لنمنح سلوى القوّة المحرِّكة!
لنمنح سلوى القوّة المحرِّكة!
دلال حمودة | مديرة المرحلة الثانويّة في مدرسة دوليّة - قطر

قيل الكثير عن القوّة المحرّكة للمتعلّم وأهمّيّتها الفعّالة والدائمة. وللقوّة المحرّكة تعريفات مختلفة، ولكنّ جميعها اتّفق على مفهوم واحد: أن يكون للطالب صوت، وأن يُسهِم في اختيار ما يتعلّمه، وأن يمتلك تعلّمَه. ونظرًا إلى اختلاف مهارات هذا العصر اللازمة لتعزيز تقدّم البشريّة اختلافًا كبيرًا عمّا ساد سابقًا، تركّز القوّة المحرّكة على الدور المتغيِّر للطالب في عصر المعلومات ولا سيّما مع ظهور الثورة الصناعيّة الرابعة.

 

تقدّم هذه المقالة أفكارًا لتعزيز القوّة المحرّكة لدى الطالب، وفق نظريّة العقول الخمسة اللازمة للمستقبل لـHoward Gardner، فتقدّم اقتراحًا يبيّن كيف يمكن لنهج معيّن واستراتيجيّات محدّدة تخريج مفكِّر ماهر ومُوجَّه نحو المستقبل، وقادر على انتقاء المعلومات وتقييمها وتوليفها وتركيبها تركيبًا نقديًّا، لخلق تعلّم جديد خلقًا أخلاقيًّا يسوده الاحترام. ويُعتبر امتلاك الطلّاب هذه المهارات الهدفَ الأهمّ، في ظلّ عصر أصبحت فيه المعلومات في يد الجميع، ومن مصادر مختلفة موثوقة وغير موثوقة.

 

العقول الخمسة والقوّة المحرّكة

يتحدّث (Gardner (2008 عن خمسة عقول مختلفة يمكن للطالب أن يتحلّى بها، وهي:

  • - العقل المنضبط الذي يكون على دراية جيّدة بطرق التفكير المتنوّعة من مختلف التخصّصات، ويكون قادرًا على اتّباع أنماط التفكير.
  • - العقل المركِّب الذي يمكنه تجميع المعلومات وربطها معًا من مصادر مختلفة، لتشكيل وحدة متماسكة.
  • - العقل الذي يركِّز على الاحترام، ويكون منفتحًا على الاختلافات، فيقدِّر الجميع.
  • - العقل الأخلاقيّ الموجَّه نحو المسارات الأخلاقيّة.
  • - العقل المبدِع الذي يقدِّم الحلول الإبداعيّة.

 

دعونا نفكِّر كيف يمكننا، برعاية القوّة المحرِّكة وتوفير الصوت والاختيار والملكيّة للطالب في نشاطات التعلّم وفي الحياة المدرسية، "أن نمكّن المتعلِّم من اتّخاذ الخيارات والتصرّف وفقها، بطرق تُحدِث فرقًا في حياته" (Code (2020. ولأنّ اتّخاذ الخيارات الفعّالة يحتاج إلى تمكّن الطالب من مهارات عديدة وطرق تفكير متنوّعة، أعتقد أنّ المقاربة الشاملة لتنمية القوّة المحرِّكة الفعّالة لدى الطالب مدى الحياة تكمن في جعل هدفنا تخريج طلّاب طوّروا العقول الخمسة لديهم.

من هنا، يبدأ تطبيقنا لمفهوم القوّة المحرِّكة بالاستماع إلى صوت الطالب؛ فعلى المعلّم أن يترك أبوابه مفتوحة، وأن يؤكِّد على استعداده لسماع ما يريد الطلّاب قوله، بعد أن يكون قد قدّم لهم نموذجًا عن كيفيّة طرح الأسئلة، واقتراح الأفكار مع الآخرين. كما عليه أن يستقبل الطلبة في الصباح عندما يصلون إلى المدرسة، ويتفاعل معهم خلال الاستراحات، ويتواجد معهم عند نهاية الدوام المدرسيّ. بالإضافة إلى ضرورة انضمامه إلى مجموعاتهم، والسؤال عن اهتماماتهم، فيطرح أسئلة عليهم ويقدّم لهم اقتراحات حول كيفيّة الحصول على مزيد من المعلومات حول القضايا التي يهتمّون بها. يضمن المعلّمون تطبيق مفهوم القوّة المحرِّكة عندما يظهرون مرونة وقابليّة التكيّف، ويطرحون أسئلة مفتوحة مثل: هذه فكرة مثيرة للاهتمام، كيف يمكنك تحقيقها؟ وما الذي تحتاج إليه من دعم؟ ما الذي جعلك تقول ذلك؟ فيدرك الطالب دوره في ذلك كلّه، وهذا الإدراك هو الخطوة الأولى في تملّكه القوّة المحرّكة أو وكالة المتعلّم.

 

مثال توضيحيّ

سلوى طالبة في المرحلة المتوسّطة، تبلغ من العمر 13 عامًا، تحتاج إلى خارطة تنير لها طريق تعلّمها، للإبحار في هذا العالم واستكشاف تعقيداته. يجب أن تكون الطريقة التي نساعد بها سلوى صارمة ودقيقة. وهنا تكمن أهمّيّة تعلّم التخصّصات الأكاديميّة ضمن المواد المدرسيّة التي تُقدَّم في المدارس. دعونا نزوِّد سلوى بموارد متنوِّعة ومنسَّقة بعناية حول القضايا المطلوب بحثها. لنستخدم مصادر مختلفة، مثل مقطع فيديو ومقال وقصّة ورسم كاريكاتير. ساعِد سلوى وزملاءها في تصفّح المعلومات. اطلب منهم تصميم نشاطات لمساعدتهم على فهم المصادر فهمًا أفضل، لتجميع المعلومات معًا، إذ يساعدهم ذلك على تطوير مهارة التركيب.

علينا أن ندرك أنّ القوّة المحرّكة في سياق التعليم متعدّدة الأبعاد، فهي تتجاوز الأفراد الذين يسعون وراء اهتماماتهم، وتعمل على تعزيز سياقات التعلّم، "حيث تكون ثقافات الطلّاب ولغاتهم واهتماماتهم في المقدمّة، فيشترك الطلّاب والمعلّمون في إنشاء سياقات تعليميّة معًا" (Vaughn (2020. نشعر أحيانًا نحن، المعلّمين، بالرغبة بتزويد طلّابنا بكلّ المعلومات اللازمة، ولكنّ ذلك ليس ما يحتاجون إليه. دع سلوى تطرح الأسئلة التي تنشأ نشوءًا طبيعيًّا بدراستها المراجع التي وفّرتَها لها، وامنحها الحرّيّة في متابعة قضيّة تثير اهتمامها، وساعدها على صياغة سؤالها، ثمّ ادعمها في اختيار طريقة التفكير الأنسب للعثور على الإجابات. إذا كانت المادّة التي نتحدّث عنها العلوم الطبيعيّة، فإنّ طريقة التفكير الملائمة هي الطريقة العلميّة. أمّا في مادّة التاريخ مثلًا، فالتقييم النقديّ هو طريقة التفكير الملائمة، والتفكير التصميميّ هو الأنسب لمادّة التصميم... تكتسب سلوى في هذه الحالة القوّة المحرّكة من خلال العمل، بحيث تكتسب مجموعة واضحة من مهارات التفكير (العقل المنضبط)، وقدرة على تكوين الروابط بمفردها (العقل القادر على التركيب والتوليف)، لمساعدتها على تطوير وكالتها بطريقة أفضل.

 

تابع مع سلوى عمليّة التفكير التصميميّ الخاصّة بها، وعندما تواجه عقبات، تحدّث معها عن ضرورة المثابرة في إيجاد حلول للعقبات. اسألها "كيف يمكنك أن تتجاوزي العقبات؟ مَن الذي قد يساعدك؟" تركِّز القوّة المحرِّكة على قدرة الطلّاب على تنظيم أفعالهم وأفكارهم والتأمّل في مهاراتهم. بمجرّد أن تختبر سلوى تجربة محدَّدة ومنظَّمة للتعلّم الذي اختارته، وأسهمت في تصميمه، تصبح عاملًا نشطًا في تعلّمها. اسمح لها بأن تعرض أعمالها في المدرسة، وبأن تختار مكان وضعها وكيفيّة تقديمها. واسمح لها أيضًا باختيار جمهورها وكيفيّة إعلانها عن مشاريعها. امنح سلوى صوتًا في منشورات وسائل التواصل الاجتماعيّ، وطرق العرض الأخرى في المدرسة، وأمسيات البيت المفتوح، ولجنة الكتاب السنويّ، ومراجعة سياسات المدرسة، وغيرها من النشاطات الشبيهة.

 

كلّما أصبحت سلوى أكثر دراية بطرق التفكير الخاصّة بالمواد الدراسيّة المختلفة، وبتنفيذ المشاريع الصغيرة في كلّ منها، تصبح أكثر جاهزيّة لحلّ المشكلات التي قد تواجهها في حياتها. لنفترض الآن أنّ سلوى سمعت أو قرأت عن بعض القضايا العالميّة وبحثت عنها، ورغبت في أن تتعمّق في إحداها. في هذه الحال، علينا التأكّد من توفير منصّة يمكنها من خلالها التعبير عن اهتمامها بهذه القضيّة، وقد تكون المنصّة حصّة مربّي الصفّ أو إحدى الحصص الدراسيّة. أصبحت لدى سلوى مهمّة تقوم بها. اسمح لها بالعثور على نماذج يُحتذَى بها، وامنحها مساحة للتركيز على مهمّتها والطريقة التي تقدّمها فيها، وعلى مَن تسلّط الضوء. كلّما تعرّفت سلوى إلى عدد أكبر من القدوات، أصبحت أكثر استنارة وإلهامًا، وقادرةً على معرفة كيفيّة متابعة مهمّتها. هنا يأتي دورنا في دعم عمل عقلها الإبداعيّ، لضمان اكتسابها القوّة المحرّكة التي تؤثِّر في إنجازها العمل بطريقة متعمَّدة وهادفة لبلوغ هدف محدّد.

امنحها الأدوات والمساحة لتمكينها من كسر النمطيّة والتحليق خارج السرب، أو إنشاء طرق جديدة لإظهار استنتاجاتها ونتائجها. امنحها الفرص للاستماع إلى الخبراء في مختلف المجالات، وزيارة المتاحف وصالات العرض واستجواب القيّمين على المعارض والفنّانين، والإشادة بإخفاقاتها باعتبارها غزوات في مناطق جديدة؛ فالمعروف أنّه "لا تُطوَّر القوّة المحرِّكة من الفرد فقط، بل تُطوَّر تطويرًا مشترَكًا مع أفراد آخرين، مثل الأقران والمعلّمين، ضمن مجموعة متنوِّعة من السياقات والتفاعلات الاجتماعيّة" (2020) Vaughn. عندما تشعر سلوى بالقدرة على نشر كتاب إلكترونيّ، أو إنشاء موقع على شبكة الإنترنت، أو نشر مواد وتوزيعها، أو نشر ملصقات من تصميمها الخاصّ لدعم حملتها، أو نشر بودكاست، أو غير ذلك، لعرض قضيّتها ونتائجها، ستضطرّ إلى التأمّل في موقفها ودورها، وستصبح مفكِّرة أخلاقيّة، تمارس الوكالة في الواجب المدنيّ. تمتدّ وكالتها بعد ذلك إلى اتّخاذ الخيارات الأخلاقيّة والتعبير عن أخلاقيّاتها.

 

تعرف سلوى أيضًا عن مختلف القضايا التي اختارها الزملاء من خلال منتديات Ted-Ex المصغَّرة التي ينظّمونها، أو من خلال المناقشات التي أقيمت في جميع أنحاء المدرسة. عندما تستمع سلوى إلى الآراء المختلفة وتعيش تعقيدات القضايا، تصبح مفكِّرة منفتحة تحترم آراء غيرها. تستخدم سلوى هياكل التفاعل القائمة على القيم في المدرسة، للتفاعل مع أولئك الذين لديهم آراء مختلفة بعقل متفتّح. وتعتمد على ثقة تنبع من أساس متين لطرق التفكير، وخريطة طريق واضحة يمكنها اتّباعها لحلّ النزاعات باحترام، وللسعي إلى اكتساب معارف جديدة اكتسابًا أخلاقيًّا. المفكِّرون "المحترَمون" (قصد جاردنر بهذا التعبير التفكير الذي يحترم الآخر والأخلاقيّات والإنسان) هم وكلاء للتغيير الحقيقيّ، إذ يمارسون القوّة المحرِّكة من خلال المناصرة والعمل. 

أصبحت سلوى الآن مفكِّرة منضبطَة ومبدِعة ومحترمة وأخلاقيّة قادرة على تجميع المعلومات، وتستخدم قوّتها المحرِّكة للتأثير في التغيير وتشكيل العالم من حولها. نقفز في الزمن إلى الأمام، فنجدها قد أصبحت مؤسِّسَة تنفيذيّة ومديرة شركة ناشئة سريعة النموّ، ومن المتوقَّع أن تسهم في تغيير العالم. 

* * *

في النهاية، نسأل: هل نستطيع في مدارسنا دفع هذا التوجّه وتحويله من مشاريع منعزلة وتجارب فرديّة إلى رحلة تعلّم حرّة ومنظَّمة، بحيث تكون هذه الرحلة مفتوحة، ولكنّها مركَّزة، إذ يقودها الطالب ويشترك فيها المعلّم؟ كيف سيتماشى ذلك مع الأساليب التقليديّة التي ما زالت تتّبعها الكثير من الجامعات في برامجها، من قبول الطلبة إلى تخرّجهم؟ هل من الممكن أن نصل إلى اليوم الذي نرى فيه الطالب يتخرَّج من المدرسة عندما يقدّم مشروعًا يتناول فيه مشكلة عالميّة بدقّة علميّة، فيبيِّن فيه اتقانه طرق التفكير المكتسبة من التخصّصات الأكاديميّة المختلفة، ويصمِّم طريقة لمعالجة المشكلة، ويعرض وجهات نظره وما تعلّمه؟ أودّ فعلًا أن أرى ذلك في مدارسنا قريبًا. 

 

 

المراجع

- Bandura, A. (2006). Toward a Psychology of Human Agency. Perspectives on Psychological Scienc. 1(2). 164–180. https://doi.org/10.1111/j.1745-6916.2006.00011.x 

- Code, Jillianne. (2020). Agency for Learning: Intention, Motivation, Self-Efficacy and Self-Regulation. Frontiers. https://www.frontiersin.org/articles/10.3389/feduc.2020.00019/full 

 

- Ellerbeck, Stefan, et al. Fourth Industrial Revolution. World Economic Forum. https://www.weforum.org/focus/fourth-industrial-revolution.

 

- Gardner, Howard. (2008). Five Minds for the Future. Harvard Business Press. 

 
- Vaughn, Margaret. (2020). What is student agency and why is it needed now more than ever? Theory into Practice. 109-118.