في زمن يقدّم فيه الذكاء الاصطناعيّ إجابات جاهزة عن أيّ سؤال، يصير السؤال الأكثر إلحاحًا: هل فقد الكتاب المدرسيّ - ورقيًّا كان أم رقميًّا - قدرته على تنمية التفكير النقديّ؟
تشير دراسات مثل (Wolf, 2018)، إلى أنّ القراءة العميقة تُنشّط الدماغ بشكل لا تفعله المعلومات السريعة. لكنّ العديد من المناهج التعليميّة لا تزال تُصمّم لتكون "نصوصًا مغلقة"، تُكرّس الحفظ بدلًا من التحليل. فكيف يمكن تجاوز هذا العقم؟ وما دور المعلّم في تحويل الكتاب إلى أداة حيويّة؟
أوجه القصور في الكتب المدرسيّة الحاليّة: أمثلة ملموسة
أ. الكتب الورقيّة: جمود المحتوى
على الرغم من التطوّرات التربويّة الهائلة في القرن الحادي والعشرين، لا تزال الكثير من الكتب المدرسيّة تعاني قصورًا بنيويًّا يحول دون تحقيق الغاية الأساسيّة من التعليم؛ أي تنمية التفكير النقديّ والإبداعيّ لدى المتعلّم. فالكتاب المدرسيّ - في كثير من الأحيان - لم يعد ذلك الجسر الذي يعبر به المتعلّم من عالم المعلومات إلى عالم الفهم والتحليل، بل تحوّل إلى مخزن جامد للحقائق والمعلومات التي تقدّم بشكل أحاديّ الخطاب.
تشير الدراسات التربويّة الحديثة إلى أنّ 65% من محتوى الكتب المدرسيّة العربيّة ما يزال يعتمد أسلوب التلقين والحفظ (تقرير اتّحاد الناشرين العرب، 2023)، بينما تقتصر الأنشطة المصاحبة على أسئلة التذكّر والاسترجاع التي لا تتجاوز مستويات التفكير الدنيا، وفقًا لتصنيف بلوم. هذا الواقع يطرح تساؤلًا جوهريًّا: كيف يمكن للكتاب المدرسيّ أن يكون أداة فاعلة في عصر يتطلّب مهارات التحليل والتركيب والتقييم، بينما لا يزال نفسه أسير النمط التقليديّ في عرض المعلومة؟
في هذا السياق، تبرز عدّة أوجه قصور أساسيّة، تشكّل عائقًا أمام تحقيق الأهداف التعليميّة المنشودة، تتراوح بين جمود المحتوى، وضعف الربط بالواقع، وغياب الاستراتيجيّات التي تحفّز مهارات التفكير العليا. على سبيل المثال، يدرّس كتاب التاريخ معاهدة سايكس-بيكو بصفتها حدثًا منفصلًا من دون ربطه بالحدود السياسيّة الحاليّة، أو تداعياته على أزمات الشرق الأوسط اليوم. ويشرح كتاب العلوم "التكاثر الجنسيّ في النباتات" من دون طرح تساؤلات مثل: كيف سيؤثّر التلوّث في هذه العمليّة؟ وذلك بحسب دراسة نُشرت في مجلّة جامعة دمشق (2022). والحقيقة الصادمة أيضًا أنّه في تحليل لمائة كتاب مدرسيّ عربيّ، ظهر أنّ 70% منها لا يحتوي أسئلة تبدأ بـ "لماذا؟" أو "كيف؟" (مركز الدراسات الاستراتيجيّة العربيّ، 2024).
ب. الكتب الرقميّة: وهم التفاعل
تعدّ الكتب المدرسيّة الإلكترونيّة جزءًا أساسيًّا من المنظومة التعليميّة، إذ تُقدّم عبر منصّات تفاعليّة مزوّدة بأنشطة متعدّدة الوسائط. لكن، على الرغم من هذه الإمكانات التقنيّة العالية، تظلّ العديد من هذه الكتب تعاني "التفاعل السطحيّ" ؛ أي اعتمادها على أشكال محدودة من المشاركة لا تتجاوز النقر أو الاختيار من متعدّد، من دون تحقيق عمق تعليميّ وحقيقيّ. فبدلًا من استغلال التقنيّة لتعزيز التحليل النقديّ أو الإبداع، يقتصر تفاعل المتعلّم في كثير من الحالات على:
- - الضغط على إجابات جاهزة، بدلًا من صياغة أفكاره الخاصّة.
- - مشاهدة فيديوهات أو رسوم متحرّكة من دون مناقشة مضامينها.
- - جمع النقاط أو الإنجازات في أنشطة تشبه الألعاب، لكنّها تفتقر إلى التحدّي الفكريّ.
يُفقد هذا النمط من التفاعل الكتاب الرقميّ جوهره التعليميّ، ويحوّله إلى وسيلة تسلية مؤقّتة، بدلًا من كونه أداة لبناء المهارات العليا، مثل التحليل والتركيب والتقييم. فالتفاعل الحقيقيّ لا يُقاس بعدد النقرات، بل بقدرة المحتوى على إثارة التساؤلات، وتشجيع البحث، وربط المعرفة بواقع المتعلّم. وفي تحليل لتجربة "منصّة مدرستي" السعوديّة، تبيّن أنّها تحتوي على 5000 نشاط تفاعليّ، لكنّ 80% منها يعتمد على "سحب وإفلات" الإجابات (وزارة التعليم السعوديّة، 2023). وفي مقارنة مع منصّة "كاهوت" (Kahoot) العالميّة، يظهر فرق كبير في عمق الأسئلة. وعند استخدام متعلّمي الصفّ العاشر في الأردنّ لكتاب رقميّ عن الرواية العربيّة، اكتشف الباحثون أنّ:
- - %90 منهم لم ينقروا على روابط "اقرأ المزيد" عن السياق التاريخيّ للأعمال.
- - %75 اكتفوا بالإجابات الجاهزة من دون كتابة تعليقات نقديّة (جامعة آل البيت، 2024).
في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى إعادة تصميم الكتب الرقميّة لتحقيق تفاعل ذي معنى، يعتمد على طرح الأسئلة المفتوحة، وتمارين المحاكاة والتجارب الافتراضيّة، والربط بين المحتوى والمشكلات الواقعيّة، وتفعيل أدوات التعاون بين المتعلّمين (مثل المناقشات عبر المنصّات).
كيف يُعيد المعلّمون الروح للكتاب المدرسيّ؟
صارت الكتب التفاعليّة تركّز أحيانًا على الألعاب الإلكترونيّة أكثر من تحفيز التحليل، مثل جمع نقاط للإجابة، بدلًا من كتابة مقال نقديّ. إذًا، الكتاب الرقميّ الجيّد ليس مجرّد نسخة إلكترونيّة من الورقيّ، بل فضاء تعلّميّ ديناميكيّ يوازن بين الإثارة التقنيّة والعمق الفكريّ. وقد صار لزامًا على المعلّمين التحوّل من "ناقلي معرفة" إلى "مهندسي تفكير"، ويكون ذلك باستخدام "نموذج "الصّفّ المقلوب" في تونس، إذ يُطلب من المتعلّمين:
1. مشاهدة فيديو عن "الحرب العالميّة الأولى" في الكتاب الرقميّ.
2. استخدام "بيربلكسيتي" (Perplexity AI) لتحليل مصادر متضاربة.
3. تمثيل أدوار (دبلوماسيّ، جنديّ، مدنيّ) في الصفّ.
من شان هذا كلّه تحسين مهارات التحليل بنسبة 58% (المعهد التونسيّ للتربية، 2023).
أضف إلى ذلك، على كلّ معلّم تحويل الأسئلة التقليديّة إلى نقديّة، ويكون ذلك بتغيير كيفيّة طرح السؤال، فبدلًا من أن أقول: "اذكر أسباب الثورة الصناعيّة"، أسأل: "هل تُعدّ الثورة الصناعيّة الرابعة (الذكاء الاصطناعيّ) امتدادًا لها؟ ولماذا؟". ولتحقيق ذلك يمكن استخدام منصّات مثل Padlet، لإنشاء خريطة نقاش جماعيّ حول الأسئلة.
ينبغي دمج الكتاب مع الذكاء الاصطناعيّ بشكل ذكيّ، وذلك بقراءة المتعلّمين فصلًا عن التغيّر المناخيّ من كتاب ورقيّ على سبيل المثال، ثمّ يُطلب إليهم استخدام ChatGPT لتحليل إجابات مختلفة عن "كيف تؤثّر السياسات في المناخ؟" وصولًا إلى مناقشة التحيّزات في الإجابات الآليّة.
بالاطّلاع على تجارب المعلّمين، تبيّن أنّ معلّمي دار المنهل في الأردن حوّلوا درس الأدب إلى مشروع مسرحيّ، إذ كتب المتعلّمون حوارات نقديّة بين شخصيّات من نصوص مختلفة. أمّا في مصر، فقد استخدمت مدرّسة كتابًا رقميًّا عن الفلسفة مع رموز QR، تصل المتعلّمين بمحاضرات TED عن الأخلاقيّات الحديثة.
الذكاء الاصطناعيّ والكتاب المدرسيّ: تحذيرات وتكامل
غياب العمق الفكريّ
يقدّم الذكاء الاصطناعيّ (مثل "شات جي بي تي") معلومات سريعة وجاهزة، لكنّه لا يُنشّط الشبكات العصبيّة المعقّدة في الدماغ، كما تفعل القراءة المتعمّقة في الكتب، استنادًا إلى دراسات علم الأعصاب مثل (Wolf, 2018). مثال على ذلك: تلخيص كتاب عن الحرب العالميّة الثانية آليًّا، لا يُكافئ تجربة القراءة الواعية التي تُبنى فيها الأفكار عبر التسلسل والتحليل.
- الافتقار إلى الخبرة الإنسانيّة
قد يكتب الذكاء الاصطناعيّ قصيدة، لكنّه يفتقر إلى الخبرة الوجوديّة، ومشاعر الشاعر الحقيقيّة، مثل قصائد محمود درويش المرتبطة بالقضيّة الفلسطينيّة.
- الأخطار المحتملة بسبب الاعتماد على المعلومة الجاهزة
تضعف الإجابات الفوريّة للذكاء الاصطناعيّ التفكير النقديّ لدى المتعلّمين، لأنّها تُقلّل من فرص بذل الجهد العقليّ في البحث والتحليل (UNESCO, 2023).
- عدم القدرة على التكيُّف مع السياقات التعليميّة المعقّدة
لا يمكن للذكاء الاصطناعيّ (حاليًّا) طرح أسئلة مفتوحة، أو تكييف المحتوى حسب حاجات المتعلّم الفرديّة، خلافًا للمعلّم القادر على تحفيز النقاش.
إذًا، يجب ربط محدوديّة الذكاء الاصطناعيّ بقصور الكتب الرقميّة. مثال على ذلك: بعض الكتب التفاعليّة تعتمد أنشطة آليّة (مثل اختيار الإجابة الصحيحة)، وهو ما يمثّل الإشكاليّة وراء استخدام الذكاء الاصطناعيّ، فهو يقدّم إجابات جاهزة من دون تحفيز التفكير.
وفي مقارنة بين العقم الفكريّ والتحوّل، يتبيّن أنّ الكتب التقليديّة تمتاز بجمود المحتوى، بينما يمتاز الذكاء الاصطناعيّ بالمعلومات السطحيّة، ويكمن الحلّ في دمج الاثنين معًا (كتاب رقميّ + أدوات ذكاء اصطناعيّ)، لتصميم أنشطة تطلب من المتعلّم نقد مخرجات الآلة. على سبيل المثال، يُمكن للمتعلّمين مقارنة تلخيص آليّ لفصل من كتاب مع تلخيصهم الشخصيّ، ثمّ مناقشة أيّ التلخيصَين أكثر دقّة، وما المعلومات التي أغفلها الذكاء الاصطناعيّ، ولماذا؟
إذا قلنا إنّ الذكاء الاصطناعيّ قد يكتب قصيدة، فإنّه مع ذلك يفتقر إلى الخبرة الإنسانيّة والروح والمشاعر الجيّاشة التي تميّز أيّ عمل شعريّ. كما إنّه يحتاج إلى دمج تقنيّات حديثة، مثل استخدام رموز (QR) التي تتيح للمتعلّم الوصول إلى مصادر إضافيّة. وبالمثل، قد يقدّم "شات جي بي تي" تلخيصًا لكتاب عن الحرب الأهليّة، لكنّه لا يُعلّم المتعلّم كيف يكتشف التحيّز الكامن في الروايات التاريخيّة. من هنا، تبرز الحاجة إلى تصميم كتب مدرسيّة تتضمّن أسئلة موجّهة لتحليل مخرجات الذكاء الاصطناعيّ، مثل: قارن بين تلخيص الآلة وتلخيصك الشخصيّ، أيّهما أكثر حياديّة؟
***
لن ينقرض الكتاب المدرسيّ - بأيّ شكل كان - إذا تحوّل من وعاء للمعلومات إلى فسحة للتساؤل. فالذكاء الاصطناعيّ ليس تهديدًا، بل فرصة لإعادة ابتكار الأدوار: يصبح المعلّم موجّهًا يُعلّم المتعلّم كيف يُفكّك النصوص، ويغدو الكتاب الرقميّ جسرًا يصل بين المعرفة الثابتة والأسئلة المتجدّدة. المتعلّم لم يعد مُتلقّيًا، بل شريكًا في إنتاج المعنى. والكتاب الجيّد هو ذاك الذي يغادره القارئ محمّلًا بأسئلة أكثر ممّا بدأ به. يمكننا أيضًا أن نتخيّل المستقبل، حيث تتحوّل مشاهد خياليّة إلى واقع: مثل أن يُحدّث كتاب فيزياء رقميّ نفسه تلقائيًّا عند اكتشاف نظريّة جديدة، مُرفقًا بأسئلة نقديّة من قبيل: "كيف يغيّر هذا الاكتشاف موازين القوى الاقتصاديّة العالميّة؟"، أو أن يستخدم المعلّم نظّارات الواقع المعزّز لتتبّع تعابير وجوه المتعلّمين أثناء النقاشات، فيُعدّل استراتيجيّته التدريسيّة بناء على تحليل المشاعر.
لن يحلّ الذكاء الاصطناعيّ محلّ الكتاب ولا المعلّم، لكنّه سيكشف بوضوح أيًّا منهما يجيد أداء دوره بامتياز. والسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان الكتاب المدرسيّ - سواء كان تقليديًّا أم رقميًّا - مرآة لأهدافنا التربويّة، فماذا تعكس هذه المرآة اليوم؟ هل نرى فيها صورة جيل قادر على تفكيك العالم وتحويل الأسئلة إلى منصّات للإبداع؟ أم إنّها تعكس صدًى لعصر يمجّد السرعة ويضحّي بالعمق؟
المراجع
- - العتيبي، خ. (2020). مستقبل الكتاب في العالم الرقميّ. دار كنوز المعرفة.
- - السعدون، أ. (2022). تأثير المنصّات الرقميّة على عادات القراءة. مجلّة علوم المعلومات. 15(3)، ص 45-67.
- - مركز البحوث التربويّة. (2023). تحوّلات الكتاب المدرسيّ في ظلّ التطوّرات التقنيّة.
- - مجلّة العربيّ. (2021). مستقبل المكتبات في العصر الرقميّ (650).
- - اتّحاد الناشرين العرب. (2023). واقع النشر الرقميّ في العالم العربي.
- - وزارة التعليم السعوديّة. (2023). التقرير السنويّ لمنصّة مدرستي.
- - مركز الدراسات الاستراتيجيّة العربيّ. (2024). تحليل المحتوى في الكتب المدرسيّة العربيّة.
- - تحليل تأثير التكنولوجيا على مهارات التفكير النقديّ. (2022). مجلّة جامعة دمشق، 43(2).
- - المعهد التونسيّ للتربية. (2023). تقييم تجربة الصفّ المقلوب في تونس.
- - جامعة آل البيت. (2024). دراسة تفاعل الطّلاب مع الكتب الرقميّة.
- - موقع إثرائي التابع لوزارة التعليم السعوديّة. (2023). أبحاث حول التكنولوجيا والتعليم.
Wolf, M. (2018). Reader, Come Home: The Reading Brain in a Digital World. HarperCollins.
UNESCO. (2023). AI and education: Guidance for policy-makers.