لنطلق العنان لقدرات الطلبة
لنطلق العنان لقدرات الطلبة
علي أمين | معلم لغة عربية ومدير أكاديمية رحال لتعليم العربية عن بعد-اليمن/الصين

يحتاج جيل اليوم، في هذا العالم المنفتِح، إلى أن يكون وعيه بما يدور حوله عميقًا، ومهاراته في الحوار المنطقيّ والنقاش البنّاء قويّةً، وقدرته على التواصل مع محيطه والتأثير فيه راقيًا. وفي الوقت نفسه، قد يكون تخوّفنا من تفويض طلبتنا في إدارة تعلّمهم خارج الصفّ مبرّرًا، إذ يمكن أن يشوب تعلّمهم القصور. ولكن، كيف لنا أن نمارس التسقيل (دعم استقلاليّة الطلبة تدريجيًّا) من دون إتاحة المجال أمامهم لإدارة تعلّمهم؟  

ممّا لا شكّ فيه أنّ المعرفة وحدها لا تسهم في تكوين شخصيّة الطالب، من دون الممارسات الواقعيّة. ومن هنا، تظهر الحاجة إلى الاستماع لطلبتنا، والتماس اهتماماتهم، ومحاكاة واقعهم، وعيش تفاصيل حياتهم. وهو دور قد لا نستطيع الامتثال إليه، كوننا معلّمين، ولكن بإمكاننا أن نتيح لأقرانهم رسمه، حقيقةً ماثلةً أمامنا، ونحن في الظلّ نستمتع بما نشاهد من قدرات ومهارات تبهرنا، وتزيد شغفنا بمهنتنا التربويّة.

في هذا المقال، أنقل إليكم تجربتي التربويّة التي توضِّح ما قدّمتُ له، وذلك حين أُتيحت لي فرصة إدارة الأنشطة المدرسيّة اللاصفيّة في إحدى مدارس الجاليّات العربيّة في مدينة جوانزو في الصين.

 

أهمّيّة الأنشطة اللاصفّيّة

تكمن أهمّيّة الأنشطة اللاصفيّة في صقل مهارات الطلّاب وتكوين شخصيّتهم المتوازنة، وخلق دافعيّة التعلّم مدى الحياة. يؤكّد ذلك الباحثون الذين أشاروا إلى ما يحصّله الطلّاب فيها من فوائد تربويّة ونفسيّة وجسميّة، إذ تساعدهم في تنمية ميولهم ومواهبهم، كما تؤثِّر كثيرًا في تعلّمهم أكثر ممّا تؤثِّر حجرة الدراسة أحيانًا.

 

تشير الدراسات إلى وجود علاقة بين ممارسة الطلبة الأنشطة، وتفكيرهم الإبداعيّ، إذ تسهم في زيادة تفاعلهم مع تغيّرات البيئة وظواهرها، مستخدمين في ذلك خبرتهم ومهاراتهم، ومولّدين منها معرفة جديدة، تظهَر بأشكالٍ متنوّعة (جار الله، وعبدالقادر، 2014). كما يشير علماء التربية إلى أنّ تمكين الطلبة من قيادة تعلّمهم يثير فضولهم للتعلّم، ويصقل شخصيّتهم المستقبليّة، ويدعم تربيتهم الخُلقيّة والاجتماعيّة والعقليّة، فيعدّهم لمواقف الحياة المختلفة (بايلي، وروبرتس، 2020).

 

أنموذج تجربة شخصيّة

حين أوكلت إليَّ إدارة المدرسة مهمّة إدارة الأنشطة اللاصفيّة، أبدت لي استعدادها لرفدي بفريق مساعد من المعلّمين، لما تتطلّبه المهمّة من جهد كبير قد لا أطيقه بمفردي. لكنّي اقترحت إتاحة المجال لنا لتقديم تجربة جديدة يكون طلبتنا أبطالها، ونحقّق بها عدّة أهداف تربويّة. وكان لي ما طلبت، بعد أن وضعت خطّة كاملة بين أيديهم، وبدأنا معًا تنفيذ خطواتها. 

 

التخطيط للتجربة

بدأت التجربة بتكوين مجلس طلّابيّ انتخبه طلّاب صفوف المرحلة الثانويّة (11-6)، يمثّل فيه كلّ طالب أو طالبة الصفّ الذي يدرس فيه. ضمّ المجلس 12 طالبًا وطالبة بالمناصفة، وأوكلنا إليه مهمّة رئيسة تتمثّل بإدارة الأنشطة المدرسيّة اللاصفيّة. 

 

وضعنا لائحة منظَّمة لعمل المجلس ومهمّاته، وتوزيع المسؤوليّات على أعضاء الفريق المنتخَبين بالتشاور في ما بينهم، أو التصويت على بعض الأدوار التي حصل التنافس عليها. تشكّل المجلس من: 

  • -رئيس ونائب.  
  • -لجنة الأنشطة الثقافيّة والعلميّة.  
  • -لجنة التوعية الصحيّة والاجتماعيّة. 
  • -لجنة الأنشطة الرياضيّة والترفيهيّة.  
  • -منسّق المجلس (معلّم مُكلَّف من إدارة المدرسة). أدّيتُ هذه المهمّة وحرصت أن يكون لقب منسّق حاملًا دلالة ميسّر مهمّات المجلس، وحلقة وصل بين المجلس وإدارة المدرسة، ومنظّمًا الدورات التأهيليّة لهم في الإدارة والتخطيط. 

 

بدأ المجلس عمله بتنفيذ مهمّات بناء الأنشطة اللاصفيّة الأسبوعيّة والموسميّة على امتداد العام الدراسيّ، داخل المدرسة وخارجها. يقدّم الأعضاء أفكارهم للنقاش في أوقات اجتماعاتهم الأسبوعيّة المباشرة، والتي كانت تُعقَد في أوقات استراحاتهم، أو بالتواصل عن بعد خارج أوقات المدرسة، ثمّ يبلورونها إلى قرارات، وينفّذونها أنشطةً مع مساندة المعلّمين وتوجيههم في أيّ نشاط، والذين اقتصر دورهم في المساعدة على التنفيذ والإشراف العام والتحكيم أحيانًا، في الأنشطة والبرامج التنافسيّة. كما اقتصر دور إدارة المدرسة في إقرار تنفيذ الأنشطة وتمويلها، أو مناقشتها وإجراء بعض التعديلات عليها.

 

تنفيذ التجربة

نظّم المجلس الطلابيّ، خلال السنة الدراسيّة، 17 برنامجًا متنوّعًا في الجوانب العلميّة والثقافيّة والتوعويّة والرياضيّة والترفيهيّة، داخل المدرسة وخارجها. أقدِّم منها مثالين، يتمثّل الأوّل في تنظيم برنامج العروض العلميّة والثقافيّة الأسبوعيّة، والذي يهدف إلى إثارة التفكير وإعادة إنتاج المعرفة بقالب إبداعيّ، مع اكتشاف المهارات والقدرات، وتعزيز الثقة بالنفس. يقدِّم طلّاب أحد الصفوف، وفق هذا البرنامج، عرضًا كلّ خميس أمام جميع طلبة المدرسة ولجنة تقييم من المعلّمين، يعدّه الطلّاب بأفكارهم وينظّمونه بمشورة معلّميهم، ولا سيّما في ما يتعلّق بالجوانب العلميّة إذا طُلب إليهم ذلك. شارك في تقديم هذه العروض جميع طلبة المرحلة المستهدفة، وأظهروا عروضًا مثيرة للإعجاب ومفيدة وممتعة.

 

أمّا المثال الثاني فهو تنظيمهم نشاط اليوم الاقتصاديّ، والذي يهدف إلى تنمية مفاهيم التسويق والتجارة وبناء المشاريع التشاركيّة. تحقّق ذلك بتخصيص مساحة في قاعة المدرسة لكلّ صفّ من المرحلة المستهدفة، ليرتّب الطلّاب عرضهم التجاريّ من سلع وخدمات، حيث يبدعون في العرض والتسويق، حتّى وصل الأمر بفئة من الطلّاب إلى جمع حيواناتهم الأليفة في خيمة وبيع التذاكر لمن أراد الدخول للّعب معها لدقائق معدودة. تجلّت في هذا النشاط مهارة التعاون بالعمل بفاعليّة مع الآخرين، وكذلك إدارة المهمّات وتوزيع المسؤوليّات، أمّا مهارات التواصل فكانت بارزة بالإعلان والترويج وإظهار التعاطف. شارك في النشاط جميع أركان المجتمع المدرسيّ، إذ مثّل طلبة المرحلة المتوسّطة والثانويّة دور البائعين، وطلبة المرحلة الابتدائيّة والمعلّمون والزائرون من الأمّهات والآباء دور المشترين والمستفيدين، حيث اكتظّت القاعة بهم وكان حدثًا اقتصاديًا حقيقيًّا، ونشاطًا ممتعًا وأفكارًا مذهلة. علمًا بأنّ عائدات هذا النشاط خُصِّصت لتنظيم رحلات ترفيهيّة للطلبة بإدارتهم.   

 

نتائج التجربة وتحدّيّاتها

أدّى المجلس الطلابيّ في هذه الأنشطة دور المفكِّرين والمنظِّمين، واقتصر دور المعلّم منسِّقًا وميسِّرًا، بل مشاركًا. أظهر طلبة المجلس قدرات أعلى من المتوقّع في إدارة زملائهم، وإثارة اهتمامهم، وتحفيز دافعيّتهم إلى المشاركة في مثل هذه الأحداث وغيرها. كما مارس، في هذه التجربة، أعضاء المجلس الطلابيّ وطلبة المرحلة المستهدَفة كلّهم، مختلف مهارات التعلّم (التفكيريّة والتواصليّة والاجتماعيّة والبحثيّة والإدارة الذاتيّة)، حيث استطاعوا دمج جميع أركان المجتمع المدرسيّ في أنشطتهم وفعّاليّاتهم. انعكس أثر التجربة على الجميع، ولا سيّما أفراد المجلس الطلابيّ الذين أدّوا دورهم بنجاح في التخطيط والتنفيذ والتأمّل. أبدى كذلك بعض الطلبة والمعلّمين وأولياء الأمور رضاهم عن النشاط، وشجّعوا على تكراره، لما لمسوه من أثر في واقعهم. وبالفعل، لم تنتهِ هذه التجربة في ما انعقد في المدرسة من نشاط.

 

وعليه، أسهمت هذه التجربة في تعديل قناعات المجتمع المدرسيّ بقدرات الطلبة، حيث شكّل ضعف المناهج التعليميّة والممارسات التربويّة تحدّيًا أمام تعزيز الإدارة الذاتيّة والتأهيل القياديّ إلى طلبتنا. فواجه الطلبة صعوبة، في البداية، في التفويض وتقاسم المسؤوليّات، ولا سيّما في إدارة أعمال المجلس الطلابيّ، وبناء روح الانسجام والتوافق، واتّخاذ القرارات الملائمة. كما شكّل شعور طلبة المجلس بالخوف من الفشل، وبتحمّلهم المسؤوليّة، مصدر قلق وتوتّر، إذ كانت تجربتهم الأولى. لكنّ ممارسات الإنجازات المتوالية وورش العمل التدريبيّة، ساعدت في تجاوز هذه العقبات. 

 

وعلى المستوى الشخصيّ، عمّقت هذه التجربة بكلّ تفاصيلها إيماني بقدرات الطلبة في قيادة تعلّمهم، وتقديم أفكار لأنشطة لا صفيّة فائقة الإبداع، تلبّي تطلّعات الطلبة، نظرًا إلى اندماجهم مع زملائهم وتشاركهم في الميول والحاجات والرغبات. كما أفدتُ من التجربة مهنيًّا، وأشعرتني بالسعادة، رغم أنّها أجهدتني كثيرًا، وذلك حين كنت أتأمّل فيّ كلّ نشاط حماس طلبتي ومهاراتهم، وهم يقدّمون أفكارهم، ويظهرون قدراتهم الإداريّة والروح التعاونيّة.

 

* * *

في النهاية، يجدر بمجتمع المعلّمين والممارسين التربويّين الوثوق بشخصيّة الطلبة، حيث تظهِر شخصيّتهم، في مثل هذه الممارسات، سلوكيّات قابلة للتعديل والتوجيه والنمذجة. يتطلّب ذلك أن ننوِّع ممارساتنا التربويّة التي تنمِّي مهارات طلّابنا، وتمنحهم فرصًا تتناسب مع البيئة المدرسيّة المتاحة؛ لإظهار ذواتهم وربطهم بالواقع، وتعزيز مشاركتهم المجتمعيّة، حتّى نحفِّز دافعيّتهم إلى التعلّم مدى الحياة.

 

المراجع

- بايلي، كريستا، وروبرتس داربي. (2020). تقييم القيادة الطلّابيّة. المجموعة العربيّة للتدريب.

- جار الله، نوف، وعبدالقادر عرين. (2014). دور الأنشطة اللاصفيّة في تنمية مهارات التفكير الإبداعيّ. مجلّة البحث العمليّ في التربية. العدد 15.