محكّات التفكير: الإجابة المقبولة ليست في ذهن المعلّم وحده
محكّات التفكير: الإجابة المقبولة ليست في ذهن المعلّم وحده
محمّد تيسير الزعبي | خبير تطوير أساليب تدريس اللغة العربيّة - الأردن

ما زال عدنان حاضرًا في ذهني منذ تلك الحصّة الأخيرة من الجدول الدراسيّ اليوميّ. في ذلك اليوم أنهينا قراءة رواية غسّان كنفاني "رجال في الشمس"، واحتدم في عقولنا سؤال الرواية الختاميّ: "لماذا استسلموا للموت؟ لماذا لم يطرقوا جدار الخزّان؟". أغلب القراءات النقديّة التي تناولت الرواية حاولت الإجابة عن هذا السؤال أيضًا، لكنّ عدنان، الطالب في الصف السابع، كان له رأي آخر، إذ قال لي: لم يموتوا، بل خرجوا من الخزّان وهربوا. ودليل عدنان أنّ فلسطين ورواية معاناة سكّانها جرّاء الاحتلال حاضرتان في معظم دول العالم. لقد هربوا، وانتشروا في الأرض، يخبرون الناس عمّا جرى لهم في فلسطين.

 

في هذا المقال، نسلّط الضوء على محكّات التفكير بوصفها أداة مهمّة تساعد الطلّاب على التعبير عن آرائهم، والتحدّث بحرّيّة، وإنتاج معرفة جديدة، ليس بالضرورة أن تتوافق مع ما في ذهن المعلِّم أو ما ورد في المنهاج. هي أداة تتيح للطلبة التعبير عن آرائهم بالقضايا الحياتيّة المحيطة بهم، وتعزّز وكالتهم في الصفّ، فيثيرون الأسئلة ويبحثون عن إجاباتها. وبهذا المعنى، تُعتبر تعزيزًا للمهارات الإنسانيّة التي يجب أن يكتسبها الطلبة داخل المدرسة وخارجها، ويقتصر دور المعلِّم في هذه الأداة على الإشراف على النقاش والحوار من دون أن يتدخّل به.

 

حول المفهوم

تدلّ محكّات التفكير على حلقات فكريّة تتضمّن تحديد المفاهيم أو المشكلات أو القضايا، ثمّ تحليلها باستخدام البيانات المتعلّقة بها، ثمّ تقييم المعلومات التي نجمعها عبر أدوات مختلفة، مثل الملاحظة، أو التفكير، أو التواصل والحوار، أو تأدية تجربة ما. واستنادًا إلى هذا المفهوم، يحتاج رصد القضايا أو المفاهيم إلى مهارات التفكير العليا، واستخدام المهارات العقليّة العميقة، وإدراكها إدراكًا كافيًا، وما يتعلّق بها من أفكار، كي يصبح المتعلّم متمكِّنًا من التحليل، وجمع البيانات والربط بينها، وتطوير مهاراته في هذه الجوانب (وزارة التربية والتعليم – الأردن، 2017).

 

أصل الاستراتيجيّة

اشتهر اليونانيّون القدماء بعقد جلسات دائريّة للحوار والنقاش حول قضايا حياتيّة أو فكريّة. وغالبًا ما كانت الحلقات تخرج بنتائج معيّنة ينبغي الالتزام بها، وتنفيذ ما تمخّض عنها من قرارات، ولا سيّما إذا اشترك فيها قادة المجتمع والمسؤولون فيه. ومع ازدهار الترجمة في أزمنة تاريخيّة مختلفة، انتقل هذا الفنّ إلى العرب وبرعوا فيه، فصارت حلقات النقاش والحوار تُعقد في أيّ مكان: في بيوت السادة والعلماء، وفي الساحات والأسواق الأدبيّة، وفي المساجد ودور العبادة. وأصبحت معظم فئات المجتمع، بمختلف طبقاتها، تشارك في هذه الحلقات. تطوّر دور حلقات النقاش من مرحلة إصدار القرارات، إلى مرحلة إظهار القدرات اللغويّة ومهارة النقاش والتعبير، بل غدت مجالًا رحبًا للتسلية والمتعة وقضاء لحظات سعيدة (دياب، 2000).

 

آليّة التنفيذ

لا تحتاج حلقة محكّات التفكير كثيرًا من الإجراءات، إذ يجلس الطلبة داخل الغرفة الصفّيّة جلوسًا دائريًّا، بينما يجلس ثلاثة طلّاب أو أربعة خارج الدائرة، ويكون دورهم تقييم الحلقة، وتحديد جوانب القوّة فيها ومجالات التحسين، وفق أنموذج يتّفق عليه المعلّم وطلبته قبل عقد الحلقة. يقرأ المعلّم أو أحد الطلبة النصّ المراد تحديد المفهوم أو المشكلة فيه، أو قد تكون هناك عبارة يدوّنها المعلّم على اللوح، ثمّ يمنح طلبته وقتًا للتأمّل الفرديّ وتكوين الأفكار حولها. يُمنَع الطلبة من معرفة النصّ أو العبارة قبل عقد حلقة المحكّات، ليثيروا الأسئلة حولها، ويقدّموا الحلول والآراء المدعَّمة بدليل، يردّون على ما يطرحه بقيّة زملائهم من أفكار. 

يمكن للمعلّم كذلك أن يقسّم الطلبة إلى مجموعات متساوية، بحيث تناقش كلّ مجموعة المفهوم، أو المشكلة، أو القضيّة الواردة في النصّ، أو العبارة المكتوبة، ثمّ يندمجون معًا في حلقة كبيرة واحدة، وتعرض كلّ مجموعة رؤيتها وآراءها عن القضيّة. وبعد انتهاء النقاشات بين الطلبة، يستمعون جميعًا إلى تقرير المراقبين الذين رصدوا أداءهم وفق المعايير المتَّفق عليها مسبقًا، وتكون آراء المقيّمين مدعَّمة بالأدلّة والشواهد.

 

تنظيم مختلِف للحصّة  

اعتاد الطلبة على نمط ثابت للحصّة، لكنّهم الآن يتعاملون وفق نمط جديد تختلف فيه طريقة جلوسهم في الغرفة الصفّيّة، وكذلك استراتيجيّات التعلّم. اعتاد الطلبة أن يسمعوا المعلّم يتحدّث ويشرح، حتّى إذا ما انتهى الشرح، وجدنا الطلبة يحاكون ما علّمهم. أمّا الآن، ووفق استراتيجية محكّات التفكير، فهم يديرون نقاشًا حول قضيّة معيّنة، من دون أن يضطر أحدهم إلى رفع يده لأخذ الإذن بالتكلّم، وليس هناك من يصدر حكمًا على أقواله وآرائه، وهذا أسلوب تعلّمي جديد لم يألفه الطلبة من قبل.

إذا كان المعلّم ماهرًا، يختار نصًّا أو عبارة أو قضيّة تهمّ الطلبة، وتلبّي حاجاتهم، وتراعي اهتماماتهم، ويحرص حرصًا شديدًا ألّا يؤثِّر في سير النقاش.

 

دور الطالب في إنتاج معرفته

المعلّم الماهر هو الذي يدعم الممارسات التعليميّة النوعيّة في غرفته الصفّيّة، ويحرص على تطويرها. من هنا، هو يعرف مسبقًا أنّ طلبته ينخرطون في سياق حياتهم الاجتماعيّة في حوارات مختلفة الموضوعات مع الأصدقاء أو العائلة، وربّما يراقب بعض الحوارات في صالات الأفراح أو بيوت العزاء أو المنازل التي يزورها، وفي كلّ حوار يشارك الناس آراءهم، ويعبِّرون عن أفكارهم.

يأمل كلّ معلِّم أن يوصل طلبته إلى هذا المستوى من النقاش، ذلك أنّ إنتاج المعرفة يتطوَّر عندما يبدأ الطالب ربط ما يتعلّمه في الكتاب المدرسيّ بواقع حياته والقضايا التي يتعامل معها يوميًّا، فينتقل بذلك من متعلّم يتلقّى المعارف إلى متعلِّم ذاتيّ. يلجأ الطالب إلى مصادر بحث متنوِّعة، ويستشهد بأقوال العلماء والخبراء، ثمّ يعيد ذكرها على مسامع زملائه في اليوم التالي الذي تُعقَد فيه جلسة محكّات التفكير. يدرك بعد ذلك أنّ المشاركة في أيّ حوار تتطلّب امتلاك القدر الكافي من مهارات التواصل، والتي تقتضي بدورها امتلاك مفردات كافية للتعبير عن الأفكار، واحترام رأي الآخرين وعدم مقاطعتهم. فإذا استطعنا أن نرسِّخ هذه المهارات في سلوك الطالب، نكون قد أنتجنا فردًا صالحًا في المجتمع (دياب، 2000).

لا بدّ من تكرار هذه الممارسات التعليميّة التي يدعمها المعلّم بتقبّله وجهات نظر طلبته المتباينة، وعدم رفض رأيهم أو توجيه فكرهم وفق ما يرغبه، وتحفيزهم وتشجيعهم على الاستمرار بها. أضف إلى ما سبق ضرورة البحث عن الأدوات التي تدمج الطلبة كافّة في الحوارات، من دون أن يكون تحصيلهم الأكاديميّ مانعًا انخراطَهم في هذه الحوارات المهمّة لهم في كلّ زمان ومكان. ولا ننسى أهمّيّة إثارة أسئلة توجِد روابطَ بين دروس المنهاج التي يتعرّضون لها والقضايا التي يناقشونها. وبالتالي، يسمح المعلّم بأن يعدّل الطلبة الأفكار المطروحة للحوار، أو يضيفون إليها أفكارًا أخرى في أوقات لاحقة لحلقة محكّات التفكير.

يستثمر المعلّم الماهر الذي يُخضِع تجربته لتأمّل مستمر، تطوّر مهارات طلبته في إدارة النقاشات وإجراء الحوار. يتيح لهم اقتراح الموضوعات ودعمها بالنصوص والعبارات، وإضافة ملاحظات جديدة يودّون تناولها في جلساتهم، أو أسئلة يرغبون بالعثور على إجاباتها. يؤدّي ذلك كلّه إلى تكوّن طالب قادر على إنتاج معرفته بنفسه.

 

التحدّيات

جلوس الطلبة جلوسًا دائريًّا ليس عبثيًّا، فالجلوس الدائريّ يجعل المتحاورين على القدر نفسه من الأهمّيّة، فلا يكون هناك طالب أفضل من الآخر. لذلك، يجب أن يبحث المعلّم في الغرف الصفّيّة الضيّقة عن مكان يتمكّن فيه الطلبة من الجلوس جلوسًا دائريًّا، وقد تكون المكتبة خيارًا مناسبًا. أمّا إذا كان عدد الطلبة في الصفّ كبيرًا، فيلجأ المعلّم إلى وضعهم في دائرتين، واحدة داخل الأخرى، بحيث يؤدِّي الطلبة في الدائرة الخارجيّة دور المراقبين، بينما يناقش الآخرون في الدائرة الداخليّة القضيّة أو المفهوم، ثمّ يتبادلون الأدوار في المرّة القادمة.

وفي حال قدّم أحد الطلبة معلومة غير صحيحة، أو دعا إلى قيم سلبيّة، فيقتضي هنا على الطلبة أن يصحّحوا لبعضهم البعض، وأن يدركوا جميعًا دورهم في ذلك. وإذا كان الخطأ متعلّقًا بما يمكن دراسته في الحصّة، فبإمكانهم تأجيل تصحيحه إلى حين العودة إلى الدرس في الكتاب المنهجيّ، ولكن إذا كان الخطأ لا يمكن تأجيله، فبإمكانهم تصحيحه مباشرة.  

وعليه، فالمعلّم الماهر يحذر اختيار نصوص جلسة محكّات التفكير من الكتاب المنهجيّ، ذلك أنّ مخاطر هذا الأمر أكبر من منافعه؛ فنصوص الكتاب يدرسها الطالب وفق استراتيجيّات تدريس ترغّبه بها، فضلًا عن أنّ اختيار تلك النصوص يتمّ وفق منهجية معيّنة تراعي المراحل النمائيّة للطلبة، وتتدرّج من الأسهل إلى الأصعب. وقد يكون فيها بعض الأفكار التي لا يستطيع أيّ طالب الحديث عنها، مثل المفاهيم العلميّة المجرّدة والحقائق، الأمر الذي يجعل مساحة خوض حوار فيها محدودة.

* * *

بناءً على ما تقدّم، نجد أنّ مهارات الحوار والنقاش، وإدارة الجلسات، وتحدّث الطلبة بمرونة وتناسق، وتدعيم الرأي بدليل وحجّة، لن تترسّخ في أذهان الطلبة في مدّة قصيرة. لذلك، يجب أن يمرّوا في مراحل طويلة ومستمرّة من التدريب والممارسة، كي يصبحوا قادرين على إدارة تعلّمهم والشعور بوكالتهم؛ فيخرجون باستنتاجات، ويخوضون في نقاشات بنّاءة. من هنا، يحرص المعلّم الماهر على عقد جلسة محكّات التفكير شهريًا، ليربط المهارات الواردة فيها بما يشرحه في الحصص اليوميّة، ويدعو الطلبة إلى توظيف ما اكتسبوه في الحصص كلّها، أو في المواقف الحياتيّة.

 

المراجع

- دياب، سهيل رزق. (2000). تعليم مهارات التفكير وتعلّمها في منهاج الرياضيّات لطلبة المرحلة الابتدائيّة العليا. دار المنارة.

- وزارة التربية والتعليم. (2017). محكّات التفكير.