وكالة المتعلّم بين المفهوم والممارسة
وكالة المتعلّم بين المفهوم والممارسة
علي عز الدين | مستشار ومدرب تربوي-لبنان

تغيّر العالم بين سنتي 2015 و2023، وتطوّر كلّ شيء، لكنّ مدارسنا لا تزال تبحث عن هويّة تواكب بها العصر. مفاهيم جديدة، ومهن جديدة، ومصطلحات جديدة تغزو عالمنا، والصراع بين الأجيال يستمرّ. ومن بين المصطلحات والمفاهيم التربويّة الجديدة، ظهر مفهوم الوكالة Agency، والذي ذكّرني يومذاك بإعلانات وكالات السياحة والسفر التي اختفى عدد كبير منها في يومنا هذا، مع وجود التطبيقات الإلكترونيّة. لكنّ الوكالة أو القوّة المحرِّكة، كما ترجمتها منظّمة البكالوريا الدوليّة، ترتبط بسفر في عالم التعلّم والتعليم. 

بصفتي مدرِّبًا لبرنامج السنوات الابتدائيّة، لم تكن الكلمة جديدة بالنسبة إليّ فحسب، بل لم يكن من السهل أيضًا استخدامها في بعض اللغات، مثل العربيّة أو الفرنسيّة، لأنّ ترجمتها لم تكن واضحة واختلفت من شخص إلى آخر. وعندما نُشِر برنامج السنوات الابتدائيّة المُعدَّل سنة 2018، كان معظم معلّمي البرنامج يناقشون هذا المفهوم بطرح الأسئلة الآتية: ما الوكالة أو القوّة المحرِّكة؟ كيف نطبِّقها؟ ما أهمّيّتها؟ كيف ندرِّب أولياء الأمور عن هذا المفهوم؟ كيف تؤثِّر في تخطيطنا اليوميّ؟ 

 

حول مفهوم وكالة المتعلّم

عرّف (Bandura (2006 الوكالة بقوله: "تنطوي الوكالة على القدرة على اتّخاذ الخيارات ووضع خطط العمل، ووضع مسارات عمل مناسبة للتحفيز وتنظيم التنفيذ". نلاحظ في هذا التعريف أنّ الوكالة مرتبطة بحياتنا اليوميّة وإنجازاتنا، وأنّنا مسؤولون عن تحقيق ذواتنا؛ فنحن أصحاب القرار، ونحن من يتحمَّل مسؤوليّة خياراتنا. لتبسيط هذا الطرح أعود إلى فكرة وكالة السياحة والسفر، حيث كنّا نلجأ إلى الوكيل لتنظيم رحلتنا، أمّا الآن، فنحن وكلاء أنفسنا، ننظِّم رحلتنا من دون الحاجة الى وسيط. حين نُقلِت هذه الفكرة إلى الفصل الدراسيّ، بدأنا نربط مفهوم الوكالة بالطالب والمعلّم. 

اعتمد برنامج السنوات الابتدائيّة نظريّة Bandura في تعريفه مصطلح القوّة المحرِّكة، وربطها بمفهوم الصوت والملكيّة والاختيار، وعبّر عن ذلك بالرسم الآتي:

                                                      

Photo

 

وقدّم تعريفات للمصطلحات:

  • -صوت المتعلّم: يسمع المعلّم للطلاّب، ويتعَّرف إليهم، ويكتشف اهتماماتهم، ويجعلها من صلب عمليّة التعلّم والتعليم.
  • -الاختيار: يقدِّم المعلّم للطلّاب عدّة خيارات، لأنّه يعرف أنّ طلّاب اليوم ليسوا طلّاب الأمس، وأنّ اهتماماتهم وميولهم مختلفة. فتكليفهم بمهمّات مفتوحة تساعد على تطوير تفكيرهم الناقد والإبداعيّ.
  • -الملكيّة: يصبح الطالب شريكًا في عمليّة التعلّم والتعليم، ويناقش ويحلّل ويختار. يتعرّف إلى نواتج التعلّم، ويشارك في وضع معايير النجاح. لم يعد طالب اليوم مجرّد وعاء، بل أصبح يعرف ماذا يريد، ولا دور للمعلّم هنا سوى التوجيه والإشراف والدعم.

 

بالإضافة إلى الصوت والاختيار والملكية، تستخدم الكاتبتان Barbara Bray وKathleen McClaskey (2016) العناصر الآتية لتعريف الوكالة:

  • - الالتزام: يُعتبر الالتزام مهمًّا لتحقيق الأهداف.
  • - الحافز: يُركَّز على الحوافز الداخليّة المرتبطة بالجوائز والمكافآت.
  • - الهدف: يحدِّد الطالب أهدافه في بداية الفصل مع المعلّم، ويصمّم خطّة عمل لاكتسابها وتطويرها. الطالب الذي يجد صعوبة في القراءة، مثلًا، يضع الهدف الآتي: قراءة كلّ يوم لمدّة 5 دقائق، وتسجيل القراءة ومشاركتها مع المعلّم، من خلال تطبيق إلكترونيّ لمدّة شهر. وبعد ذلك يُراجَع الهدف ويُعدّل، بحسب التقدّم الذي حصل. 
  • - الكفاءة الذاتيّة: تشير الكفاءة الذاتيّة إلى مجموعة المعتقدات التي نتمسّك بها حول قدرتنا على إكمال مهمّة معيّنة. فالكفاءة الذاتيّة مهارة مهمّة يمكن أن تساعد الطلّاب في تحصيلهم، وتعزّز صحّتهم العاطفية. 

 

أمّا (Trevor Mackenzie (2018 فيقول: "وكالة الطلّاب هي أكثر من مجرّد توفير خيارات للواجبات. إنّها تتعلّق بتمكين المتعلّمين من فهم ما يحتاجون إليه، وكيف يمكنهم تلبية هذه الاحتياجات". وفي السياق ذاته،  يكتب (Will Richardson (2022 "نحن نخلق الظروف التي يمكن أن تزدهر فيها الوكالة، والتي بموجبها يمكن لطلّابنا خلق قوّتهم الخاصّة".

هذه الظروف التي يتحدّث عنها الكاتب تتعلّق بكلّ شيء يدور في المجتمع المدرسيّ: الإدارة، والمناهج، والمعلّمين، والطلّاب وأولياء الأمور. على الإدارة أن تدعم وكالة المعلّم ليستطيع بدوره دعم وكالة الطلّاب، وذلك عن طريق:

  • - الاستماع إلى المتعلّم وطرح أسئلة تشجّعه على التأمّل والتفكير.
  • - وضع خطط فرديّة للتطوير بمشاركته.
  • - إفساح المجال لإظهار قدراته ودعمها من خلال المشاريع.
  • - إفساح المجال لارتكاب الأخطاء والتعلّم منها.
  • - ربط التعلّم بالواقع، ومنحه معنًى ومغزًى.

تؤثِّر هذه النقاط تأثيرًا كبيرًا في ثقافة المدرسة، وتحوّلها من ثقافة تنافسيّة إلى ثقافة تعاونيّة عند الجميع بحسب قدراتهم.

 

ممارسات تدعم وكالة المتعلّم

أعرض هنا بعض الممارسات التي طبّقتها داخل مدارس عملت فيها، أو شاهدتُها داخل مدارس زرتها. ومن أهمّ هذه الممارسات:

 

أ. مشاركة الطالبِ المعلّمَ التخطيط والتحضير

نشرتُ سنة 2015 مدوّنة بعنوان: هل تسمع صوت المتعلّم؟ ركّزتُ فيها على أهمّيّة دمج الطلّاب في عمليّة التخطيط والـتأمّل. وكانت الندوة مرتبطة بالوحدات التي نصمّمها وندرِّسها في برنامج السنوات الابتدائيّة التابع لمنظّمة البكالوريا الدوليّة. لكنّ هذه الفكرة قابلة للتطبيق في أيّ مدرسة، ومن خلال أيّ منهج؛ فمع بداية السنة الدراسيّة أو الوحدة الدراسيّة، يمكن للمعلّم أن يشارك أهداف التعلّم الخاصّة بالوحدة، ويختار مع الطلّاب الموضوعات التي يرغبون بها:

ففي الصفّ الثالث مثلًا، وفي مادّة اللغة العربيّة، كان على الطالب أن يتعلّم الصفة والموصوف، ويكتب فقرة وصفيّة. في الصفّ الذي ينمّي وكالة المتعلّم، يستبدل المعلّم التمرين الموجود في الكتاب المدرسيّ، ويطلب من الطالب اختيار الشخصيّة أو الصورة التي يرغب بوصفها.  

مثال آخر على وكالة المتعلّم؛ في الاجتماع التحضيريّ في بداية السنة الدراسيّة الذي يحضره منسّق العلوم والمعلّمون، يُقرَّر تخفيف محتوى المنهاج الدراسيّ، ويُركَّز على تدريس مهارات التساؤل والبحث والتعلّم الذاتيّ. وينطلق هذا القرار من أنّ المعرفة أصبحت في متناول الجميع، والذهاب إلى المدرسة في يومنا يجب أن يركِّز على تعليم المهارات، مثل كيفيّة الحصول على المعرفة، وكيفيّة التحقّق من مصدرها. 

 

ب. تعبير الطلّاب عن آرائهم

يعدّ الاجتماع الأسبوعيّ (assembly) مثالًا رائعًا عن تعبير المتعلّمين عن آرائهم؛ فهو من إعداد الطلّاب للطلّاب، يشاركون فيه تعلّمهم والأفكار الجديدة المتعلّقة به مع مجتمع المدرسة كلّه كلّ أسبوع. تختلف هذه الاجتماعات من مدرسة الى أخرى، فبعض المدارس يقسم الطلاب وفق المراحل، وبعضها وفق الصفوف. يشارك الطلّاب زملاءهم خلال هذا الاجتماع عرضًا مرئيًّا، أو مسرحيّةً مغنّاة، أو حملة توعويّة. يشرف المعلّمون على محتوى هذه العروض، ويزوِّدون الطلّاب بالنصائح لتحسينها. 

من ناحية أخرى، يمثّل مجلس الطلّاب ممارسة أخرى نطبِّقها في هذا الصدد، حيث يُقدَّر صوت الطلاّب. في بداية كلّ سنة دراسيّة، تُجرَى انتخابات في كلّ فصل، ويصوِّت الطلّاب لزميلين من زملائهم ليكونا في مجلس الطلّاب. يجتمع المجلس مع فريق القيادة (المدير، ومنسِّق المناهج، ومدير الشؤون الماليّة) مرّة واحدة شهريًّا، ويتبادلون الأفكار لتحسين المدرسة. قد تتعلّق بعض الأفكار بالطعام في الكافيتريا، أو المعدّات في الملعب، أو تصميم حديقة، أو غير ذلك.   

انطلاقًا من تجربتي، شاهدتُ بعض المدارس تعرض على الطلّاب التقارير الخاصّة بزيارات تقييم المدرسة من المنظّمات العالميّة، أو من التفتيش الوزاريّ، وتطلب منهم تقديم مقترحات للتطوير؛ ذلك باعتبار أنّ الطلّاب شركاء في تطوير مدرستهم وتحسينها.

 

ج. توفير فرص للطلّاب لتطوير مهارات عصرهم  

أذكر من بين هذه الفرص احتفال اليوم العالميّ، حيث حُضِّر لهذا اليوم بفرز حصّة واحدة في الأسبوع بين شهرَي يناير ومارس. جُمِع الطلّاب، من الصفّ الأوّل إلى الصفّ الخامس في عشرة فصول مختلفة. ضمّ كلّ فصل طلّابًا من الصفّ الأوّل حتّى الخامس، ووضِع الأخوة في الصفّ نفسه، لتعزيز روح الأسرة والمجتمع الواحد من الطلّاب.

عملت جميع الفصول في هذه الساعات، تحت إشراف معلّمين لعشرة أسابيع، للتعلّم وإعداد عرض تقديميّ عن دولة واحدة. قُدِّمَت العروض في نهاية الفصل الدراسيّ في احتفالنا باليوم العالميّ، وأظهر المتعلّمون الكثير من الإبداع والثقة. عرض الطلّاب عن الدولة التي اختاروها بعض الأفكار والمعلومات، وصمّموا الأزياء المناسبة لها. ساعد طلّاب الصفّ الخامس الطلّاب الأصغر سنًّا، وشكلّت هذه الحصص العشرة فرصة تعلّم مختلف، يمزج طلّاب المرحلة الابتدائيّة، ويجعل منهم قادة.  

يبعدنا هذا المشروع الممتدّ إلى عشرة أسابيع عن الاحتفال الشكليّ الذي يكتفي بعرض الملابس وتناول المأكولات التقليديّة وعرض الرقصات الشعبيّة؛ إذ تحوّل هذا اليوم إلى فرصة تعلّم مُعمَّقة عن العادات والتقاليد والتراث والثقافة، من خلال العمل الجماعيّ. بالإضافة إلى ما يُظهِره من تطبيق المدرسة الأفكارَ الإبداعيّة، بكسر الحواجز بين الصفوف ودمج الطلّاب من فئات عمريّة مختلفة، ليتعلّموا من بعضهم البعض.

 

د. تقديم التغذية الراجعة

يُعتبر اجتماع أولياء الأمور والمعلّمين والطلّاب (الاجتماع الثلاثيّ three ways conference) مثالًا رائعًا عن هذه الممارسة. يُعِدّ المعلّمون مستندات تحتوي على نقاط قوّة الطلّاب والمجالات التي تحتاج إلى تحسين، وذلك بحضور أولياء الأمور الذين يناقشونهم ويكتبون خطّة عمل مع أبنائهم للفصل الدراسيّ القادم. التغذية الراجعة البنّاءة التي تساعد على المضي قدمًا، تسهِم في تعزيز قدرة الطالب على التأمّل والتعلّم من الأخطاء.  

* * *

قد يبدو مفهوم وكالة المتعلّم صعبًا للوهلة الأولى، ولكنّ الممارسات الأربع التي شرحتها توضِح المفهوم أكثر. نبدأ بدعم وكالة المتعلّم بإجراءات بسيطة للغاية من اليوم الأوّل من السنة الدراسيّة، ولا يقتضي ذلك سوى كتابة الاتّفاقات الأساسيّة لمجتمع الطلّاب، أو مشاركة الثقة والاحترام، أو إشراك الطلّاب في تصميم بيئة التعلّم... ستعدّ نفسك وطلاّبك لتجربة غنيّة وفريدة من نوعها للتعلّم والنموّ. علِّم طلّابك كيف يتعلّمون، ودَع لهم الحرّيّة في متابعة الطريق.

 

المراجع

 - Bandura, A. (2006). Toward a Psychology of Human Agency. Perspectives on Psychological Science. 1(2). 164-180.

- Bray, B and McClaskey, K. (2016). How to Personalize Learning.

- Mackenzie, T. (2018). Inquiry mindset.

- Richardson, W. (2022). Playing at Agency: Why Words Matter When It Comes to Learning. Intrepid News.

 https://intrepidednews.com/playing-at-agency-why-words-matter-when-it-comes-to-learning-will-richardson/