لبنان الأزمة... أيّ دور للقيادة التعليميّة؟
لبنان الأزمة... أيّ دور للقيادة التعليميّة؟
عمر القيسيّ | باحث وزميل تدريس لبنان/المملكة المتّحدة
إيمان القيسيّ | طالبة دكتوراه في الأدب المقارن ودراسات الشرق الأوسط- لبنان/كندا

"فقط الأزمة، الفعليّة أو المتصوّرة، تنتج تغييرًا حقيقيًّا. عندما تحدث هذه الأزمة، فإنّ الإجراءات أو الأفعال أو القرارات التي يمكن اتخاذها تعتمد على الأفكار الموجودة حولنا. هذه، في اعتقادي، هي وظيفتنا الأساسيّة: تطوير بدائل للسياسات الحاليّة، لإبقائها حيّة ومتاحة حتى يصبح المستحيل سياسيًّا أمرًا لا مفرّ منه سياسيًّا".

 

في هذه المقالة النظريّة نحاول الإجابة عن السؤال الآتي: ما هو الدور الذي يمكن أن يضطلع به التعليم والقيادة التعليميّة في لبنان، في ظلّ التفاقم الحادّ للأزمة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي اندلعت أواخر عام 2019؟ المقالة مقسّمة إلى قسمين: يستعرض الأوّل الأزمة الراهنة ويناقش تبعاتها على التعليم؛ أمّا الثاني فيسعى لتقديم إسهام نظريّ جديد، يتمثّل في مفهوم "القيادة المقاوماتيّة-التغييريّة" التي ينبغي، كما سنحاجج، أن يضطلع بها التعليم في لبنان في سياق ظرف كارثيّ غير مسبوق.

 

الأزمة.. الانتقال المدنيّ ومدنيّة التعليم

بحسب Biesta (2009) يمكن تحديد ثلاثة أدوار أساسيّة يضطلع بها التعليم: التأهيل (أو منح الشهادات العلميّة)، والتنشئة الاجتماعيّة، والتنشئة الذاتيّة. لا جدال في صوابيّة هذه الأدوار، ولكن هل من أدوار سياسيّة أخرى للتعليم، وتاليًا القيادة التعليميّة، خاصّةً إذا ما أخذنا في الحسبان العلاقة الجدليّة بين السياسيّ والتعليميّ Gunter) 2018,).

 

قبل الحديث، عن القيادة التعليميّة، نرى أنّه من الضروريّ أن نتعرَّض، ولو بشكل خاطف، لطبيعة التحوُّلات السياسيّة الهائلة التي طرأت على لبنان في السنتين الأخيرتين، أي في أعقاب انتفاضة السابع عشر من تشرين الأوّل عام 2019، ونتعرّض أيضًا إلى معاني تلك التحوُّلات على التعليم وتبعاتها.     

 

يُحيل الواقع اللبنانيّ اليوم إلى تطَوُّرَين متداخِلَين وخطيرَين، سيكون لهما أثرٌ كبير في رسم معالم التحوّل المرتقب في مستقبل هذا البلد العربيّ الصغير. الأول هو استيلاد مساحات صوتيّة (voice landscapes) فعليّة ورقميّة حرَّكت المجتمع وجعلت من الممكن الحَبك السرديّ للنقد/الرفض/المقاومة، أو بالحدّ الأدنى النفور الصارخ من الوضع القائم (Couldry, 2010)؛ الثاني هو بداية تَشَكُّل مساحات عمل مشترك (action landscapes) تستهدف جذب طاقات أكبر عدد ممكن من القوى والخلايا النشاطيّة المدنيّة وتوظيفها، في إطار السعي إلى الانتقال التدريجيّ والتراكميّ من عقد اجتماعيّ توافقيّ-تحاصصيّ، يَعدِلُ، أو يحاول العدل، بين الناس بوصفهم مكوّنات طائفيّة ومذهبيّة (حالة "العيش المشترك")، إلى عقد اجتماعيّ توافقيّ-مدنيّ يُعيدُ تعريف الصالح العامّ بناء على مفاهيم العدالة الاجتماعيّة وقيمها، ويعمل على تحقيق العدل بين الناس بوصفهم منقسمين هويّاتيًّا، ولكنهم متّحدون في المواطنة (حالة "الاشتراك في العيش").

 

هنا تكمن أهمّيّة التعليم: فعلاوة على كونه مساحة صوتيّة-عمليّة مشتركة، هو الركيزة الأساس في أيِّ عمليّة إصلاحيّة و/أو تغييريّة. شكلًا، يمكن القول إنّ التعليم لا يقتصر فقط على المؤسّسات، بل يشمل أيضًا أهالي الطلبة وكافّة القوى الأهليّة والمدنيّة التي تعتبر نفسَها معنيّة بالعمليّة التعليميّة و/أو منخرطة فيها بطريقة ما.

 

أمّا مضمونًا، فإنّنا نعتقد، مُستلهِمِين من Friedman (1982) المفكّر الاقتصاديّ الأميركيّ، فكرتَه عن وجوب الاستث مار في الأزمات الكبرى، فالأزمة الراهنة تستلزم من القطاعات والقوى التعليميّة اللبنانيّة كافّة، إعادةَ النظر في ماهيّة التعليم نفسه، معانيه ومقاصده وأدواره.

 

باختصار، المطلوبُ في نظرنا أن يتحوَّل التعليم إلى مشروع مقاومة سياسيّة-مدنيّة شاملة، وذلك على مستويين: الأوّل تثقيفيّ، ويكمن في سعي القطاعات والقوى التعليميّة إلى إثراء وعيها بالمدركات والمعارف الحديثة المتعلّقة بالتمايز المدنيّ-السلطويّ (Jessop, 2016)، وموقع التعليم على وجه التحديد وأهمّيّته بوصفه عنصرًا مدنيًّا (لا سلطويًّا) في بناء أو إعادة بناء المجتمع. الثاني تطبيقيّ، ويكمن في إيجاد الرؤى والمنهجيّات والمناهج الكفيلة بترجمة المدركات والمعارف إلى تطبيقات مدنيّة تستهدف تحريرَ الأطفال والناشئة من أَسْر السرديّات السلطويّة (Giroux, 2000)، وتسليحهم بالأفكار والقدرات والمهارات اللّازمة للتأثير في المجتمع، والإسهام الفعليّ في الانتقال بالمجتمع من عقد اجتماعيّ توافقيّ-تحاصصيّ إلى عقد توافقيّ-مدنيّ.

 

لا نعقد الفكرَ والوقتَ والآمالَ على التعليم سُدًى، إذ إنّ عودةً سريعةً إلى دفاتر التاريخ التعليميّ اللبنانيّ الحديث، تحديدًا إنجازات النقابات الطالبيّة في خمسينيّات القرن المنصرم وستينيّاته، تُثبت بما لا يرقى إليه شكّ أنّ السياسة والتعليم بمفهومهما الواسع لا ينفصل أحدهما عن الآخر. وقتذاك، كان التعليم بحقّ مساحةَ صوتٍ وعمل ونضال مشترك. كانت مدنِيَّة التعليم أمرًا لا يختلف عليه اثنان. هناك، إذًا، موروث مدنيّ عريق يمكن الاستعانة به والبناء عليه قدمًا.

 

القيادة المقاوماتيّة-التغييريّة للتعليم  

بعد أن وضّحنا المقصود من مدنِيَّة التعليم والدور المطلوب منه في الأزمة الراهنة، ينبغي الآن الالتفات إلى القيادة التعليميّة. في هذا الصدد، تحاجج Gunter et al.  (2013)بأنّ الأدبيّات البحثيّة المعاصرة حول القيادة التعليميّة تشتمل على ثلاث مقاربات فكريّة أساسيّة، هي:

  1. مقاربات أداتيّة (Functional Approaches): تنظر إلى القيادة التعليميّة بوصفها قيادة إجرائيّة. هي مجرّد أداة أو وسيلة لتحقيق رؤى وأهداف مُعَدَّة سلفًا. من توصيفات القيادة الإجرائيّة أنّها معنيّة بتسيير عجلة الإدارة ومراقبة الانتظام العامّ للعمليّة التعليميّة، وتقويم الأداء والعمل على تحسينه باستمرار.
  1. مقاربات نقديّة (Critical Approaches): تنظر إلى القيادة التعليميّة بوصفها قيادة تحويليّة وديمقراطيّة، وإن كانت وسائلها براغماتيّة لا تصادميّة. هي ليست مجرّد أداة لتسيير العمل، بل أيضًا مرجعيّة مُفكِّرة ومُتدبِّرة تستهدف الرضا الوظيفيّ، وتمارس العديد من المهامّ والمسؤوليّات المتعلّقة بتنظيم علاقات العمل والعلاقات الشخصيّة بين الأفراد، بما يخدم مصالحهم وتطلّعاتهم وحاجاتهم الماديّة والمعنويّة.  
  1. مقاربات نقديّة-اجتماعيّة (Socially Critical Approaches): تنظر إلى القيادة التعليميّة بوصفها قيادة مقاوماتيّة وتغييريّة. فإن صحَّ القول بأنّ المقاربات الأداتيّة تختزل القيادة في أبعادها الإجرائيّة، والمقاربات النقديّة تختزلها في أبعادها التواصليّة الواقعيّة، إذ يتأمّن انضباط النقد "ضمن قوانين اللعبة"، فإنّ هدف هذا النوع الثالث من المقاربات، النقديّ-الاجتماعيّ، يصبح محاولةَ "قلب الطاولة على رؤوس الجميع"، من خلال ملاحظة عدم إمكان الفصل بين مستويات التحليل النظريّ. بمعنى آخر، لا يمكن الفصل بين ما هو تعليميّ وما هو سياسيّ أو اقتصاديّ أو مجتمعيّ أو ثقافيّ. على التحليل أن يكون كلّيّانيًّا، تحديدًا بما يتعلّق بأسئلة البنية والذات، والهويّة والهويّاتيّة، والإنتاج وأنماط الإنتاجيّة والتقسيمات والصراعات الطبقيّة، لا سيّما ما يتعلّق بأسئلة المساواة والعدالة الاجتماعيّة. من توصيفات القيادة المقاوماتيّة-التغييريّة أنّها حُرّة ومُستقِلَّة، مُقاوِمَة للسائد، مُتربّصة بالسلطة نقدًا ومعارضة، مُتمرّدة على الرقابة المُفرطة وآليّات المحاسبة التي تتدخَّل في كلّ كبيرة وصغيرة، وقبل هذا وذاك مُنشغلة بالصالح العام.

 

يهمُّنا أن نشير هنا إلى أنّ مرادنا من هذا المسح النظريّ السريع ليس الزعم بأنّ ما انتهت إليه الأكاديميا الغربيّة في موضوع القيادة التعليميّة يصلح للتبنّي والإسقاط التقنيّ على الحالة اللبنانيّة، إنما المراد هو تقديم وعاء نظريّ (Repertoire) يمكن الاستناد إليه. فإذا ما أخذنا في الاعتبار ما سبق توضيحه بالنسبة إلى الأزمة التي يمرّ بها المجتمع اللبنانيّ، وموقع التعليم وأهمّيّته في التصدّي لهذه الأزمة، فإنّه سيتبيّن أنّ القيادة المقاوماتيّة-التغييريّة، بالنظر إلى تشبيكِهَا المُعقَّد بين التعليميّ والسياسيّ والمجتمعيّ، هي الأنسَب لترسيخ مدنِيَّة التعليم وتحويله إلى مشروع مقاومة سياسيّة-مدنيّة شامل. ولكن يبقى السؤال: من هي تلك القوى التعليميّة المُقاوِمة، وكيف لها أن تُقاوِم؟ يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من القوى:  

  1. القوى المقرِّرَة: المشرِّعون والسياسيون والوزراء والمستشارون ورؤساء الهيئات واللجان والأجهزة ومراكز البحوث والمؤسّسات الأخرى، وغيرهم ممّن يتولّون وضع السياسات التعليميّة العامّة. على هذه القوى، لا سيّما تلك المتحرِّرَة من ذهنيّة التبعيّة الطائفيّة، والمذهبيّة، والحزبيّة و/أو المناطقيّة الضيّقة، توحيد جهودها وممارسة دور مقاوماتيّ-تغييريّ من خلال تحديد ماهيّة الصالح العامّ التعليميّ، وتأمين مظلَّة من التوجيهات والسياسات ومنهجيّات العمل الكفيلة بإرساء تطبيقات (رؤى واستراتيجيّات وآليّات تشغيل وتعديلات منهاجيّة) مدنيّة في التعليم.  

 

  1.  القوى العاملة: رؤساء ومديرو الجامعات والمدارس والمعاهد المهنيّة والتقنيّة والمؤسسات التربويّة كلّها، علاوة على مديري المناطق التربويّة والمعلّمين والإداريّين والمشرفين التربويّين، وغيرهم من القوى التي تضطلع بمسؤوليّة مباشرة عن سير العمليّة التعليميّة. على هذه القوى أن تدرك أنّ لقيادتها المقاوماتيّة-التغييريّة للتعليم خصوصيّة تنبع من محدِّدات ثلاث أساسيّة، هي: المستوى المحلّيّ للقيادة (فهي على اتصال يوميّ بالأطفال والناشئة والشباب)، والديناميّة والحاجة المستمرّة إلى الإبداع والتفكير الانعكاسيّ (كي لا تستحيل القيادة إلى انشغال إجرائيّ محض)، والمسؤوليّة المعنويّة الكبيرة المُتَرتِّبة على تصدُّر "الواجهة الأماميّة" للتربية والتعليم في البلاد (ذلك أنّ أخبار العاملين والعاملات في المؤسّسات التعليميّة تؤثّر في الرأي العامّ، محليًّا وعالميًّا).

 

  1. القوى الوسيطيّة: تكتسب هذه القوى صفتها الوسيطيّة (Intermediary) من طبيعة علاقتها غير المباشرة بالعمليّة التعليميّة (بعكس القوى المقرِّرَة والعاملة)، ومن كون المهامّ والمسؤوليّات التي تضطلع بها نابعة من مبادرات خاصّة. تضمّ هذه القوى، على سبيل المثال لا الحصر، المنظّمات غير الحكوميّة، المؤسّسات والصناديق الاستثماريّة التابعة لمنظّمة الأمم المتّحدة، المراصد ومراكز البحث العلميّ، الجمعيّات الأهليّة والمدنيّة، المنصّات الإعلاميّة (بخاصّة الإعلام الرقميّ) وبرامج المنح الدراسيّة ومشاريع الدعم والتأهيل والتثقيف (شريطة التنبّه إلى الأهداف والمصالح المعلنة وغير المعلنة للجهات المانحة). أمّا بالنسبة إلى القيادة المقاوماتيّة-التغييريّة المأمولة من هذه القوى، فيجب أن تتركَّز في ممارسة دور "مدّ الجسور" على ثلاثة مستويات متداخلة: أوّلًا، مدّ جسور الاستمراريّة والبقاء (ويشمل هذا المستوى البقاء الجسديّ، أي الحماية من الفقر والعوز)؛ ثانيًا، مدّ جسور الثقافة والنهوض (ويشمل هذا المستوى العمل على إطلاق حوارات وورش تُعنى بالقضايا الوطنيّة الكبرى)؛ وأخيرًا، مدّ جسور الإبلاغ والتحذير (والمقصود بهذا المستوى تسخير كلّ الجهود والموارد المتوافرة لوضع أزمة التعليم في لبنان على خريطة اهتمامات الخارج، عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا). علاوة على كلّ ذلك، من الضروريّ أن يتكامل "مدّ الجسور" مع جهد توثيقيّ منتظم، يمكن التعويل عليه لاستحداث قاعدة بيانات موحَّدة تصلح للاستعمال المرجعيّ مُتَعدِّد الأغراض.

 

خاتمة

لا تحتمل الأزمة الراهنة في لبنان تَرَفَ المُفاضلة بين مواقع هذه القوى القياديّة وأدوارها. إنّ التوافقيّة-التحاصصيّة التي تأسّست على مبادئها فكرة الكيان اللبنانيّ، وضَرَبت جذورُها باكرًا جدًّا في المجتمع، أصابت المقيمين، كلّ المقيمين من لبنانيّين وغير لبنانيّين، في مَقتَلَة مُتَعَمَّدة، فصَّلها البنك الدوليّ (2020)أخيرًا في تقرير نُشِر بعنوان "الكساد المتعمّد". ولكنّ أوان التغيير لم يفت.

على القوى التعليميّة أن تكون قيادات بديلة، قيادات مقاوماتيّة-تغييريّة. عليها القيام بكلّ ما يلزم لتحصين الأطفال والناشئة والشباب من تداعيات الانهيار الحاصل والعمل معهم، كشركاء فعليّين وليس فئات مستضعفة أو أصحاب مصالح وحقوق فقط، على بلورة فكرٍ جديد، توافقيّ-مدنيّ، حَرَكيّ، تحرُّريّ، ديمقراطيّ ومنشغل بأحوال المجتمع وقضايا العدالة الاجتماعيّة أولًّا. هذه المسؤوليّة تاريخيّة وأخلاقيّة. التصدّي لها لن يكون فقط إنجازًا نوعيًّا يُسهم في تأسيس المواطنيّة اللبنانيّة، وتكوين وعي المواطِنَة والمواطِن اللبنانيّ المستقبليّ وشخصيّته، بل إنّ من شأنه أن يجعل من التعليم والقيادة التعليميّة في لبنان مثالًا حيًّا ونموذجًا يُحتذى به في العالم العربيّ والعالم أجمع.

 

المراجع

Biesta, G. (2009). Good education in an age of measurement: On the need to reconnect with the question of purpose in education. Educational Assessment, Evaluation and Accountability, 21(33), 33–46.

Couldry, N. (2010). Why voice matters: Culture and politics after neoliberalism. Sage Publications.

Friedman, M. (1982). Capitalism and freedom. Chicago University Press.

Giroux, H. (2000). Stealing innocence. St. Martin’s Press.

Gunter, H., Hall, D., & Bragg, J. (2013). Distributed leadership: A study in knowledge production. Educational Management Administration & Leadership, 41(5), 555-580.

Gunter, H. (2018). The politics of public education. Policy Press.

Jessop, B. (2016). The state: Past, present, future. Policy Press.

World Bank. (2020). Lebanon Economic Monitor, Fall 2020: The deliberate depression. https://www.worldbank.org/en/country/lebanon/publication/lebanon-economic-monitor-fall-2020