مهنة التعليم: اتّباع أم إبداع آراء وانطباعات في ضوء تجربة شخصيّة
مهنة التعليم: اتّباع أم إبداع آراء وانطباعات في ضوء تجربة شخصيّة
وائل كشك | متخصص في مجال التربية وأساليب التعليم باحث ومحاضر جامعي-فلسطين

 

"لا شيء يذهلني في التعليم مثل الجهل الذي يتسبّب التعليم بتراكمه في هيئة حقائق جامدة"- هنري آدمز

أودّ الإشارة في البداية إلى أنّ المقال، بما فيه من آراء وانطباعات، يستند إلى تأمّلات انبثقت من واقع خبرتي الشخصيّة في حقل التعليم والتعلّم. وهذا يشمل بواكير تجربتي المدرسية طالبًا ومعلمًا فيها، ثمّ محاضرًا وباحثًا في الجامعة. وعلى هذا الأساس شكّلت هذه التجربة الممتدّة والمتنوّعة مصدرًا ملهمًا للأفكار، ومرجعا لها في آنٍ.

سأبدأ بفكرة تأسيسيّة قد نتّفق عليها إلى حدّ كبير، وهي أنّ المعلّم الجديد يأتي إلى المدرسة وفي خياله تصوّر أنموذجيّ للمعلّم الناجح، يتكوَّن ضمن إطارين متضافرين: الأوّل نظريّ يتعلّق بساعات الدراسة المنهجيّة، والثاني عمليّ يتمثّل بأشباح معلّميه الذين عبروا تجربته التكوينيّة. لكن، يبقى هذا الأنموذج المفترَض في كلّ الحالات متخيَّلًا، ولا يمكن تطبيقه كما هو، بل تعيد التجربة العمليّة دائمًا إنتاجه من جديد وفق العلاقات السياقيّة. وهذا ما يجعلنا نفكّر بجديّة عالية وبمستوى عال من التأمّل، في ما يجب أن يكون عليه المعلّم الجيّد والتعليم الجيّد.

 

المعلّم الجيّد والتعليم الجيّد

يختلف تحديد المعلّم الجيّد والتعليم الجيّد من مدرسة فكريّة إلى أخرى، فلكلّ مدرسة منطلقاتها ومسوّغاتها. ولكن، لنتّفق أنّ مشكلة التعليم في العالم العربيّ عامّةً تكمن في اعتماده على سؤال الكمّ "ماذا نعرف؟" عوض سؤال الكيف "كيف نعرف؟" حيث يكون المعلّم في معظم الحالات محاضرًا وملقّنًا وناقل معرفة ومهجوسًا بالكمّ الذي أنجزه من المادّة الدراسيّة، أمّا الطالب، فمستقبِل للمعلومات وحافظ لها، ومهموم بكيفيّة الاحتفاظ بها حتّى يحين وقت الامتحان. وإذا تأمّلنا المشهد الصفّيّ نلاحظ غيابًا شبه تامّ للحوار والنقاش، وغيابًا شبه مطلق لاستخدام استراتيجيّات التعليم المبنيّة على حلّ المشكلات والاستقصاء والحالات والمشاريع. فيُغرِق المعلّم الطلبة بكمّ هائل من المعلومات النظريّة، والتي تشمل الحقائق والمفاهيم والمبادئ والنظريّات في الحقول المعرفيّة المختلفة، معتقدًا أنّ عرضها يكفي لحصول التعلّم، من دون فسح مجال للحوار أو إبداء الرأي أو التعليق أو النقاش. وبالتالي، لا يُعطى الطالب فرصة للنموّ المعرفيّ. ولتحقيق ذلك، تحتاج المعلومات التي يقدّمها المعلّم إلى مساءلة واختبار وشكّ ونقد ومحاورة ومعالجة ذاتيّة يؤدّيها الطالب، حتّى تتحوّل إلى معرفة وتكتسب معنى شخصيًّا. وهذا هو الجانب المفقود في التعليم. 

 

في ضوء ما سبق، نقترح البنود الآتية، والتي تلقي الضوء على مفهوم المعلّم الجيّد والتعليم الجيّد:

أوّلًا: ليس دور المعلّم نقل المعلومات، بل تصميم بيئة تعلّم محفّزة تأخذ بعين الاعتبار خبرات الطلبة السابقة ومعرفتهم. يتطلّب ذلك اطلاع المعلّم على ما ينتجه طلّابه كتابةً ومشافهةً، وإشراكهم إشراكًا نشطًا في عمليّة التعلّم، حيث المعلّم والطالب شركاء في بناء المعرفة. 

ثانيًا: التعلّم الجيّد عمليّة بناء للمعارف وليس استهلاكًا لها، والسؤال عن المعرفة وليس تسليمًا بها. ما يعني أهمّيّة توفير فرص وسياقات يتمكّن الطلبة بها من بناء معارفهم ومحاورتها ونشرها.

ثالثًا: يحدث التعلّم العميق من الأخطاء، إذ توفّر الأخطاء فرصة حقيقيّة للتعلّم، والنظام التعليميّ يمقت الأخطاء ولا يتسامح معها، فبمجرّد أن يخطئ الطالب، يوسَم بعلامة يصعب محوها وقد يعاقب عليها جسديًّا أو رمزيًّا. وبالتالي، يتعلّم الطالب أنّه لا بدّ من تفادي الأخطاء بأيّ طريقة ممكنة. وعليه، علينا تغيير موقفنا من الأخطاء، في سياق التعلّم على الأقل، فعدم ارتكاب الخطأ يحول دون ممارسة الطالب تجربة جديدة.

رابعًا: معرفة كيفيّة الحصول على المعلومات أهمّ من المعلومات ذاتها، فهي تتّسم دومًا بالتغيّر والتطوّر المتسارع، كما أنّ مصادر التعلّم هائلة ومتنوّعة. وبالتالي، من غير المعقول حصرها في كتاب أو مقرّر أو شخص المعلّم.  

خامسًا: استراتيجيّات التعليم متنوّعة ولا يصحّ حصرها في المحاضرة، فهناك استراتيجيّات تعليم مبنيّة على الحوار والاستقصاء والاستكشاف وحلّ المشكلات والحالات والمشاريع. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه ليس من المهمّ استخدام استراتيجيّة محدّدة، بل المهمّ استخدامها استخدامًا جيّدًا، كتحسين المحاضرة بتوظيف التكنولوجيا، لاستنهاض فاعليّة الصف.  

سادسًا: يكمن التعلّم الجيّد في تنوّع الآراء ووجهات النظر المختلفة وإثارة الأسئلة حول المعارف الموجودة. فكثيرًا ما شاهدتُ ممارسات للمعلّمين تظهر أحيانا أشبه بقوّة بوليسيّة تقمع كلّ مظاهر التعدّدية وتنوّع الآراء وتعدّد وجهات النظر. وفي ضوء ما سبق، كيف يمكن أن نتخيّل ملامح المعلّم؟ 

 

حول إمكانيّة مهننة التعليم

ربّما يصحّ القول إنّ التعليم يحتاج إلى مهننة، أي جعل التعليم مهنة كالطبّ والهندسة والمحاماة وغيرها، إذ من الشائع جدًّا أن نسمع عبارات مثل طبيب جيّد أو محامي جيّد. ولكن مهننة التعليم في منظور قسم كبير من التربويّين تجعل التعليم أسير معايير تتعلّق بالأداء والحرفيّة وكفايات التدريس، وهذه وجهة نظر واقعيّة تمامًا.

معظم برامج التنمية المهنيّة للمعلّمين في المراكز والمعاهد والكلّيّات تستند إلى افتراض رئيس، يتمثّل في أنّ تغيير السلوك المهنيّ مرهون بمعرفة ماهيّة السلوك المرغوب فيه، والذي يوجَّه ويُقيَّم بالمعايير الأدائيّة، ويُكتسب بمداخل عقلانيّة. تتعارض هذه الرؤية مع طبيعة مسار العمليّة التعليميّة، حيث تخضع العمليّة التعليميّة لواقع مركَّب وثريّ، لا يمكن تبسيطه ضمن رؤية آليّة تحكمها قوانين خطّيّة بالمنطق نفسه الذي يحكم الآلة مثلًا. فالتحديد المسبق لمخرجات التعلّم أو السلوك المرغوب يُمَوضِع عمليّة التعليم ضمن حدود صارمة وواضحة ومغلقة، ويجعلها أشبه ببرنامج تدريبات عسكريّة. الأمر الذي يفرض قيودًا على عمليّة تعلّم حقيقيّة تُكبَح فيها قدرات الطلبة، ويحُدّ من طموحاتهم وحرّيّاتهم، وتُعطّل ممكناتهم الإبداعيّة في واقع مُعرَّض لأسباب التغيّر والتحوّلات والمصادفات. 

من ناحية أخرى، معظم برامج التنمية المهنيّة أو برامج التأهيل المهنيّ للمعلّمين، تحتشد بالنظريّات والمعارف النظريّة، وتكاد تخلو من مهمّات تُورط المعلّم في عمل يولّف بين النظريّة والتطبيق. كما أنّ الأنشطة والتدريبات في هذه البرامج لا تنسجم مع معتقدات المعلّمين، بل تعرض وصفات بيداغوجيّة جاهزة. 

 

حول التعليم والتنمية المهنيّة

1.  لا ينشغل المعلّمون بأمور أدائيّة وحرفيّة، مثل الطرق والأساليب التي يقدّمون بها الدروس وحسب، بل تخرج إلى أوسع من ذلك: من الاهتمام بالتطوّر الذاتيّ، إلى الاهتمام بالشأن العام. فينفتح المعلّمون على زملائهم في إطار لغة مشتركة، وعلى جماعات مهنيّة أخرى ضمن سياق حواريّ يستهدف تطوير أدائهم وتحسين أوضاعهم.

2. تحدث التنمية المهنيّة الحقيقيّة للمعلّمين عندما نزجّهم في أتون مواقف واقعيّة تساعدهم على اكتشاف مصادر قوّتهم، وعندما نشجّعهم على تخطّي السلوكيّات المعتادة والتصوّرات المألوفة، وعندما نتجاوز في برامجنا النظريّات والقوالب الجاهزة، ونعتمد على شبكة قراءات جديدة. 

3. لا تتغيّر الممارسات إلّا بمواجهة الذات، ذلك أنّ الممارسة الفاعلة لا بُدّ أن تُبنَى على ممارسة سابقة تقوّضها، وهذا ما يتطلّب من المعلّم أن يعيد النظر في دوره باستمرار، لأنّه يطال مفهوم المعلّم الجيّد والتعليم الجيّد، كي لا يتغيّران تغيّرًا مذهلًا.

4. متطلّبات مهنة التعليم غير ثابتة، حيث المستجدّات التكنولوجيّة والأولويّات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة تتغيّر باستمرار. وبالتالي، هناك حاجة لتنمية مهنيّة مستدامة تطال العاملين في المؤسّسة التعليميّة.

5. تجارب المعلّمين بحدّ ذاتها مصدر غنيّ وملهِم للمعرفة والتطوّر المهنيّ المستمرّ، وعلى المدرسة أن توفِّر فرصًا وإمكانات لسرد هذه التجارب وتقديمها للمعلّمين والطلّاب، داخل المدرسة وخارجها، كنماذج للتأمّل والحوار والتطوير. 

6. احتراف مهنة التعليم ليس كفاءة فرديّة وحسب، بل قدرة على العمل ضمن مؤسّسة، وتعليم الزملاء والتعلّم منهم.

 

حول التحدّيات التي تواجه التنمية المهنيّة

تجربتي، معلّمًا في المدارس، ومحاضرًا في كلّيّة التربية في جامعة بيرزيت، فضلًا عن اشتغالي مع المعلّمين في مجال الأبحاث الإجرائيّة، ولَّدت لديّ قناعة عميقة بأنّ مهنة التعليم تقليديّة ومحافظة إلى حدّ كبير، وأنّ مصلحة المعلّم تكمن في المحافظة على ما هو قائم. فيمكن لأيّ مراقب أو باحث أن يتلمّس ما يكرّسه المعلّمون من جهد في بناء جدار صارم، يحميهم من القلق الناتج عن الإخلال بالتوازن ومقاومة التغيير. وكثيرًا ما كنت أتساءل: لماذا يغامر المعلّم في خوض تجارب قد تربك ممارساته المعتادة وتجلب له متاعب جديدة؟ لماذا يقبل بهذه المجازفة الانفعاليّة؟ وهذه التساؤلات كانت تولّد تساؤلات أخرى: كيف يمكن إقناع المعلّمين بأنّ القلق والارتباك مؤقتين وضروريّين في آن، وأنّ التطوّر المهنيّ مؤسَّس في ضوء عدم الرضا عمّا هو قائم، وهذا الشعور بعدم الرضا هو الذي يولّد القلق السعيد لدى المعلّم، ويدفعه إلى تجريب ما هو مختلف، وأنّ أيّ تطوّر في أيّ مجال لا يمكن أن يحدث بالرضا عن الذات، بل في ظلال الشكّ والقلق؟ وكيف يمكن إقناع المعلّمين بأنّ التغيير يُحسِّن من صورتهم أمام أنفسهم قبل أن يُحسِّنها أمام الآخرين؟  

 

من هنا، نجد أنّ التنمية المهنيّة عمليّة اجتماعيّة وثقافيّة، تحتاج إلى فريق مجتمعيّ غير تقليديّ ومتنوِّر، وسياق ثقافيّ يحترم المبادرات والإبداعات الجديدة التي تكسر المألوف في التعليم ورتابته. لذلك، نعتقد أنّ من معيقات التطوّر المهنيّ للتعليم عدم اختبار المجتمع اختبارًا مباشرًا رتابة الإيقاع المدرسيّ القاسية، وبلادة النشاط التعليميّ، ولكنّ الطلّاب وحدهم يختبرون هذا الجمود. وعليه، تتطلّب مهمّة التطوير المهنيّ شراكة مجتمعيّة. ذلك أنّ الجهاز التربويّ، بدءًا من وزارة التربية والتعليم، وصولًا إلى إدارات المدارس وفق سياساتها الراهنة، لا يستطيع الولوج إلى مدارج التقدّم مهما تبنّى من مشروعات وبرامج، فهو كيان راسخ وثقيل. وتبدو لي تلك المشروعات والبرامج مثل ديكور جميل وبرّاق على سيّارة قديمة ومتهالكة.  

 

* * *

في ضوء ما سبق، أختم مقالي بأسئلة قد تفتح حوارًا تربويًّا أو تؤسِّس لمشروع بحثيّ مختلف:

  • - هل تتّسم ممارسات المعلّمين بالتناسق؟ وهل هناك أنساق من المعتقدات توحِّد نظرتهم إلى العمليّة التربويّة؟ 
  • - هل يؤمن المعلّمون بقدرتهم على أن يكونوا معلّمين ومتعلّمين في الوقت نفسه؟ وهل يُدركون مدى حاجتهم إلى التعلّم؟ وهل يستطيعون تحديد الاحتياجات التي تلزَمهم بالتطوّر المهنيّ؟ 
  • - إلى أي مدى يعتقد المعلّمون أنّ التعليم مهنة ليس لها معايير ومقتضيات بيداغوجيّة فحسب، بل لها هويّة أساسها الثقافة؟ 
  • - هل يمتلك المعلّمون لغة مهنيّة مشتركة؟ وهل حديثهم بين بعضهم يطوِّر لغة مشتركة بينهم، لها مفرداتها ودلالاتها؟ 
  • - إلى أي مدى يرى المعلّمون ما يحدث داخل غرفة الصفّ شأنًا عامًّا؟
  • - ما مدى تأثير العمل مع المعلّمين، في تعزيز الجرأة لديهم في خوض مغامرة خارجة عن المألوف؟
  • - كيف يمكن للمقتنعين بضرورة التنمية المهنيّة المستدامة تحمّل المسؤوليّات والأعباء في عالم يسوده الخوف والشكّ وتدنّي الأجر وتراجع التقدير الاجتماعيّ؟