مع بدء العطلة الصيفيّة، تتغير الأمور في بيوت عدّة، حيث لا وجود للواجبات المدرسيّة، واللعب يأخذ حيّزًا أكبر. لكن هذه الفترة التي تبدو خالية من المسؤوليّات، تُخفي فرصة تعليميّة ذهبيّة، ولا سيّما إذا استُخدِمت في تنمية عادة القراءة لدى الأطفال في الصفوف الأولى، حيث تُبنى مهارات التعلّم الأساسيّة وتُزرع البذور الأولى لحبّ العلم والمعرفة. في هذه المرحلة من العمر، يميل الطفل بطبيعته إلى الاستكشاف، ولا شيء يرضي هذا الفضول مثل كتاب ممتع يُعطى له بطرق محبّبة. وبينما تُبيّن الدراسات التعليميّة أنّ فترات التوقّف الطويلة عن القراءة تؤثر بشكل سلبيّ في مهارات الفهم والتعبير، فإنّ القراءة المنزليّة في الصيف، يمكن أن تكون الجسر الذي يحمي الطفل من التراجع، بل وتدفعه خطوات إلى الأمام من دون أن يشعر بأنّه يقوم "بتعلم إلزاميّ رسميّ".
والجميل في الموضوع، أنّ القراءة في البيت لا تحتاج إلى جهد كبير أو أشياء معقّدة. يكفي أن يخصّص الأهل وقتًا كلّ يوم، حتّى لو كان ربع ساعة، للجلوس مع الطفل وقراءة قصّة معه أو السماح له بالقراءة. هذا الوقت القليل عندما يتكرّر كلّ يوم، يصنع فارقًا كبيرًا على المدى البعيد. وقد تبدأ بسؤال سهل: "ماذا تحبّ أن نقرأ اليوم؟" أو "هل تودّ أن نحكي قصّة؟"
عندما يشعر الطفل بأنّ القراءة ليست فرضًا، بل شيئًا ممتعًا يشاركه مع من يحبّ، يبدأ بربط الكتاب بالمشاعر السعيدة. ومن هنا يبدأ بالتّحول العميق من قارئ بطيء إلى قارئ متحمّس وشغوف. ويستطيع أن يقوّي هذا الشعور بالكتاب، عن طريق ربط القصص بحياة الطفل اليوميّة، مثل قصّة زيارة طبيب قبل موعد تطعيم، أو حكاية عن الصداقة قبل بداية النادي الصيفيّ.
القراءة في البيت تزداد غنى عندما تتحوّل إلى تفاعل ومشاركة حقيقيّة بين الأهل والأطفال، لا مجرّد تمرين صوتيّ. وتكون أجمل عندما يبدأ النقاش بينهم؛ فعندما يسأل الأب أو الأمّ الطفلَ: "لو كنت مكان البطل ماذا ستفعل؟ هل ما قام به صحيح؟ ما الذي أعجبك في النهاية؟" فهذا لا ينمّي فقط مهارة الفهم القرائيّ، بل يفتح نافدة أيضًا على تفكير الطفل بأحلامه الصغيرة.
وكثير ما سمعنا وقرأنا عن مبادرات بسيطة من قبل الأمّهات تحتاج إلى القليل من الترتيب، ولكنّ أثرها كان عظيمًا، منها: أن تجعل الأمّ مساء كلّ جمعة "حكاية وقصّة": تُطفأ الأنوار وتُقرأ القصّة على ضوء خافت مع أصوات تمثيليّة تبعث السرور والفرح. بعد مدّة يبدأ الأطفال باقتراح القصص بأنفسهم، ثمّ يتحوّلون إلى تأليفها. وهكذا لا تصبح القراءة عادة فحسب، بل حيّزًا للإبداع والمشاركة.
مبادرات صيفيّة تشعل شرارة القراءة والإبداع في قلوب أطفالنا
- نادي القراءة الصيفيّ المنزليّ: اجعل القراءة تقليدًا عائليًّا. خصصوا وقتًا أسبوعيًّا يجتمع فيه أفراد الأسرة حول الكتب. كلّ شخص يختار كتابه، ثمّ تتشاركون النقاش بأسلوب ممتع ومشجّع.
- بطاقة قارئ الصيف: أنتج قائمة نقاط أو بطاقة ملصقات تحفّز طفلك على الإنجاز. مثل حصوله على رحلة خاصّة أو هديّة رمزيّة، بعد إتمامه قراءة كتاب أو قصّة.
- مكتبة صيفيّة متحرّكة: خصّص زاوية جذّابة في البيت لمكتبة متجدّدة كلّ أسبوع. انتق كتب مغامرات وحكايات خيال ومجلّات شيّقة، واجعل الولد يكتشف الجديد دائمًا.
- قصص من إبداعه: دع خياله يوجّه القلم، شجّع طفلك على إنشاء قصّة قصيرة، وصمّم معه غلافًا ورسومات يمكنك طبعها لتكون" كتابه الأوّل".
- المطالعة في أماكن غير اعتياديّة: بدّلوا الموقع لتجديد الشغف، اقرؤوا في الحديقة، على البحر، أو حتّى في خيمة صغيرة داخل المنزل، القراءة تصبح مغامرة في كلّ مرّة.
ولا يمكن إغفال دور التكنولوجيا، فمن الممكن استثمارها بأسلوب ممتع ونافع من خلال برامج وتطبيقات تقدّم حكايات بطريقة تفاعليّة جميلة. لكنّ الأهمّ أنّ الأهل يشاركون الأطفال في القراءة، وعدم تركهم بمفردهم لكي تبقى القراءة فعّاليّة جماعيّة، وليس مجرّد مشاهدة فرديّة.
قد لا يعي الطفل في تلك اللحظة أنّ هذه الروايات والقصص تثري لديه الرصيد اللغويّ، أو تحسّن من لفظه أو توسّع خياله. لكنّه سيتذكّر أنّ صوته كان مسموعًا حين سرد القصّة، وأنّ عيون والديه كانت تتبعه بكلّ حبّ واعتزاز، وهذه الذكرى كفيلة بجعل المطالعة جزءًا من شخصيّته، وليس فقط من منهجه الدراسيّ.
استغلال العطلة الصيفيّة في القراءة لا يحتاج إلى شعارات أو خطط معقّدة، بل إلى نيّة ووقت منتظم وشراكة وديّة بين الأهل وأبنائهم. وفي كلّ قصّة تُقرأ، هناك عالم يشيّد ومهارة تُشحذ وطفل يتقدّم خطوة ليصبح إنسانًا أكثر إدراكًا وبلاغة، وأكثر حبًّا للمعرفة.
أعرف أنّ العطلة الصيفيّة قد تكون مرهقة للأهل، لكن هناك بعض التوصيات المهمّة التي تساعد في استغلالها بشكل مفيد وممتع. التقيّد بالقراءة اليوميّة أمر رائع للأطفال، حتّى لو كانت لمدّة قصيرة. لا تشعر بالقلق إذا بدا الوقت غير كافٍ، المهمّ الاستمراريّة. وعند اختيار القصص حاول أن تبحث عن مواضيع تهمّ طفلك. القصص المملّة قد تجعله يكره القراءة، بينما المشوّقة تشجّعه على حبّها.
دع طفلك يشارك في اختيار القصص والكتب، هذا يجعله أكثر حماسًا، لأنّه يشعر أنّ له رأيًا في ما يقرأ. لا تلتزم بطريقة واحدة للقراءة، يمكنك القراءة بصوت عالٍ، أو تمثيل القصّة، أو حتّى تسجيل صوته وهو يقرأ، التنويع يجعل الأمر ممتعًا.
القراءة ليست فقط في الكتب، إذ يمكن دمجها في الحياة اليوميّة، مثل قراءة لافتات المحلّات واللافتات العامّة أثناء النزهات، وقراءة ما يكتب على الشاشات لإظهار أهمّيّة القراءة في الحياة اليوميّة.
في النهاية لا تضغط على طفلك أو تقارنه بغيره، المهمّ شعوره بالمتعة أثناء القراءة. كلّ خطوة صغيرة تُحدث فرقًا مع الوقت. صيف القراءة ليس فقط لحماية المهارات، بل لصنع الذكريّات. دع الحكايات توجّه خيال طفلك، ودع الكتب تفتح له منافذ على العالم. ومع كلّ صفحة يطويها اعرف أنّك تغرس فيه إنسانًا مبدعًا ومميّزًا، أكثر إدراكًا، وأكثر شغفًا بالمعرفة.