القيّم في المؤسّسة التربويّة التونسيّة
القيّم في المؤسّسة التربويّة التونسيّة
2025/07/16
نادرة قاسمي | قيّمة مُرشدة- تونس

إن مثّلت الحياة المدرسيّة تربية للناشئة على قيم المواطنة، فإنّ المؤسّسة التربويّة تسعى قدمًا لتكوين مواطن واعٍ بواجباته وحقوقه. وبما أنّها إطار لتنمية شخصيّة التلميذ ومواهبه، فذلك لن يتحقّق إلاّ إذا تمّ إيلاء أهمّيّة لمهنة القيّم. 

قبل الولوج إلى الحديث عن أهمّيّة دور القيّم داخل المؤسّسة التربويّة، لا بدّ من تعريف هذه الأخيرة: 

المؤسّسة التربويّة عمليّة منظّمة، وإدارة المدارس والمعاهد تشمل عدّة مجالات، منها: التقويم والتنظيم والتنفيذ. وتروم تحقيق الأهداف التعليميّة وتطوير العمليّة التربويّة – التعليميّة، والوصول إلى نتائج ممتازة للتلاميذ.  

 هي إذًا هيكل قانونيّ تعليميّ منظّم، هدفه توفير فرص التعليم والتعلّم للتلاميذ. ومساعدتهم على تحقيق أهدافهم وغاياتهم التعليميّة. وبناءً على ذلك، فإنّ القيّم شريك أساس للفعل التربويّ، فهي المؤطّر المرشد والموجّه لسلوك التلميذ داخل المؤسّسة التربويّة. إذ يمارس القيّم داخلها سلطته التأطيريّة التوجيهيّة والإرشاديّة: يأمر ويعظ ويعالج، فهو المسؤول عن الضبط الاجتماعيّ في الساحة والأروقة والمراقد وقاعات الأكل، وهو من يسهر على اللوائح والقوانين ويحرص على أن يلتزم بها، ويلزم بها الآخرين. 

في هذا الإطار يطرح الإشكال التالي: كيف يترجم عمل القيّم بوصفه عمليّة تأطير وإرشاد على أرضيّة واقعيّة؟ هل يمارس القيّم فعليًّا التأطير والإرشاد من خلال عمليّة بيداغوجيّة صرف؟ أم يختزلها في المراقبة الصامتة من دون توجيه، حفاظًا على النظام داخل المؤسّسة التربويّة فحسب؟ 

أو بمعنى أدقّ: هل ستظلّ وظيفة القيّم متأرجحة بين التأطير (الإرشاد كفكر بيداغوجيّ)، والإصغاء (التوجيه كسبيل لتهذيب السلوك التلميذيّ) أم ستنحصر في كونها مجرد مهمّة لحفظ النظام والأمن؟ 

يعتبر قطاع القيّمات والقيّمين العامّين سلكًا تربويًّا بيداغوجيًّا. وهو القطاع الأوّل والوحيد من بين قطاعات التربية الذي تمتّع بالقانون الأساس سنة 1973. 

والقيّم موظف ينتمي إلى وزارة التربيّة والتعليم. وظيفته السامية تحتكم إلى مرجعيّة قانونيّة مجسّدة في الأمر المنقّح للقانون الأساس لقطاع القيّمين والقيّمين العامّين. فهو مؤطّر، بل عماد المؤسّسة التربويّة، يعمل داخل المدارس الإعداديّة والمعاهد الثانويّة. دوره حيويّ، وله مهامّ أساسيّة تربويًّا وإداريًّا وبيداغوجيًّا. 

وكما التلميذ هو النواة الأساسيّة للمؤسّسة باعتباره محور العمليّة التربويّة، فإنّ القيّم عمادها الأوّل وأساسها المتين؛ إذ له القدرة على فهم نفسيّة التلميذ وتفسير سلوكه، ومساعدته على حلّ مشاكله. فهو يؤدّي مهامّه تحت إشراف القيّم العامّ ومدير المؤسّسة. ويتمثّل المهامّ في العمل بالقسم الخارجيّ أو القسم الداخليّ أو في القسمين معًا. 

أكثر هذه المهامّ أهمّيّة ما هو تربويّ. ونقصد بذلك متابعة التلاميذ ومعالجة أوضاعهم الدراسيّة والاجتماعيّة والنفسيّة، من أجل بناء جسور الثقة والتواصل معهم، والكشف المبكر عن المشكلات النفسيّة والعاطفيّة والتربويّة، واستكشاف أسبابها. 

ويسعى لتقويّة العلاقات الإنسانيّة المنسجمة ضمن المجموعة التربويّة، وتمتين العلاقات مع أولياء التلاميذ. 

ويقوم القيّم كذلك بتأطيرهم في جميع الفضاءات المدرسيّة، ما يحافظ على ممتلكات المؤسّسة وسلامتها، مثل الأروقة والمراقد والمطاعم والساحات والملعب الرياضيّ. 

ويسهم في الإحاطة بالتلاميذ، وتحفيزهم على المثابرة والانضباط والمبادرة واحترام القانون الداخليّ. إذ يراقب هندام التلاميذ أثناء دخول المؤسّسة، ويضمن سلامتهم قبل دخولهم قاعات الدرس. ويراقبهم كذلك أثناء دخولهم دورات المياه، لأنّها تعتبر فضاء غير مراقب بالنسبة إليهم. ويقوم بتسجيل الغيابات كلّ ساعة في قاعات المراجعات في سجل التنسيق بين القسمين الداخليّ والخارجيّ، ويُعلم ولي الأمر بغياب الطالب من أجل حمايته من الانحرافات. ويرافقهم أثناء دخولهم المطعم، ويشاركهم الوجبات، ويقوم بتسجيل كلّ الملاحظات السلبيّة التي يقوم بها كلّ تلميذ، ليجد لها حلولًا. 

أمّا العمل الإداريّ فيتمثل في إعداد الوثائق الإداريّة المتعلّقة بشؤون التلاميذ، مثال ذلك: تعمير بطاقات السيرة والمواظبة، إنجاز قائمات أسبوعيّة أو يوميّة للمناداة، والإسهام في إعداد الإحصائيّات المتعلّقة بالتلاميذ، وضبط قائمات الأقسام، ومتابعة مواظبة كلّ تلميذ وتسجيلها في بطاقات السيرة والمواظبة، وإعداد مراسلات الأولياء في ما يتعلّق بالمواظبة والسيرة ومتابعتها: الورقيّة أو الرقميّة. 

يقوم القيّم، الى جانب ما ذكر آنفًا، بإعلام التلاميذ بجداول الأوقات – روزنامة المراقبة المستمرّة – حصص المذاكرة التكميليّة. وإعلام القيّم العامّ بكلّ حصّة غير منجزة، ويسهم في سير الامتحانات المدرسيّة والوطنيّة، إلى جانب تنظيم المسابقات وإعداد حفل اختتام السنة الدراسيّة. 

ويعتقد الكثير أنّ للقيّم مسؤوليّة إداريّة وتأطيريّة فقط، ولا سيّما في ظلّ ما يروّج له من أبناء الأسرة التربويّة أنفسهم، من اعتبار دوره مقتصرًا على مراقبة التلاميذ، وتسجيل الغياب في بطاقات السيرة. والحال أنّ له مهامًّا أثقل، إلى جانب المسارين التأطيريّ والإداريّ، يظهر أيضًا في المجال الاجتماعيّ الثقافيّ، وخصوصًا البيداغوجيّ. 

هدف عمليّة الاتّصال البيداغوجيّ للقيّم هو التأثير في التلميذ، فينتج عن ذلك التأثير تعديلًا في سلوكه. وبعبارة أخرى إنّ العمليّة التعليميّة عمليّة اتّصال مقصودة بين الطرفين لكي يحدث تغيير إيجابيّ في سلوكه عن طريق استخدام لغة التوجيه والترشيد، وغيرها من الوسائل التربويّة - التعليميّة. 

ولا يفوتنا التذكير بالمهام الاجتماعيّة والثقافيّة والرياضيّة. إذ يعلم القيّم التلاميذ بمواعيد الأنشطة الثقافيّة وبمواعيد الفحوص الطبّيّة والرياضيّة التي تنظّمها الإدارة. ويسعى للتواجد خلال تلك الأنشطة التثقيفيّة والترفيهيّة والرحلات وغيرها. فهو يرصد ويستكشف، ثمّ يخبر الإشراف الممثّل في القيّم العامّ بكلّ الحالات الاجتماعيّة والصحّيّة لكلّ تلميذ. ويعمل جاهدًا للإحاطة بها. 

ويتولّى القيّم في القسم الداخليّ، إضافة إلى المهام المشتركة المذكورة آنفًا، بمسك كرّاسات المراجعة والمراقد وقاعات الأكل وتسجيل الملاحظات الحاصلة. فهو يتابع مواظبة التلاميذ في قاعات المراجعة والمبيتات والمطعم. ويرصد الحالات الصحّيّة للتلاميذ، ويُعلم القيّمّ العام بذلك.  

يراجع سجلات علاماتهم ويستكشف الحالات الضعيفة ذات التحصيل المتدنّي، فيحاول التقصّي عن أسباب تدنّي أعدادهم، وإيجاد حلول لتلك الصعوبات في التعلّم. وكذلك يتواصل في هذا الشأن مع أولياء الأمور. فيعدّ التقارير والوثائق المتخصّصة في مجال الإرشاد، ويحفظها في قاعدة البيانات الخاصّة بالطالب. ثمّ يقدّم تقرير بياناته اليوميّة في ما يتعلّق بحالات السلوك الفرديّة أو الجماعيّة اللافتة للانتباه إلى القيّم العامّ في القسم الداخليّ. 

يساعد القيّم العام للقسم الداخليّ في مسك بطاقات السيرة والمواظبة والدفاتر، وإعداد الجداول والإحصائيّات والقائمات والمراسلات ومتابعة النتائج المدرسيّة للمقيّمين. ويقوم أيضًا بترسيم التلاميذ وقبولهم في القسم الداخليّ مع التأكّد من تسوية وضعيّتهم مع العون المحاسب في المؤسّسة التربويّة في بداية كلّ ثلاثيّ. 

كلّ هذه الوظائف مختلفة الأهداف، منها تشييد تنشئة اجتماعيّة سليمة للتلميذ، وترسيخ روح المواطنة وقيم التسامح والحوار، وأيضًا تأمين سير العمل في المؤسّسة التربويّة، ونجاح السنة الدراسيّة، مع العمل على احترام كلّ ما جاء في النظام الداخليّ للمؤسّسة، وفي حدود مشمولات المهامّ المنوطة بعهدته. أمام ما يقدّمه القيّم من مهام سوسيولوجيّة ونفسيّة وبيداغوجية، هل ثمّة فعلًا تقدير لمجهوداته الجبّارة التي أخذها على عاتقه؟ 

قطاع القيّمين والقيّمين العامّين يزخر بكفاءات مختلفة الاختصاصات: أدبيّة (علم اجتماع، علم نفس، فلسفة، علوم تربيّة، عربيّة... إلخ)؛ وأخرى علميّة (رياضيّات، فيزياء، علوم تجربة... إلخ). وهو ما من شأنه تقريب القيّم من التلميذ، فتسهل عمليّة التواصل والتأطير، ومساعدة التلميذ على مواجهة بعض الصعوبات التي قد تعترض سبيله في الدروس، خصوصًا في قاعات المراجعة. 

لا تختلف شخصيّة القيّم في سماتها وفلسفتها التربويّة – البيداغوجيّة، في مختلف المدارس الإعداديّة والمعاهد الثانويّة عن كلّ مربٍّ للناشئة في الوقت الراهن. كلاهما يقدّم صيغ التربيّة وسبل الارشاد النفسيّ: الأوّل بالإصغاء والتوجيه، والثاني بالتلقين والتعليم. وكلاهما أيضًا متحمّس في العمل نتيجة إيمانه برسالته النبيلة، مع ما ينتج عنها من تعب وإرهاق طوال يومه، باذلًا جهده بدنيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا. 

نتبيّن إذًا أنّ وظيفة التأطير والإرشاد والإصغاء مهنة شاقّة، بل هي دوّامة قد تسرق من القيّم زمنًا من دون أن يشعر بذلك. فأسوأ ما يمكن إدراكه هو أن تكون قيّمًا مؤطّرًا مرشدًا لأجيال ولا أحد يقدر قيمتك. هو يراقب أبناء مؤسّسته وبناتها بكلّ ما أوتي له من حرص وحذر، على الرغم من ازدحام الساحة بعدد كبير من التلاميذ بشتّى اختلافاتهم وطبائعهم. فهو لم يقم باختيارهم عن إرادة كي يسهل عليه توجيههم. إذ يحمّلونه مسؤوليّة صحبتهم وتلقينهم وترشديهم وتوجيههم. 

القيّم مثل كلّ مربٍّ رهين المكان والزمان. لا يتغيّب إلّا بإذن، ولا يتمتّع بعطلة كذلك إلا بإذن. ولأخذ إجازة مرضيّة يدلي بشهادة طبّيّة. يقوم بمهامّ وفق جدول ملتزم به، ويظلّ راكضًا ليكون حضوره في الوقت الذي حُدّد له مسبقًا ملتزمًا بقوانين لم يكن يومًا شريكًا في تشييدها. وإن ضعف مردود عمله سيحاسب ولن يثمّن جهده وتعبه ولا ينظر إلى مستوى نجاحه، سيطاله الأرق والوهن والتعب كامل اليوم، نتيجة الغضب والتوتّر، وجميع ماذكرته سابقًا سيؤدّي إلى انهيار الصحّة وانبجاس الشيخوخة المبكرة. 

على الرغم ممّا يبذله القيّم من مجهودات، إلّا أنّه لا يتمتع بحقّه في التدرّج المهنيّ آليًّا، إذ يخضع لمناظرة داخليّة في الملفّات، ما يقصي البعض من القيّمين بمختلف أصنافهم. وسيظل القيّم ينشد تحقيق مطالبه من دون الظفر بها، مثل الزيادة في الأجر والتقليص في ساعات العمل، بل قد أضحى رهين التمنّي لمطالبه المشروعة. 

فعلى مدى تاريخ الوظيفة العموميّة لم يشهد أيّ سلك تربويّ بيداغوجيّ ما تعرض إليه سلك القيّمين والقيّمين العامّين -الموصوف بقطاع الجبّارين- من استباحة واستهداف ونكران من طرف سلطة الإشراف. ولعلّ الوضعيّة التي يعايشها القيّم المتعاقد، المكلّف بالتأطير والمرافقة، أكبر دليل على ذلك؛ فمستقبله تكتنفه ضبابيّة وتلكؤ حاصل في صرف مستحقّاته، وتعطيل المسار التفاوضيّ المتعلّق بإنتدابه رسميًّا موظّفًا برتبة قيّم أوّل صنف. وقد ظلّ القيّم المتعاقد إلى اليوم يناشد سلطة الإشراف لتحسين الوضعية المهنيّة الهشّة، نتيجة ما يقوم به من مهامّ تتعارض مع الأعمال الموكلة إليه وفق ما قد ورد في العقد.