ندوة: التكوين المهنيّ للمعلّمين.. مفهوم نظريّ ونماذج عمليّة ومجتمعيّة
ندوة: التكوين المهنيّ للمعلّمين.. مفهوم نظريّ ونماذج عمليّة ومجتمعيّة

عقدت منهجيّات ندوتها لشهر أيلول / سبتمبر 2025، بعنوان "التكوين المهنيّ للمعلّمين: مفهوم نظريّ ونماذج عمليّة ومجتمعيّة". وركّزت على محاور مختلفة، هي:

1. التكوين المهنيّ مفهومًا وإطارًا نظريًّا.

2. نماذج عمليّة من برامج التكوين المهنيّ.

3. التكوين المهنيّ للمعلّم: جزء من منظومة التعليم.

4. التكوين المهنيّ للمعلّم وتعزيز دور المعلّم المجتمعيّ.

استضافت الندوة مجموعة من المتحدّثين، هم: أ. يسرى خطّاب، منسّقة البرامج التدريبيّة وباحثة مساعدة في تمام، لبنان؛ أ. مروة بكيرات، مديرة مساعدة للتطوير الأكاديميّ في معهد تطوير التعليم، قطر/ الأردن ؛ أ. محمود جسّار، مدير برنامج الدبلوم المهنيّ في التعليم في أكاديميّة الملكة رانيا للتدريب المعلّمين، الأردن؛ د. نادر وهبة، مدير وحدة التكّون التربويّ في مؤسّسة عبد المحسن القطّان، فلسطين.رينيه مزاهرة- منسّقة أكاديميّة للصفوف الابتدائيّة- الأردن

أدارت الندوة  د. ريام كفري أبو لبن، مستشارة تربويّة في مؤسّسة النيزك. استهلّت د. أبو لبن الندوة بالتعريف بمنهجيّات مجلّة تربويّة إلكترونيّة دوريّة، موجّهة لكلّ العاملين في القطاع التربويّ في السياق المجتمعيّ. تعمل المجلّة على نشر المساهمات العربيّة والعالميّة المثرية والملهمة دوريًّا، وبأشكال تعبير مختلفة ووسائط متعدّدة، وتتابع المستجدّات في الحقل، وتشجّع الحوار الذي يثري التجربة التربويّة في العالم العربيّ، ويجعل منها مصدرًا إنسانيًّا ومعرفيًّا قيّمًا للأفراد والمؤسّسات. ودعا جمهور الندوة إلى متابعتها والمُشاركة في أقسامها.

 

المحور الأوّل: التكوين المهنيّ مفهومًا وإطارًا نظريًّا

ما مفهوم التكوين المهنيّ للمعلّم؟ وما الفرق بينه وبين التطوير والتدريب المهنيّ؟

يرى د. نادر وهبة أنّ كلمة التكوين، تعني أن يكوّن المعلّم نفسه بنفسه عبر البحث الذاتيّ والاستعانة بالزملاء والمجتمع، وهو فعل داخليّ ذاتيّ عبر الممارسة والتجريب. والتكوين ترجمة للكلمة الإنكليزيّة: reformat. بينما التطوير ( development) مصطلح من الفكر الرأسماليّ، الذي يعتبر أنّ المدرسة إنتاج، والطالب سيخرج إلى سوق العمل. وهو يتعامل مع المعلّم على أنّه موضوع التطوير وليس الفاعل في مساره. بالتالي يصبح التطوير تلقينًا، أكثر من كونه نموًّا مهنيًّا ذاتيًّا. بينما التكوين فعل تحرريّ يكون المعلّم هو المحرّك فيه، من دون سيطرة من السلطة.

وبخصوص استخدام كلمة "مهنيّ"، أشار د. وهبة إلى أنّ المعلّم في فلسطين يعمل ضمن إطار خدمة عامّة وليس مهنة. فالمعلّم دائمًا يطالب في حقوقه وبالمهننة في التعليم. وبهذا يكون مصطلح " التكوين المهنيّ" مصطلحًا تحرّريًّا وحقوقيًّا في آنٍ واحد.

وقالت أ. يسرى خطّاب إنّ المصطلحات نفسها تغيّرت تعريفاتها مع الزمن؛ فقديمًا كان التطوير يقتصر على وجود شخص خبير، ينقل المعرفة إلى شخص آخر أقلّ خبرة منه، من دون ضمان أيّ تغيير في الممارسات أو نقل للتعلّم إلى الممارسة. لكن، في المنظور الحديث نعتبره رحلة مستمرّة ومنهجيّة تتضمّن توجيهًا ومرافقة ورعاية، وتبادل خبرات مع الآخرين.

وتابعت أ. خطّاب، أنّ التكوين المهنيّ يُعطي عمقًا إضافيًّا للتطوير المهنيّ، لأنّ التطوير يركّز على النمو بالمعرفة والمهارات، بينما التكوين يشمل الهويّة المهنيّة للمعلّم والقيم والمبادئ، لا المهارات والمعارف فقط. كما ذكرت استخدام مصطلح "بناء الخبرات"، وهو مُصطلح يشمل الاستدامة، ويركّز على بناء الخبرات بشكل فرديّ وجماعيّ ومؤسّسي.

 

كيف يُبنى برنامج تكوين مهنيّ شامل للمعلّم؟

قال أ. محمود جسّار إنّ الخطوة الأولى لأيّ برنامج تكوين مهنيّ، تبدأ من معرفة احتياجات المعلّم، والتحدّيات التي تواجهه. على سبيل المثال نجاح برامج التكوين المهنيّ في فنلندا سببه قيامها على أبحاث تربويّة، وممارسات تأمليّة داخل الغرفة الصفّيّة. واعتبر الركائز والخطوات الرئيسة لإعداد برنامج تكوين مهنيّ ناجح هي:

1. أن يكون واضحًا ومُرتبطًا بالمعلّم والمنهاج ( التشخيص).

2. يحتوي على تطبيق وتدريب عمليّ داخل الصفّ ( التطبيق).

3. قبول التغذية الراجعة (المُتابعة).

4. أن يكون برنامجًا طويل المدى، فيه وقت كافٍ للتأمّل والتجربة والنقد والتطوير (التحسين).

 

كيف نحافظ على استدامة برامج التكوين والتطوير المهنيّ لتستمرّ وتصنع أثرًا ملموسًا لدى المعلّم والمدرسة، والمنظومة بشكل عامّ؟

قالت أ. مروة بكيرات  إنّ هناك عددًا من النقاط التي يمكن تنفيذها للحفاظ على استدامة برامج التطوير والتكوين المهنيّ:

1. أن تتحول هذه البرامج من مبادرات فرديّة إلى سياسات وطنيّة، تضع الخطوط العريضة للوزارة والمؤسّسات التعليميّة.

2.  بناء مجتمعات مهنيّة للتعلّم؛ فتبادل الخبرات بين المعلّمين يخلق مجتمعًا تعلّميًّا دائمًا، حتّى بعد انتهاء برامج تطوير المهنيّ.

3. دمج التكوين المهنيّ في الممارسة اليوميّة في المدارس، بالمُتابعة والتوجيه والإشراف.

4. توفير الموارد للمؤسّسات التعليميّة، مثل الموارد البشريّة والرقميّة والموادّ المفتوحة للمعلّمين.

5. ربط التكوين المهنيّ بتطوير المسار الوظيفيّ.

ولفت د. وهبة إلى ضرورة شمول التكوين المهنيّ النظريّات الفكريّة، وأنّ تُنظَّم ندوات ولقاءات لنقاش الكتب، ومحاضرات لخبراء في القضايا الفكريّة. لنمكّن المعلّم من الكتابة في النظريّات التربويّة؛ فعبر الكتابة أيضًا يتمّ التكوين المهنيّ طويل المدى.

 

المحور الثاني: نماذج عمليّة من برامج التكوين المهنيّ

في مشروع تمام، اخترتم نموذجًا مختلفًا، هو قيادة التطوير المستند إلى المدرسة، حدّثينا عن هذا النموذج، وعن رحلتكم في تطويره، وما التغيير الذي تسعون لتحقيقه؟

قدّمت أ. خطّاب تعريفًا سريعًا لمشروع تمام، وهو مركز بحثيّ وتطويريّ في الجامعة الأمريكيّة في بيروت. يقود حركة تطويريّة في العالم العربيّ هدفها تحويل المدرسة إلى مؤسّسة متجدّدة ذاتيًّا. ونظريّته للتطوير تقوم على تطوير القاعدة، وهي المدرسة، مع دعم من الجهات العليا لتسهيل واستدامة العمل للتربويّين. ولتحقيق هذه الرؤيا صمّم مشروع تمام مجموعة من البرامج المبنيّة على البحث والتجريب والتي تستهدف جوانب متعدّدة منها:

  • - قيادة التطوير المستند إلى المدرسة.
  • - بناء الشراكات مع العائلة والمجتمع المحليّ .
  • - تنمية القدرات الطلّابيّة.
  • - التشبيك بين المدارس.
  • - التأثير في السياسات التربويّة.

وللتدريب على هذه البرامج، لدينا مقاربة لبناء القدرات نتّبعها، وهذه المقاربة لا تقتصر على اكتساب المعلّم المهارات والمعارف المُرتبطة في هذه البرامج، بل تشمل:

  • - إعادة تشكيل الهويّة المهنيّة للمعلّم.
  • - تحوّل في المنحى الفكريّ والعادات المهنيّة.
  • - تطوير في اتّجاهات المعلّم.
  • - تعزيز استقلاليّة المعلّم وتوسيع قدرته على قيادة الطريق.

بُنيت هذه المقاربة بالاستناد على عدّة نظريّات منها:

  • - نظريّات تعلّم الكبار.
  • - التعلّم التجريبيّ.
  • - التعلّم التحويليّ.
  • - الرعاية المهنيّة ونظريّات الإشراف التربويّ.

تمّت أقلمة هذه النظريّات لتكون مناسبة للسياق العربيّ، وتعديلها بناءً على تجارب ميدانيّة واقعيّة. ممتدّة على مدار 18 سنة، وعلى سياقات متعدّدة في دول عربيّة مختلفة. وما يميّز رحلة بناء القدرات في تمام أنّها:

1. هادفة ومنظّمة.

2. تجريبيّة ومدمجة بالعمل اليوميّ للمعلّم.

3. مبنيّة على الاحتياجات ومتسّقة مع السياق الذي يعمل فيه الفريق.

4. مرنة وتستجيب للتغيّرات التي تطرأ على الواقع اليوميّ للمعلّم.

5. منهجيّة وشاملة وتنظر إلى المدرسة بأبعادها المختلفة.

6. تعتمد على تدريب مجموعات من المعلّمين لا الأفراد.

 

وقالت أ. خطّاب إنّ رحلة بناء القُدرات تنقسم إلى 3 مراحل:

1. مرحلة ما قبل البدء بالتدريب: وتشمل هذه المرحلة التعرّف إلى السياق، وتاريخ المدرسة، والأشخاص الذين نعمل معهم من ناحية مهنيّة وشخصيّة، والاحتياجات التدريبيّة لهم.

2.مرحلة التدريب وتشمل جانبين:

  • - التدريب على المعارف الأساسيّة المتعلّقة بكلّ برنامج من البرامج: ترافقه فرصة للتطبيق المباشر، والتجريب داخل السياق العمليّ مع التغذية الراجعة المستمرّة، مع التوجيه وتعزيز روح التعاون بين الفريق والمعلّمين داخل المدرسة، بناءً على نقاط القوّة الموجودة لدى المعلّمين.
  • - التركيز على الجانب الإنسانيّ العاطفيّ لدى فريق المتدرّبين: من خلال الاستماع إلى المخاوف الشخصيّة والمهنيّة لدى المتدرّبين، وبناء علاقة قائمة على الثقة والاحترام بينهم وبين المدرّب، وتعزيز الإحساس بالملكيّة للمشاريع التي يقومون بها، وبناء ثقتهم بأنفسهم وبما يقدّمون من تغيير.

3. الاستعداد إلى ما بعد التدريب: وفيها يتمّ التقييم واتّخاذ قرارات بشأن الخطوات التالية التي ستنفّذ مع المتدرّبين، وانسحاب تدريجيّ للمدرّب حتّى تصبح لدى الفريق استقلاليّة في تطبيقه لعمله، وبالتالي استدامة أثر التدريب.

 

  اختارت أكاديميّة الملكة رانيا التركيز على التكوين المهنيّ للمعلّم خلال الخدمة، لماذا؟ وكيف وصلتم إلى هذا النموذج؟ وما الاحتياجات والتحدّيات التي يستجيب لها برنامجكم، وما الأثر الذي تسعون لتحقيقه؟

عرض أ. جسّار نموذج التميّز المدرسيّ الذي تقدّمه أكاديميّة الملكة رانيا. ويقوم هذا النموذج على اختيار محافظة من محافظات الأردن، نطوّر فيها مهارات القادة التربويّين، والمعلّمين والمرشدين والمشرفين. وتُقدّم إليهم برامج بناء خبرات حديثة ونوعيّة ومكثّفة تلبّي احتياجاتهم الحقيقيّة المستقاة من الميدان التربويّ.

يعمل نموذج التميّز المدرسيّ على توفير أكثر من برنامج تنمية مهنيّة في الوقت نفسه، في المدرسة الواحدة. على سبيل المثال: يُقدّم إلى مدير المدرسة دبلوم قيادة متقدّمة؛ وإلى المعلّم الدبلوم المهنيّ في التعليم؛ وإلى المرشد دورات خاصّة بالإرشاد؛ وإلى المشرف دورات خاصّة به.

هذا البرنامج يدعم جهود المجتمع المدرسيّ بشكل متكامل، ويخضع لتقييم مستمرّ، ودراسة لأثره من أجل تحسينه، وهو ينشر ثقافة التميّز، لإعداد بيئة تعلّميّة خصبة تهدف إلى تحسين أوضاع أبنائنا في المدارس. ولهذا البرنامج أهداف كبيرة وواسعة، لتعزيز الوعي بالقضايا التعليميّة، إضافة إلى تحسين مهارات القيادة عند المعلّمين. ففي محافظة واحدة تقدّم أكاديميّة الملكة رانيا:

  • - برنامج الدبلوم المهنيّ في التعليم.
  • - برنامج الدبلوم المهنيّ في القيادة.
  • - تكنولوجيا المباحث المتخصّصة.
  • - برنامج الدعم النفسيّ الاجتماعيّ.
  • - برنامج الابتكار والريادة في التعليم.
  • - برنامج التربية من أجل البيئة المستدامة.
  • - برامج متعلّقة بالتنمية المهنيّة للمشرفين.

 

في معهد التطوير التربويّ، ما برنامجكم، والإطار النظريّ الذي تستندون إليه، والأثر الذي تسعون إلى إحداثه في القطاع التعليميّ في قطر؟

قالت أ. بكيرات إنّ المعهد مؤسّسة شاملة للتكوين المهنيّ والتحوّل التربويّ. وتعتمد رؤيته على أنّ المعلّم هو الحجر الأساس لأيّ تغيير في التعليم؛ فكلّ برنامج نقوم به يستهدف في جوهره تمكين المعلّم فكريًّا ومهنيًّا، لا مجرّد تحسين أدائه لفترة زمنيّة قصيرة.

وأشارت إلى أنّ الهدف الأساس لمعهد التطوير التربويّ، سدّ الفجوة بين التدريب والتطبيق داخل الغرفة الصفّيّة، وذلك من خلال برامج مبنيّة على الاحتياجات الواقعيّة، ومدعومة بنظريّات تربويّة معاصرة، ومصمّمة لإحداث تغيير مستدام في المنظومة التعليميّة والمدارس. ويستند الإطار النظريّ في المعهد إلى ثلاث ركائز أساسيّة:

  • - تكييف النظريّات الغربيّة مع السياقات المحليّة والقيم العربيّة، والاستفادة منها بما يلائم الثقافة والسياق.
  • - النهج التشاركيّ، من منحى النظر إلى المعلّم شريكًا لا مجرّد متلقٍّ. ومن خلال التعاون مع المدارس، نحدّد احتياجات المعلّمين ونفهمها، وعلى هذا الأساس نطوّر برنامجًا تدريبيًّا يخدم المدرسة.
  • - البرامج الممتدّة في مسارات طويلة، بحيث تهدف إلى إحداث تغيير في طريقة تفكير المعلّم وممارساته داخل الصفّ وخارجه.

وبخصوص الأثر الذي يسعى  له معهد التطوير التربويّ، قالت أ. بكيرات إنّ المعهد يطمح لأن يكون له أثر في ثلاثة مستويات:

  • - على مستوى المعلّم: بناء هويّة مهنيّة قويّة له، ومهارات وأدوات يتمكّن من خلالها من التعامل مع التحدّيات اليوميّة.
  • - على مستوى المدرسة: خلق ثقافة مؤسّسيّة قائمة على التعلّم المستمرّ، والابتكار في المدارس.
  • - على مستوى المنظومة التعليميّة: تشكيل سياسات وممارسات، تضمن أن يكون التكوين المهنيّ جزءًا من التعليم في المدارس، وألّا يكون مجرّد مبادرة مؤقّتة أو مشروع قصير يبدأ وينتهي.

كما أشارت أ. بكيرات إلى البرامج المتعدّدة التي يقدّمها المعهد، ومنها:

  • - برامج تركّز على اللغة العربيّة، والتعليم ثنائيّ اللغة.
  • - برامج متعلّقة بالابتكار والإشراف.
  • - برامج متعلّقة بالذكاء الاصطناعيّ.
  • - برامج التفكير التصميميّ والاستدامة.
  • - برامج القيادة والإدارة والعدالة والمساواة في التعليم.

 

كيف انتقلت مؤسّسة القطّان من تركيزها على تكوين المعلّم داخل الغرفة الصفّيّة، إلى تركيزها اليوم على دور المعلّم المجتمعيّ، والمدرسة بوصفها مؤسّسة مجتمعيّة؟

قال د. وهبة إنّ مؤسّسة القطّان تأسّست سنة 1990 تحت مسمّى البحث والتطوير التربويّ، وكان جزءًا من برامجها مخصّصًا للثقافة، فهي بالتالي مؤسّسة تربويّة ثقافيّة. وأشار إلى أنّ المؤسّسة تنظر إلى التربية بوصفها موضوعًا ثقافيًّا أيضًا.

وقد تغيّر تركيز المؤسّسة بحسب السياقات التاريخيّة المختلفة، لكنّ الاهتمام ظلّ مُنصبًّا على المعلّم أثناء الخدمة، والتعامل معه بصفته قائدًا مجتمعيًّا. فمثلًا، في سنة  1998، ومع تأسيس مناهج جديدة في فلسطين، صار للمعلّم منهاج فلسطينيّ خاصّ به لأوّل مرّة. فتركّز العمل على المعلّم داخل الصفّ، وعلى المعرفة السياقيّة في الغرفة الصفّيّة، إضافة إلى المعرفة التخصّصيّة. لذلك أُطلقت برامج خاصّة بالرياضيّات واللغة الإنجليزيّة واللغات والتاريخ، إلى جانب برامج داعمة للمعلّم داخل الصفّ، مثل البحث الإجرائيّ.

وبعد الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، سنة 2000، ومع دخول التمويل المشروط، والأنظمة الصارمة للمتابعة والتقييم، تأثّر المعلّم، فلم يعد منفّذًا لكتاب المدرسة فقط، بل منفّذًا أيضًا لمتطلّبات تقنيّة متعدّدة تُستخدم لقياس إنجازه. مع ذلك، ظلّ المعلّم قائدًا مجتمعيًّا له دور في المقاومة والتغيير.

هذه التجربة دفعت المؤسّسة إلى الانتقال من إطار التخصّص إلى إطار التكامليّة، عبر التركيز على المهارات التكامليّة للمعلّم، أكثر من التخصّص نفسه، باعتباره خريج جامعة قادر على قيادة تخصّصه. ومن هنا، جاءت برامج مثل الفنون والتعليم، والتعلّم بالمشروع، والطفولة المبكّرة، والدراما التي تتيح للمعلّم التفكير في سؤال جوهريّ: ماذا يفعل الإنسان في ظلّ غياب العدالة؟

وختم د. وهبة بالتأكيد على أنّ المعلّم في غزّة أكبر نموذج للمعلّم القائد في مجتمعه، إذ استطاع أن يكون قائدًا ومبادرًا ومشاركًا فاعلًا.  فالتكوين المهنيّ عمليّة ديناميكيّة، يجب أن تتكيّف مع الأوضاع السائدة. وعلى المؤسّسات أن تكون مرنة، قادرة على التغيير، وعلى مواجهة التحدّيات والأزمات.

 

المحور الثالث: التكوين المهنيّ للمعلّم: جزء من منظومة التعليم 

كيف تمكن مراعاة الاحتياجات الفرديّة للمعلّم داخل التدريب وداخل غرفة الصفّ؟

تحدّثت أ. بكيرات عن ضرورة اعتماد مسارات متنوّعة في التدريبات تراعي الاحتياجات المختلفة للمعلّم، فنحدّد مثلًا: هل يحتاج إلى ورش وجاهيّة؟ أو تدريب افتراضيّ؟ أو متابعة فرديّة؟ إذ يتيح هذا التنوّع للمعلّم أن يتعلّم وفقًا لوقته وظروفه الخاصّة.

وأشارت إلى أهمّيّة ربط التدريب بالممارسات الصفّيّة، بتقديم أمثلة واقعيّة للمعلّم تحاكي مواقف متنوّعة قد يواجهها داخل الصفّ، مع إتاحة استراتيجيّات مختلفة يمكنه توظيفها خلال هذه المواقف، مع مراعاة السياقات التي يعمل في إطارها المعلّم.

 

كيف نحفّز المعلّم؟ وما الظروف التي يجب أن تتوفّر للمعلم حتّى ينخرط بالتكوين المستمرّ/التعلّم الدائم، على مستوى المدرسة، وعلى مستوى البلد؟

قال أ. جسّار إنّ تحفيز المعلّم ليكون جزءًا من التدريب، يتحقّق عبر:

  • - المدرسة: من خلال إتاحة الوقت للمعلّم لتنمية نفسه مهنيًّا.
  • - الدولة: عبر وضع سياسات واضحة للترقية والترفيع.
  • - التقدير: من خلال الإضاءة على قصص نجاح المعلّمين.
  • - تصميم الدورات: بحيث تكون مرنة وتتناسب مع ظروف المعلّم ووقته.

 

كيف يمكن أن يصبح التكوين المهني للمعلم جزءًا من منظومة التعليم الوطنيّة في البلد؟ ماذا يترتّب على مستوى السياسات والمحفزات، لتصبح هذه البرامج جزءًا أساسيًّا من تطوير المعلم بعد، وأثناء، الخدمة؟

لخصت أ. خطّاب إجابتها في أربع نقاط:

  • وجود رؤية وطنيّة واضحة للمعلّم الذي نريده، لوضع خطّة وطنيّة على هذا الأساس.
  • وجود بنية مؤسّسيّة داعمة، عبر توفير وحدات ومراكز تدريب متخصّصة، تُقدّم الدعم اللازم.
  • وجود سياسات داعمة، عبر تخصيص ميزانيّات سنويّة للتطوير، وتوفير التسهيلات اللازمة لتجريب المبادرات واعتمادها.  
  • أن تكون متابعة التطوير وأثره جزءًا من التكوين المدرسيّ.
  • خلق ثقافة مهنيّة تجعل التعلّم المستمرّ قيمة أساسيّة بالتعليم، وعدم النظر إليه بوصفه عبئًا إضافيًّا.
  • تقديم الحوافز المادّيّة والمعنويّة للمعلّمين لضمان استمراريّتهم بالتطوير.

 

المحور الرابع: التكوين المهنيّ وتعزيز دور المعلّم المجتمعيّ

المعلّم أحد أهمّ عناصر خطّ المواجهة الأوّل في الحروب والكوارث، وذلك تجسّد كما شهدنا إبّان جائحة كورونا، وما نراه حاليًّا في غزّة والسودان؛ إذ يطرح السؤال المهمّ: ماذا يعني التكوين المهنيّ في ظلّ الإبادة؟

قال د. وهبة إنّ التركيز في فلسطين حاليًّا ينصبّ على تمكين المعلّم من العمل خارج جدران الصفّ، ومنحه دورًا مجتمعيًّا بارزًا. فالمعلّم في الضفّة الغربيّة وغزّة يمتلك مكانة مختلفة، لم تحدّدها السياسات بل حدّدها لنفسه. وعلى الرغم من محاولات السياسات اللحاق بالوضع الراهن، إلّا أنّ المعلّم ظلّ حاضرًا وفاعلًا ومواكبًا للتحدّيات.

في غزّة، كان المعلّم واعيًا بحاجة الطلّاب إلى التعليم، وجرؤ على ابتكار مبادرات وتنفيذها. اعتبر التعليم جزءًا أساسيًّا من حياة الإنسان، إلى جانب المأكل والمشرب؛ فجعل من بيته، وخيمته، والمدرسة التي لجأ إليها صفوفًا تعليميّة حقيقيّة، متعاونًا مع المجتمع لتوفير المستلزمات اللوجستيّة، مثل الطاولات والكراسي. كما منح مهنته طابعًا تحرّريًّا لمواجهة الاحتلال والإبادة.

وأشار د. وهبة إلى أهمّيّة النظر في الدور التاريخي للمعلّم الفلسطينيّ، وتسليط الضوء على إسهاماته في المقاومة منذ الانتداب البريطانيّ حتّى اليوم.

بدوره، أكّد أ. جسّار على ضرورة أن يكون لدى كلّ دولة سياسة للتعلّم في الأزمات، مستعرضًا تجربة الأردن خلال جائحة كورونا؛ إذ أصبح من الضروري التركيز على دعم أولياء الأمور وتنمية قدراتهم، كونهم أحد العناصر الأساسيّة للتعليم في أوقات الأزمات. وأكّد أيضًا، على الاعتراف بالمعلّم بوصفه الركيزة الأساسيّة للإصلاح التعليميّ، مع ضمان حقوقه المادّيّة والمعنويّة ومكانته الرفيعة.

واختتمت أ. بكيرات الندوة باقتباسٍ، هو: "الطائر لا يغرّد لأنّه يملك جوابًا، بل لأنّه يحمل أغنية في داخله"، موضحة أنّ برنامج التكوين المهنيّ يعمل على إيقاظ الأغنية الداخليّة للمعلّم، وبناء هويّته المهنيّة، وجعله يرى التعليم رسالة أكثر من كونه وظيفة.

وشدّدت أ. يسرى على أهمّيّة تذكّر رسالة المعلّم في المجتمع، ودور التمكين المهنيّ في تعزيز قدراته ومهاراته ليتمكّن من أداء رسالته خلال التغيّرات المختلفة بطريقة مستدامة.

من جهته، كشف د. وهبة عن خطّة استراتيجية جديدة بعنوان "المعلّم في خطّ المواجهة"، تركّز على كيفيّة تمكين المعلّم في مواجهة الإبادة التعليميّة، وأداء دوره التحرّري. وهي جزء لا يتجزّأ من تكوينه المهنيّ.

 

وفي ختام الندوة، أكّدت د. أبو لبن أنّ من يختار مهنة التعليم شخص كريم، يجود بوقته وجهده ومعرفته وحبّه للطلّاب، لذلك يجب على أيّ برنامج للتكوين المهنيّ أن يكون كريمًا مع المعلّم، ويعمل على بناء المنظومة التعليميّة والمجتمع في المستقبل.