
الصالون الأدبيّ للقراءة النقديّة
لينا أمين القوزي | متعلمة مدى الحياة-لبنان/قطر

يعدّ "الصالون" أو غرفة الضيوف، وفق عادات العرب في حسن الضيافة، مكانًا خاصًّا يُرصَف فيه الأثاث رصفًا خاصًّا، وتُرتَّب فيه التحف والأواني ترتيبًا يُشبه المتحف الوطنيّ. من هنا، نؤثِّث صالوناتنا أو صفوفنا الأدبيّة، مكانًا يُهيّأ بعناية فائقة لاستقبال الضيوف الذين يتلقّفون بدورهم حسن الضيافة، بالمزيد من الإقبال، ويُبادَلون حفاوة الترحيب بفكر جميل، ويردّون الكلام الجميل وحسن المكان باللهفة للقاءات متكرِّرة.

استوحيت فكرة الصالون الأدبيّ من الأديبة الراحلة مي زيادة التي حوّلت بيتها، كلّ ثلاثاء، إلى مجلس يمتلئ بالنقاشات الأدبيّة والفكريّة والنقديّة والاجتماعيّة. فوددتُ لو نؤسِّس لصالونات أدبيّة مصغَّرة، بدلًا من حصص القراءة التي يغلب التلقّي على طابعها التربويّ، والمشاركة الموجَّهة نحو آراء لا تقبل النقد والتفكير بما خلف المقروء.

يسلّط هذا المقال الضوء على أهمّيّة قراءة النصوص الأدبيّة قراءة نقديّة، وذلك بتنظيم صالونات أدبيّة في صفوفنا، وفق خطوات محدّدة وفاعلة.

 

أهمّيّة القراءة النقديّة واستراتيجيّاتها

يعرف جميعنا ما للقراءة من دور مهمّ في بناء المجتمعات وتطويرها، أو كما يقول فولتير: "في قيادة الجنس البشري، بات من اللازم أن ننتقل بالقراءة من حيّز الكمّ إلى حيّز الكيف، ومن التلقّي إلى النقد، أو بالأحرى، من القراءة بذهن متلقِّف إلى القراءة ما بين السطور". وعليه، تعدّ مهارات القراءة النقديّة من الأدوات المهمّة التي يمكن استخدامها في القاعات الصفّيّة لتعزيز فهم الطلّاب النصوص الأدبيّة، وتطوير مهاراتهم اللغويّة والتحليليّة. كما تتميّز القراءة النقديّة بتركيزها على تحليل النصّ وتفسيره تفسيرًا عميقًا وشاملًا.

تشمل مهارات القراءة النقديّة مجموعة من الاستراتيجيّات المهمّة، مثل: 

  • - تحليل الشخصيّات والأحداث، حيث تُفهَم شخصيّات النصّ وتُحلَّل دوافعها وتصرّفاتها ومكانتها داخل النصّ. كذلك، تُفهَم الأحداث المهمّة والتغيّرات التي تطرأ عليها. 
  • - تحليل الأسلوب واللغة، حيث يتعرّف الطالب أساليب الكتابة والتعابير التي يستخدمها المؤلِّف في النصّ، ويحلّل اللغة المستخدَمة ومدى تأثيرها في المعنى. 
  • - التركيز على الموضوع والرسالة، حيث يستنبط الطالب موضوع النصّ العام ورسالته، ويحلّل الطريقة التي تُوصَّل بها هذه الرسالة. 
  • - تحليل السياق الاجتماعيّ والتاريخيّ الذي أُنتِج النصّ وفقه. فضلًا عن تحليل التأثيرات الاجتماعيّة والثقافيّة التي تؤثِّر في المعنى. 

يمكن للطلّاب، باستخدام هذه الاستراتيجيّات، أن يحلّلوا النصّ تحليلًا أعمق وأكثر تفصيلًا. وبالتالي، تتطوّر مهاراتهم اللغويّة والتحليليّة ويزيد فهمهم النصّ. كما يساعد استخدام القراءة النقديّة في تنمية قدرة الطلّاب على التفكير النقديّ واتّخاذ القرارات المنطقيّة والمبنيّة على الأدلّة. هذه المهارة مهمّة للغاية في حياتهم الأكاديميّة والمهنيّة في المستقبل، إذ سيحتاجون إلى قراءة النصوص المعقّدة وفهمها وتحليلها في سبيل اتّخاذ قرارات مبنيّة على التحليل والتفكير النقديّ. بالإضافة إلى ما يمكن لاستخدام القراءة النقديّة من مساعدة الطلّاب على تطوير الثقة بالنفس، والتعبير الفعّال عن آرائهم وأفكارهم. يساعدهم ذلك على الكتابة والتواصل عامّةً.  

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للصالون الأدبيّ أن يسهِّل عمل المعلّم في بناء بيئة يتعزّز فيها التعلّم النشط والتفاعليّ في الغرف الصفّيّة، حيث يمكن للطلّاب أن يتناقشوا حول النصّ ويشاركوا آراءهم وتحليلاتهم مع بعضهم بعضًا. كما يمكن لهذا الصالون الأدبيّ أن يكون ميدان التنوّع الثقافيّ واللغويّ والذهنيّة العالميّة، حين يكون النصّ مجالًا للنقد والتحليل، لا للتلقّي والتفسير.

 

خطوات تنظيم صالونات أدبيّة

يمكن تنظيم صفوفنا الدراسيّة صالونات أدبيّة باتّباع الخطوات الثلاثة الآتية:

 

تجهيز الصالون الأدبيّ

Picture1

 

يخرج الصفّ من نطاق شكله التقليديّ، أو النصف دائريّ، إلى شكله المربّع، بحيث يُخصَّص كلّ ضلع من أضلاع المربّع لفئة من الطلّاب (كما هو ظاهر في الشكل). يختار الطلّاب، بدايةً، الطريقة التي يفضّلون بها قراءة النصّ، ثمّ يتّضح لهم، شيئًا فشيئًا، الفريق الأكثر ملاءمة مع كفاءتهم اللغويّة وطريقة تعلّمهم. تحوي أضلاع المربّع أربعة فرق:  

فريق القراءة الجهريّة

يقرأ الطلّاب، في هذا الفريق، النصّ قراءةً جهريّة، ويقتصر دور المعلّم على المراقبة والتأكّد من قراءة الطلّاب النصّ قراءة واضحة وصحيحة. تنمّي القراءة الجهريّة مهارات النطق والتحّدث والتركيز أثناء القراءة. 

فريق القراءة الصامتة

يقرأ الطلّاب، في هذا الفريق، النصّ قراءةً صامتة، لما تنمّيه هذه القراءة من قدرة الطلّاب على التركيز لفهم المعنى. 

فريق القراءة بمساعدة الأقران

يقرأ الطلّاب، في هذا الفريق، النصّ قراءةً مشتركة في ما بينهم، حيث يتبادلون الأدوار ويساعدون بعضهم بعضًا في فهم المعنى وتحليل النصّ. يمكن لهذا الفريق أن يسهِم في تحسين مهارات العمل الجماعيّ والتعاون وتحليل النصّ للطلّاب. 

فريق القراءة بمساعدة المعلّمة

يقرأ الطلّاب، في هذا الفريق، النصّ قراءةً مشتركة بينهم وبين المعلّمة؛ حيث توجِّههم المعلّمة وتوضِّح لهم الكلمات أو الجمل الصعبة، وتتأكّد من فهمهم المعنى فهمًا صحيحًا. يمكن لهذا الفريق أن يساعد الطلّاب على تحسين مهارات الفهم والتحليل، وفهم النصّ بشكل أعمق، إلى جانب مهارات الاستماع والتركيز. 

بعد تحديد المدّة اللازمة للقراءة، يعاد تقسيم الصفّ إلى فرق مختلفة، تبعًا للأدوار المخصَّصة لنقد النصّ.

 

تقسيم الأدوار

Picture2

 

يُقسَّم الطلّاب في هذه الخطوة إلى فرق، يكون لكلّ فرقة منها دور معيّن. قد يختار الطالب دوره، حسب اهتماماته، وقد يحدّد المعلّم مهمّات الطلّاب، إن كان الهدف قياس تطوّرهم، في سبيل دعم تعلّمهم، أو التركيز على مهارة بعينها، تبعًا لنوع النصّ المقروء. من هذه الفرق: 

صيّاد الكلمات

يصطاد الكلمات المفتاحيّة في النصّ، والتي تعدّ أساسيّة لفهم معنى النصّ العام. يبحث عن الكلمات الجديدة التي قد تكون غير مألوفة للقارئ، ويحتاج إلى تفسيرها لفهم المعنى فهمًا صحيحًا. يحاول صيّاد الكلمات البحث عن الكلمات التي تحمل أكثر من معنى، للتأكّد من فهم القارئ المعنى الصحيح للكلمة في السياق الذي استُخدِمت فيه.

العقل اللاقط

هو الشخص الذي يتمّيز بقدرته على التقاط الأفكار الرئيسة والرسائل الواضحة والضمنيّة في النص. يركِّز على الأفكار والمعلومات الرئيسة في النصّ، والتي تُتناوَل مباشرةً أو بطريقة غير مباشرة، ويحاول فهم الرسائل التي يودّ الكاتب إيصالها إلى القارئ.

المحرِّر الصوريّ

يحوّل أحداث النصّ إلى صور ومشاهد مصوّرة، لتسهيل فهم المعنى وتوضيح الرسائل التي يحاول المؤلّف إيصالها. يستخدم المحرّر الصوريّ الخيال والإبداع لتصوير الأحداث والشخصيّات التي تناولها النصّ، ويستخدم الصور ليضيف إليها الحيويّة والواقعيّة. 

الملخِّص

يتمثّل دور الملخِّص في تلخيص أفكار النصّ تلخيصًا موجزًا ومختصرًا. كما يلخِّص الأحداث الرئيسة والنقاط المهمّة. يُعدّ الملخَّص أداة مهمّة لفهم النصّ فهمًا سريعًا وفعّالًا، ويساعد على تذكِّر النقاط الرئيسة في النصّ بشكل أسهل. يُستخدَم الملخَّص عادةً في الدراسة والتعليم، أداةً لمساعدة الطلّاب على فهم النصوص وإعداد الملخّصات والتقارير والأوراق البحثيّة. 

 

استراتيجيّات التفكير المرئيّ

حين ندرك الغاية من دراسة النصّ الأدبيّ، تتغيّر الطريقة التي نقرؤه بها. فالنصوص الأدبيّة: 

  • -تُظهر فهم الأديب للحياة.
  • -تنقل أفكار الناس وثقافاتهم.
  • -تُعرِّفنا إلى تراث الآخرين وعاداتهم وتقاليدهم.
  • -تُشكِّل همزة وصل بين الماضي والحاضر.
  • -تُزوِّد القارئ بالفكر، وتمدّه بالمعارف والمعلومات.
  • -تُنمِّي القيم الروحيّة والخلقيّة والإنسانيّة.
  • -تُعرِّفنا إلى قضايا الأمّة ومشكلات العصر.
  • -تُنمِّي المخزون اللغويّ، وترفع مستوى الذائقة الأدبيّة. 
  • -تُوجِّه السلوك الإنسانيّ وتنشئ الأجيال.
  • -تخلق فضاءً يستروِح به العقل ويستمتع به الوجدان.

 

لكي نحقّق الغاية المرجوة من دراسة النصوص الأدبيّة، لا بدّ من استخدام استراتيجيّات التفكير المرئيّ في الصالون الأدبيّ حين نتناول نصًّا مقروءًا. من هذه الاستراتيجيّات:

استراتيجيّة اربط - توسّع - تحدَّ

تشجِّع هذه الاستراتيجيّة القرّاء على إجراء اتّصالات بين معارفهم وتجاربهم السابقة، وتوسيع فهمهم النصّ باكتشاف أفكار جديدة، وتحدّي الافتراضات بالنظر إلى وجهات النظر البديلة. 

استراتيجيّة تكوين الأسئلة

تتضمّن هذه الاستراتيجيّة إنشاء أسئلة حول النصّ لتعميق الفهم وتعزيز التفكير النقديّ. تتضمّن هذه العمليّة إنتاج أسئلة وتحديد أولويّاتها، ثمّ تنقيحها لتطوير أسئلة ذات معنى تحفّز التفكير. 

استراتيجيّة دائرة وجهات النظر

تشجّع هذه الاستراتيجيّة القرّاء على التفكير في وجهات النظر المختلفة حول مسألة أو موضوع معيّن. يتضمّن ذلك تحديد وجهات النظر المختلفة، وفحص الأدلّة والحجج التي تدعم كلّ وجهة نظر، وتقييم مزايا كلّ منظور وعيوبه. 

استراتيجيّة شاهد- فكِّر- تساءل

تتضمّن هذه الاستراتيجيّة مراقبة النصّ وتحليله، والنظر إلى ما يراه القارئ في النصّ، وما يفكِّر فيه، وما يسأل عنه نتيجة ذلك. يشجِّع ذلك القرّاء على التفاعل مع النصّ على مستوى أعمق، واكتشاف تفسيرات ووجهات نظر مختلفة.

استراتيجيّة ادّعاء - دعم- سؤال

تتضمّن هذه الاستراتيجيّة تحديد ادّعاء أو حجّة مركزيّة في النصّ، وفحص الأدلّة والأمثلة المقدَّمة لدعم الادّعاء، ثمّ توليد أسئلة نقديّة.

 

* * *

بناءً على ما تقدّم، نجد أنّ تحويل الصفّ إلى صالون أدبيّ تغيير في النهج التعليميّ الذي يسهِم في تعزيز مهارات التفكير العليا والمهارات الثقافيّة عند الطلّاب. يتمكّن الطلّاب، بتحويل الصفّ إلى صالون، من التفاعل العميق مع النصوص، فيناقشونها مناقشة أجدى، ويربطونها بواقعهم وتجاربهم ويجعلونها مَعينًا لهم لفهم الحياة. الأمر الذي يسهِم في تطوير مهاراتهم النقاشيّة والتحليليّة واللغويّة والأدبيّة، مع توفير فرص تمايز الطلّاب عند اكتشاف تنوّع اهتماماتهم الشخصيّة وكفاءاتهم، ومراعاتها. 

تتطوّر عند الطلّاب، دوافع تعلّم اللغة العربيّة، وفق الحيثيّات الغنيّة والجاذبة التي يتمّ بها الصالون الأدبيّ، فيُقبلون عليها بحبّ وشغف، وينمو وعيهم الثقافيّ والأدبيّ. كما يسهِم ذلك كلّه في تحسين ثقة الطلّاب بأنفسهم، فيصبحون أقدر على التعبير عن ذواتهم والاستماع إلى الآخرين، والفهم والتحليل العميق. يؤدّي ذلك كلّه إلى تطوير مهارات الكتابة والتعبير عامّةً.

قد لا يكون الصالون الأدبيّ الحلّ الجذريّ الذي سيدفع بعجلة التقدّم عند متعلّمي اللغة العربيّة في صفوفنا، ولكنّه وسيلة يُنصَح باستخدامها، ولا سيّما إذا علمتم أنّ عددًا من الطلّاب طبّقوها، ولمسوا نتائجها المشجِّعة.