هنادي هاني نصرالله- معلّمة كيمياء وعلوم حياة- لبنان
هنادي هاني نصرالله- معلّمة كيمياء وعلوم حياة- لبنان
2023/10/05

لو كنت طالبةً اليوم، كيف سيكون شكل التعليم الأحبّ بالنسبةِ إليك؟

أنا بالفعل طالبة الآن، أتابعُ تخصّصي الثاني في علم النفس في الجامعة اللبنانيّة. ولأنَّني غير قادرة على حضور المحاضرات في الجامعة بفعل ارتباطات العمل ومسؤوليَّاته، أعتمدُ نمط التعلُّم الذاتيّ القائم على البحث والفهم العميقَيْن. فأقرأ المحاضرات الجامعيَّة قراءةً متفحِّصة وناقدة، أدوِّنُ الأفكار الرئيسة وأحفظ العناوين المفتاحيَّة لأقوم بالتوسّع والربط والنقد خلال الامتحانات. وفي بعض الحالات، تكون المحاضرات طويلة أو غير واضحة، فأجري أبحاثًا حول النقاط المطلوبة مُنجزةً بذلك أوراقي ومدوّناتي الخاصّة.

أمَّا إن كان موضوع السؤال حول شكل التعليم الأحب إليَّ إن كنتُ طالبةَ مدرسة، فإنِّني أفضِّلُ التعليم القائم على التجارب والمستند على حلِّ المشكلات. وهذا يحتِّم بطبيعة الحال تقليص عدد المعلومات المطلوب حفظها، ليحل محلَّها الفهم والتحليل والتركيب. كذلك، يستهويني اكتساب المعلومات من خلال زياراتٍ ميدانيَّة لمؤسّساتٍ ومنشآتٍ عديدة، تربط المعلومات والمهارات المُراد اكتسابها بالحياة الواقعيَّة.

 

إلى أي مدى يمكن التوفيق بين تعليم المهارات الاجتماعيّة وتعليم المعارف العلميّة وفق البرامج التعليميّة الحديثة؟

لا ينفصلُ تعليم المهارات الاجتماعيَّة عن تعليم المعارف العلميَّة، ولا سيّما في المؤسّسات التعليميَّة التي تعتمدُ البرامج التعليميَّة الحديثة؛ إذ تتوزَّعُ مهارات القرن الواحد والعشرين على أربعة أبواب رئيسة: الإبداع والابتكار؛ التفكير النقديّ وحلّ المشكلات؛ التواصل؛ التعاون. نلاحظُ أنَّ كلًّا من هذه المهارات يتطلَّبُ مهاراتٍ اجتماعيَّةً تمكِّنُ الفردَ من امتلاكها فضلًا عن ممارستها.

هذه الملاحظة تقودنا إلى الجزم بأنَّه من واجب المؤسّسات التعليميّة ابتكار خططٍ توائم بين تعليم المهارات الاجتماعيَّة، وتعليم المعارف العلميَّة البحتة. ونشدِّد هنا على كلمة "واجب"، فهذه المواءمة لم تعد خيارًا مطروحًا، بل ركيزة أساسيَّة من ركائز إعداد الفرد المنتج، المبتكِر والمتفاعل إيجابيًّا مع ذاته ومع مجتمعه. 

 

كيف تحدّدين أهمّيّة دورك، معلّمةً، أمام ما يشهده عصرنا من ثورة الذكاء الاصطناعيّ؟

معلِّمُ اليوم موجِّهٌ للطالب ومقوِّمٌ لسلوكه الفكريّ والتعليميّ، وليس المصدر الوحيد للمعلومات والمهارات المطلوب اكتسابها من قِبَل الطالب (الطالب هو محور العلميّة التعلّميّة وليس المعلّم). وكلُّنا يعايشُ الأبوابَ والفرصَ التي فتحتها ثورةُ الذكاء الاصطناعيّ في وجه عملية الاكتساب هذه. ولأنَّ هذه الأبواب مفتوحة على مصراعيها، ولأنَّ خبراتِ الطالب قد تكون "محدودة" نسبةً إلى خبرات المعلِّم، يتوجِّب على المعلّم أن يكون موجِّهًا وقائدًا لمشاريعَ متنوِّعة ومرتبطة بالحياة؛ عليه أن يكونَ قدوةً في الاستفادة من الفرص التي أتاحتها هذه الثورة، وفي ممارسة النقد البنَّاء قبل ركوب الموجات المتصاعدة. كذلك، على المعلِّم أن يصرَّ على التعلُّم الدائم لكي يستطيع مواكبة عقول طلّابه الآخذة في الاتّساع والاطّلاع، فلا يتخلَّف عنهم ولا هم يسبقونه. من ناحيةٍ أخرى، لا يمكننا إغفال أهمّيّة التعاون مع المعلِّمين الآخرين بغية إغناء تجاربه وتجاربهم.  

 

متى يكون الإشراف التربويّ مفيدًا للممارسة التعليميّة؟

يُعرَّف الإشراف التربوي على أنَّه "عمليَّة التفاعل التي تتِّمُ بين فردٍ أو أكثر وبين المعلمين بقصدِ تحسين أدائهم. وإنَّ الهدف النهائيّ من ذلك كلِّه هو تحسين تعليم التلاميذ". انطلاقًا من هذا التعريف، يمكننا القول أنَّ الإشرافَ التربويّ دائمًا ما يكون مفيدًا في الممارسة التعليميَّة إن كانت ممارستُه العمليَّة مطابقةً لتعريفِه النظريّ.

يُعتبر الإشراف التربويّ عجلةً من عجلات التطوير والبِناء إن أحسنَ المشرفون التعامل والتواصل، فيتفهّمون المعلّمَ ويشجّعونه ويقدّرونه. وبالتالي تكون هذه الأداة بمثابةِ عون له على أرض الواقع لتحقيق الأهداف التربويّة وتطوير العمليّة التعليميّة، ولا تبقى أداة في سجن النظريّات والمثاليّات.

 

ما الأساليب الناجعة، في نظرك، لحلّ النزاعات بين الطلّاب داخل غرفة الصفّ؟ وما الأطراف التي ينبغي أن تشارك في هذه العمليّة؟

التفهّم والإصغاء إلى كلِّ أطراف النزاع ركيزتا حلِّ النزاعات بين الطلّاب داخل غرفة الصفّ، ولكن ينبغي الانتباه إلى ضرورة عدم استهلاك وقت الحصّة التعليميَّة في حلِّ النزاعات، إلّا إذا كانت ملحّة وغير قابلة للتجاوز الآنيّ (تأجيل حلّ النزاعات إلى أوقات الاستراحة حيث تكون النفوس قد هدأت واستكانت، ولضمان استغلال أوقات الحصّة التعليميّة في اكتساب المعارف والمهارات المطلوبة). أمَّا الأطراف المشاركة في هذه العمليّة، فهي طرفا النزاع بالمقام الأوَّل بحضور المعلِّم ومراقبته، ولكن في حال لم يتوصّلا إلى الحلّ، يمكنُ حينها الاستعانة بمسؤولي القسم، وبعدها الإدارة والأهل.  

 

هل استخدام الأدوات التكنولوجيّة في التدريس إيجابيّ دائمًا؟ وما حدود استخدامها؟

كلا، ليس استخدام الأدوات التكنولوجيَّة في التدريس إيجابيّا دائمًا: نذكرُ على سبيل المثال التجارب المخبريّة التي يتوجِّب القيام بها داخل المختبر باستعمال اليدّ والحواس الأخرى (بعض المعلِّمات والمعلّمين يستبدلون هذه التجارب بالمحاكاة، وفي هذا الاستبدال حرمانُ الطالب من حقّه في التجربة الحقيقيَّة، وإشراك حواسه في عمليَّة التعلّم والاكتساب، وهنا نستذكر القول الشهير: "قل لي وسوف أنسى، أرني ولعلِّي أتذكَّر، أشركني وسوف أفهم"). 

 

هل يشكّل تدخّل الأهل مصدر دعم دائمًا في تعلّم ابنهم؟ وكيف؟ وهل هناك توقيت مناسب لهذا التدخّل؟

في بعض الحالات يكونُ تدخّل الأهل عاملًا سلبيًّا في عمليَّة تعلُّم ابنهم أو ابنتهم. وهنا أستذكرُ "وليد" الذي كانت والدته مفرطة في حمايته ودعمه: فهي التي كانت تفهم الدروسَ من أجل إعادة شرحها له، وهي التي كانت تسألُ معلّماتِه ومعلّميه عن الأهداف المبهمة إلى حدٍّ أصبح "وليدٌ" يخاف من الخطأ ويتوتّر خلال الاختبارات. ولكن، عندما سمعت الوالدة نصيحة المعلّمات والمعلّمين في ضرورة ترك ابنها "حرًّا" في مسيرة تعلّمه، والذي قد يكون من خلال المحاولة والخطأ، انطلق "وليد" من جديد: زادت ثقته بنفسه وارتفعت علاماته، وهو الآن مبدعٌ في مجال الفنّ والرسم، تزيِّنُ البسمة محيَّاه ويضيءُ قلبَه عقلُه.

نعم، ينبغي على الأهل التدخّل، ولكن ليس في مراحل التعلّم الأولى. ينبغي عليهم التدخّل حينما يحتاج الأبناء إلى الدعم والتشجيع بعد استنفاد محاولاتهم، أو عندما تكون الحاجة ملحّة للاستعانة باختصاصيّ نفسيّ، على سبيل المثال. كذلك، علينا ألّا نغفل عن أهمّيّة تدخّل الأهل من أجل تشجيع ابنتهم أو ابنهم، وتهنئتهم على الإنجازات التي حقّقاها مهما كانت "صغيرة" (لا توجد إنجازات صغيرةـ فكلًّ إنجازٍ عظيم بظروفه وحيثيَّاته).  

 

هل تجدين أنّه قد آن الأوان للتخلّي عن الكتاب المدرسيّ بشكل كامل؟ لماذا؟

كلّا، فالكتاب المدرسيّ ضرورةٌ من ضروريَّات عمليّة التعلّم والاكتساب، وخصوصًا في المراحل التعليميَّة الأولى. وقد أكَّدت الأبحاث على خطورة التعرّض الفائض إلى الشاشات، وحدَّدت عددًا من الساعات المسموح به يوميًّا، والذي يختلف باختلاف الفئات العمريَّة. كذلك، أكَّدت أبحاث أخرى على أهميَّة التدوين باستخدام القلم، وليس عبر جهاز اللابتوب أو أيَّة وسيلة إلكترونيَّة أخرى في عمليّة التعلّم وحفظ المعلومات واستذكارها.

 

كم يجب أن تكون مدّة الدوام المدرسيّ اليوميّ برأيك؟

حسب طبيعة الأعمال التي يقومُ بها الطالب في المدرسة، وحسب النشاطات المتوفّرة للطالب حين عودته إلى منزله. فبعض الطلّاب يقضي ساعاتٍ طوالٍ في المدرسة، ولكن يعود إلى منزله منجزًا كلَّ واجباته، وبالتالي يكون الوقت الذي يقضيه في المنزل مخصّصًا للراحة وللتواصل الإيجابيّ مع الأهل والأصدقاء. وبعضهم يعود إلى منزله مثقلًا بالواجبات والمسؤوليّات، فلا يعود يملك الوقت للراحة ولتنمية مواهبه، فضلًا عن التواصل مع أهله وأصدقائه. والبعض الآخر يعودُ باكرًا إلى منزله، ولكن لا يستغلّ الوقت بالنشاطات النافعة، وبالتالي لا يتطوَّر أو ينمو بما يتناسب مع عمره ومتطلِّباته.  ولكنني أرى أنَّ مدَّة الدوام الدراسي الفضلى بشكلٍ عام هي مدّة تتراوح بين أربع وخمس ساعاتٍ كحدٍّ أقصى، بحيث يبدأ الدوام المدرسي عند الساعة التاسعة صباحًا وينتهي عند الساعة الواحدة بعد الظهر (أو عند الساعة الثانية بعد الظهر كحدٍّ أقصى).

 

صِفي لنا مسار التعليم في مدرستك مُستخدمةً عنوان رواية لذلك، وأخبرينا عن السبب وراء اختيار هذه الرواية.

سأختار رواية "عالم صوفي" لجوستاين غاردر. صحيحٌ أنَّ تاريخ الفلسفة هو المحورُ الأساسُ لهذه الروايَّة، ولكنني اخترتُها بسبب التفكير الناقد الذي تتَّبعه "صوفي" في رحلة اكتشافها وتعلُّمِها، إضافةً إلى الأسلوب الذي يتَّبعه "معلِّمُها" "ألبيرتو" في دفعِها نحو التفكّر والنقد والاكتشاف، فضلًا عن ترسيخ المعلومات المتعلَّمة والمكتَسبة. أيضًا، يؤدّي الأسلوبُ القِصَصيُّ المشوِّقُ دورًا بارزًا في عملية تعلّم "صوفي" واكتشافاتِها، ولا نستطيع حتمًا  إغفال دور الفلسفة في تشكيل الفكر الإنسانيّ وتموضعه وتطوّره وتكامله.

كلُّ هذه العناصر المذكورة والواردة في الرواية تشكِّلُ ركائزَ مسار التعليم في مدرستي بشكلٍ عام، وخلال حصصي مع طلّابي بشكلٍ خاصّ، إذ غالبًا ما أعمل على دفع طلّابي إلى التساؤل والبحث الذاتيّ انطلاقًا من الأسئلة النقديّة المطروحة. كذلك، نعمل على ربط المعارف والمهارات المكتسبة بمجريات الحياة اليوميَّة، وصولًا إلى استعمال الفكر الناقد في حلّ المشكلات التي تعترضهم في مختلف مسارات حياتِهم.