لا تلقين مع كورونا...تدريس العلوم بطريقة الإشكاليّات
لا تلقين مع كورونا...تدريس العلوم بطريقة الإشكاليّات
عديّ علي أحمد | أستاذ تعليم ثانويّ – لبنان

كيف أشرح عن بعدٍ مفهومًا علميًّا دون أن أقع في فخّ التلقين مع الإبقاء على مركزيّة المتعلّم في العمليّة التعلّميّة، وعلى طرائق التعليم النشط؟ يهدف هذا المقال إلى عرض تجربة تعليميّة في مادّة العلوم مع طلّاب الصفّ الحادي عشر تمكّن المعلّمين باختلاف تخصّصاتهم من الحصول على إجابات عمليّة لهذا السؤال.

 

عرض الإشكاليّة كركيزة لتعليم نشط

لقد اعتدت في التعليم الحضوريّ في الصفوف النظريّة أو العمليّة في المختبر أن أستثمر جزءًا من وقت الحصّة في صياغة وضعيّة باعثة لتساؤلات المتعلّمين، بصورة تسهم في خلق إشكاليّة واضحة لهم، فيقومون باقتراح فرضيّات لمناقشة الإشكاليّة المطروحة وحلّها، ولم أجد صعوبةً في أن أقوم بذلك عن بعد في التعليم التزامنيّ. كما أنّ خاصيّة التسجيل في تطبيق "زوم" ساعدتني لأتمكّن من إيصال هذه الإشكاليّة لاحقًا إلى المتعلّمين المتغيّبين عن الحصّة. هذه الاستراتيجيّة القائمة على عرض الإشكاليّة، وصياغة الطلّاب لفرضيّات حلّها يُمكن الارتكاز عليها في تعليم كلّ الموادّ. وهي تكون أكثر فاعليّةً كلّما ارتبطت بحياة المتعلّمين اليوميّة وبالمسائل التي تثير اهتمامهم.

الاستراتيجيّة التي استخدمتها كانت لدرس الانقسام الخلويّ للصّفّ الحادي عشر. وكانت الإشكاليّة حول الآليّة المعتمدة في الانقسام الخلويّ من أجل المحافظة على عدد الكروموسومات في الخلايا الناتجة عن الانقسام.

طلبت من المتعلّمين إرسال الحلول المقترحة للإشكاليّة (الفرضيّات) عبر أيّ وسيلة تواصل متاحة مثل "واتس آب"، لأنّ مشاركة المتعلّمين في اقتراح الحلول تجعلهم، بعد نجاحهم في صياغة الإشكاليّة، مركزًا لعمليّة تعلّم نشط فعّال طبقًا لخبرتي.

أرسل المتعلّمون الفرضيّات فرديًّا في بعض الحالات، وبعد عمل جماعيّ في غرف المجموعات على برنامج "زوم" في حالات أخرى، دون أن يقوموا بعرضها أمام رفاقهم. ناقشت هذه الاقتراحات مع الأفراد أو المجموعات، لا لإعطائهم الحلّ الصحيح، لكن ليحاولوا إقناعي بصوابيّة فرضيّاتهم. يكون المتعلّمون عادةً عاجزين عن إقناعي بفرضيّاتهم حين تكون محتويّة على أخطاء أو مبادئ غير مناسبة، وينتبهون غالبًا إلى هذه الأخطاء أثناء النقاش.

 

إتاحة الفرصة للجميع

ارتبكت قليلًا حيال فكرة الانتهاء من معالجة الإشكاليّة في الحصّة نفسها؛ لأنّ ذلك يعني أنّ المتعلّم الذي لم يتمكّن من الالتحاق بالحصّة سيكون محرومًا من إمكانيّة المشاركة كرفاقه، ومن الإدلاء بآرائه وفرضيّاته حيال الإشكاليّة موضوع الحصّة، والنتيجة هي العودة إلى التلقين الذي أحاول الابتعاد عنه منذ بدأت التعليم. ولو قلنا أنّ ذلك محض اضطرار أو حالة استثنائيّة ضمن الصفّ، فماذا لو كان نصف الصفّ غير قادر على الالتحاق؟ وماذا عن إصرارنا النابع من كياننا التربويّ لتوفير التعليم العادل، وألّا نكون سببًا في تمييز في التعليم كان له الكثير من الضحايا؟

الحلّ كان بسيطًا: أقوم بتأجيل حلّ الإشكاليّة، وأطلب من المتعلّمين الذين لم يتسنّ لهم متابعتي تزامنيًّا أن يقوموا بإرسال الفرضيّات التي يرغبون بإرسالها حينما ينتهون من حضور تسجيل الحصّة.

 

أهمّيّة النقاش حول الفرضيّات

ماذا عن مشاركة المتعلّمين أفكارهم من حلول واقتراحات بينهم؟

في الحصّة التالية استخدمت منصّة إلكترونيّة تسمح لي بالكتابة، ومشاركة الصور والمستندات، وتمكّن المتعلّمين من وضع الملاحظات والتعليقات بصورة تزامنيّة (SketchTogether, Jamboard). عرضتُ الفرضيّات التي سبق للمتعلّمين اقتراحها، وطلبت إلى كلّ منهم أن يضع إشارةً أو أن يكتب اسمه تحت فرضيّته. ثمّ بدأت بنقاش الفرضيّات مع المتعلّمين على الهواء وأظهر النقاش معهم الثغرات التي تعاني منها بعض الفرضيّات، وكذلك صحّة الفرضيّة التي تناسب الإشكاليّة موضوع البحث.

بعد انتهاء النقاش صار حلّ الإشكاليّة واضحًا، وكان من الضّروري تسجيل بعض الملاحظات على دفاتر المتعلّمين، وهو ما أعدّه جزءًا من الحصّة؛ فلم أرسل لهم الرسومات التوضيحيّة أو النصّ الذي أعتمده بوصفه حلًّا لهذه الإشكاليّة، بل طلبت منهم أن يقوموا بكتابته مباشرةً خلال الحصّة.

 

التقويم التكوينيّ عن بعد

بقي لنا خطوة، هي تقويم ما قمنا به، لنكون على علم بالمستوى الذي بلغناه من هدفنا، وكانت الخطوة على مرحلتين:

المرحلة الأولى هي الطلب إلى المتعلّمين تكرار حلّ الإشكاليّة في وضعيّة جديدة، كتغيير عدد الكروموسومات، أو استبدال خليّة الأنثى مكان خليّة الذكر، وإرسال الحلول خارج وقت الحصّة بوصفه تدريبًا منزليًّا، وقد كانت النتيجة مرضية.

المرحلة الثانية كانت خلال الحصّة التالية بالطلب إلى المتعلّمين تنفيذ تطبيقات جديدة مرتكزة على الحلول التي توصّلنا إليها في الحصّة السابقة، مثل تنفيذ رسومات لمراحل عمليّة الانقسام الخلويّ بعد عرض صور حقيقيّة تظهر ما يحدث في الخليّة بصورة عامّة دون تفاصيل، كما هي حالة الصور المجهريّة التي لا تكون واضحةً تمامًا. قام المتعلّمون بتنفيذ الرسومات الجديدة ونجحوا في استخدام المكتسبات التي حصلوا عليها خلال الحصّة الماضية، كما اكتسبوا معلومات جديدةً حول مراحل الانقسام الخلويّ، وهو ما كان مطلوبًا تحصيله في الموضوع نفسه. سجّلت الحصّة مجدّدًا، وأرسل المتعلّمون فيها الرسومات إليّ مباشرةً، ولم أقم بعرضها أمامهم لكي أسمح للمتعلّمين الذين لم يستطيعوا متابعة الحصّة بإرسال رسوماتهم إليّ، وفهم أخطائهم إن وُجدت. بعد ذلك، شاركتهم رسومًا صحيحةً لمراحل الانقسام الخلويّ، لينقلوها إلى دفاترهم. وصار بالإمكان الانتقال إلى بعض التدريبات والتطبيقات.

 

الأطر النظريّة لطريقتي في التعليم النشط حضوريًّا وعن بعد

يعاني التعليم من مجموعة من المشكلات منها ما هو بنيوي يتعلّق بالأسس النظريّة التي ترتكز عليها عمليّة التعليم، ومنها ما هو إجرائيّ يتعلّق بالموارد المتوفّرة، سواءً كانت مادّيّةً أو معرفيّةً أو مستقاةً من الخبرة. هذه المشكلات تفاقمت بسبب قرار التعليم عن بعد في ظل جائحة كورونا الكاشفة.

من المشكلات العميقة التي أصابت عمليّة التعليم أنّ المحاولات الرصينة للتحوّل نحو التعليم النشط تلقّت ضربةً قويّةً، فوجد المعلّم نفسه أمام تحدٍّ غير مسبوق بسبب الانقطاع المكانيّ والزمانيّ عن تلاميذه، إذ خرج التلميذ من مركز العمليّة التعليميّة، ليعود المعلّم إليه محتلًّا عن غير سابق تصميم.

أمام هذا الواقع الصعب غير المسبوق نفّذتُ تجارب عديدةً لمحاولة إعادة العمليّة التعليميّة إلى فاعليّتها بإعادة التلميذ إلى مركزها. وقد طوّرت بصعوبة مجموعةً من الاستراتيجيّات التي بدأت بصورة عفويّة بالنقاش والحوار المتزامن، وبعض الحوارات الجانبيّة غير المتزامنة التي كنت أضطرّ لها بسبب المعوّقات الكثيرة.

 

الطريقة التي أعتمدها هي في الأصل طريقة هجينة تجمع بين مكوّنات عديدة، أبرزها:

  • حلّ الإشكاليّات المرتبطة بالحياة اليوميّة، مثل إشكاليّة تأثير المشروبات على عمليّة الهضم، أو إشكاليّة الحميات الغذائيّة، أو إشكاليّات علميّة أخرى تملك القدر الكافي من الوضوح والقدرة على خلق الدافعيّة، مثل عدم كفاية الوقت الذي نأخذه في مضغ الطعام لهضم النشويّات في الفم.
  • البنائيّة التي تكون في حالتي هذه وظيفيّة تعتمد المتعلّم مركزًا لنشاط فرديّ أو جماعيّ يسهم من خلال خطوات معيّنة لحلّ المشكلة في بناء مجموعة من المفاهيم أو الكفايات لدى المتعلّم. هذه الخطوات تكون تارةً من وظيفة المتعلّمين منفردين، وتارةً تحت إرشاد المعلّم.
  • استراتيجيّة التجربة والخطأ التي تسمح للمتعلّم بتلقّي التقويم من المعلّم بصورة مستمرّة لتأكيد الخطوات الصحيحة، أو نقدها وإظهار العيوب فيها، وهو ما يسمح للمتعلّم بإعادة صياغة خطوات جديدة أقرب إلى الحلول الصحيحة للإشكاليّة.
  • التعلّم من الخطأ، وهو مسألة أساسيّة في هذه الاستراتيجيّة السابقة، وقد يفتقرها التعليم عن بعد بصورة كبيرة، إذ يرسل المعلّمون المادّة التعليميّة التي توضّح المفاهيم الصحيحة فقط. لقد أصبحت على وعيٍ تامّ بأنّ المتعلّم بحاجة ماسّة للاطّلاع على الحلول الخاطئة أوّلًا، أو صياغتها بنفسه لكي يفهم من خلالها العيوب التي تتضمّنها طريقته في التفكير، ومصدر أخطائه الذي يمكن أن يكون في مكتسبات قبليّة خاطئة. هذا الاطّلاع من شأنه أت يمكّن المتعلّم أكثر من تخطّي المفاهيم المغلوطة التي سيكتشف عدم صلاحيّتها بنفسه، وإلّا فسوف تبقى عميقًا في فكره لتظهر مجدّدًا خلال الاختبارات والتقويمات والسلوكيّات.
  • خلال حلّ المشكلة يترك المعلّم للتلامذة حرّيّة اختيار الطريقة التي يرغبون باستخدامها، فيسمح لهم باستخدام قدراتهم وتوظيف ذكاءاتهم، ويمكّن نفسه من اكتشاف الفوارق الفرديّة بينهم.
  • بعد اقتراح الحلول ومناقشتها فرديًّا، تسمح المناقشة الجماعيّة للمتعلّمين باكتساب مهارات الحوار والنقاش، والتفاعل الاجتماعيّ فيما بينهم، حتّى لو كان ذلك عن بعد.
  • عمليّة التقويم التي أعتمدها تتمّ أوّلًا بصورة مباشرة، تسمح بتكرار سياق مشابه يكشف مكامن الفهم غير المكتمل، وثانيًا بصورة غير مباشرة تسمح بتقويم إمكانيّة توظيف المكتسبات في سياقات أخرى، أي أنّه يعطي للمكتسبات صفة وظيفيّة لا يتفحّصها الطالب من خلال عمليّة استرجاع فقط.

 

خلاصة

فرضت جائحة كورونا على التعليم واقعًا جديدًا أظهر مكامن الضعف في المناهج، وآليّات التعليم، وأعاد عمليّة التعليم إلى مربّع التلقين، لكن يمكن للمعلّم توظيف خبرته في التعليم أوّلًا، والأدوات التي توفّرها البرمجيّات والمواقع المختلفة ثانيًا، ليستخدم استراتيجيّات تمكّنه من الإبقاء على التعليم النشط، وإتاحة الفرصة العادلة للتعلّم أمام الجميع، وإجراء التقويم اللازم الذي يمكّنه من قياس النتائج، ومدى تحقّق الأهداف. الاستراتيجيّات الممكن اعتمادها يمكن لها أن تجمع بين أسس نظريّة عديدة تغني عمليّة التعليم، وتسعى لتحقيق تعليم أفضل في هذا الظرف الاستثنائيّ.