كيف يؤتي تمكين المعلّمين أكُله؟
كيف يؤتي تمكين المعلّمين أكُله؟
محمّد تيسير الزعبي | خبير مناهج اللغة العربيّة وأساليب تدريسها، ومصمم برامج تدريبيّة - الأردن

يُبدي ماجد رغبته الدائمة في الحصول على تدريبات صالحة للتطبيق في غرفته الصفّيّة، ولا يُخفي تذمّره وامتعاضه عندما يشعر أنّ محتوى التدريب يغلب عليه الجانب النظريّ، أو يحتاج إلى موارد كثيرة يصعب توفيرها في البيئات المدرسيّة العاديّة. وقليلًا ما كان ماجد يلفت الانتباه إلى ضرورة إشراك المشرفين التربويّين والموجّهين والمرشدين وقادة المدارس في ما يُقدَّم إلى المعلّمين من تدريبات؛ إذ يرى أنّ أحد عوائق التطبيق يكمن في عدم اطّلاع المسؤولين في النظم التعليميّة، أو عدم معرفتهم الكافية بما يقدَّم من تدريبات، فتراهم يلتزمون بالوثائق الرسميّة ولا يرغبون بخروج المعلّمين عنها. خطرت حالة المعلّم ماجد إلى ذهني، وأنا أطالع دعوة الكتابة في ملفّ عدد منهجيّات الخامس عشر، والذي يتناول مسألة مهمّة في القطاع التعليميّ والميدان التربويّ، هي مسألة تمكين المعلّمين.

يتطرّق هذا المقال إلى جانب مهمّ ينبغي إيلاؤه الاهتمام الكافي عند تمكين المعلّمين والمعلّمات، وهو الذي يُظهر أثر التدريب الفعليّ. ذلك أنّ أيّ تدريب أو معرفة، مهما كانت رائعة، ستفقد كثيرًا من قيمتها إذا لم تجد طريقًا معبّدًا إلى الغرف الصفّيّة، وتتحوّل إلى إجراءات فعليّة في ممارسات المعلّمين. ولتحقيق ذلك، نعرض خطوات الفاعلين في الميدان التربويّ وأدوارهم، مرورًا بالتحدّيات التي تواجه هذا الطريق والحلول المقترحة لها؛ لجعل التدريس مهارة قيّمة تجذب الطالب، وتسهّل أمامه تحقيق أهدافه. 

البداية من التعليم الجامعيّ

يربط المعلّم ماجد كثيرًا من مضامين الدورات التدريبيّة وورشات العمل التي يتلقّاها وجاهيًّا أو عن بعد، بما درسه في مرحلته الجامعيّة الأولى، إذ يؤكّد أنّ غلبة الجانب النظريّ على تلك الدورات يجعلها غير جاذبة. فالمعلّم بحاجة إلى من يأخذ بيده لجعل غرفة الصفّ خليّة نحل، تتّضح فيها الأدوار فعليًّا بين المعلّم وطلبته. فالدعوات التي تطلقها تلك البرامج دعوات رائعة، ولا تكاد تجد معلّمًا يرغب في أن يبقى محور العمليّة التعليميّة وحده، أو مصدر المعرفة الوحيد، والطالب يتلقّى فقط ما يطرق سمعه طيلة اليوم المدرسيّ. لكنّ رغبات المعلّمين تصطدم بالنظريّات الكثيرة، أو الحاجة إلى موارد تكون أكبر من الميزانيّات المخصّصة لإدارات المدارس. الأمر الذي يبقي المعرفة التي اكتسبها المعلّمون والمعلّمات من الدورة التدريبيّة حبيسة العقول والأوراق.

المسؤوليّة في هذا الجانب متعدّدة الوجوه، ومن غير المنطقيّ ربطها بأقسام التدريب أو الإشراف التربويّ في الوزارة، إذ تتحمّل الجامعات مسؤوليّة مهمّة، تتمثّل بتخصيص ساعات دراسيّة كافية للتطبيق العمليّ في مرحلة البكالوريوس، حيث يجد الطالب فرصة كافية لربط الجانب النظريّ بالمجال التطبيقيّ، ويدفع أساتذة الجامعات إلى تحديث معلوماتهم ومعارفهم، استنادًا إلى ما يسمعونه من تجارب الطلبة التطبيقيّة، وتوجيه الجهود البحثيّة نحو ما يحتاج إليه المعلّمون بالتحديد.  

أدوار المعلّمين والمعلّمات  

كثير من التدريبات تكون مدروسة، وبعد الاستطلاع ورصد الحاجات، تحرص الجهات المشرفة على التدريبات، على استطلاع رأي المتدرّبين وقياس حاجاتهم إلى تلبيتها، وتوفير الدورات التي يحتاجون إليها. وهنا، يأتي دور المعلّمين والمعلّمات في تقديم استجابة واضحة لاستبانات الرأي التي تقيس الحاجات، إذ يجب على المستفيدين تحديد احتياجاتهم بالضبط، وعقد اجتماعات في ما بينهم لتحديد تلك الاحتياجات؛ لأنّ أغلب الاستبانات التي يقدّمها المعلّمون والمعلّمات تحوي موضوعات مشتتّة، أو اختارها عدد قليل جدًّا من المعلّمين. الأمر الذي يدفع الجهات المسؤولة إلى اختيار موضوعات عامّة ترضي مختلف فئات المعلّمين. 

من جهة أخرى، تنتهي غالبيّة الدورات بإبداء رأي بمضمونها وأداء المدرّب فيها، وهنا دور مهمّ يتحمّله المعلّمون، يتمثّل بالمصداقيّة العالية في إبداء الرأي، وعدم المجاملة أو الحكم استنادًا إلى العواطف، والاتّفاق في ما بينهم على رأي غالب، عندما يدرسه المختصّون والمسؤولون، وعلى موضوع محدّد وواضح، يحتاجون إليه فعليًّا في غرفهم الصفّيّة، وعندما يفرغ فريق التقييم استبانات المعلّمين تجد هذا الموضوع الأعلى طلبًا. وفي المقابل، يكون تقييم أداء المدرّب مؤشِّرًا لفريق التقييم حول توكيله بمهمّة تدريب قادم أو إعفائه منه. 

ميدان البحث التربويّ

آلاف البحوث التربويّة تُجرَى سنويًّا في كلّيّات التربية في الجامعات، وهذه البحوث نتاج تفكير أصحابها، وحصيلة معارفهم. وقلّما نجد بحثًا تربويًّا يستند إلى حاجات الميدان الحقيقيّة، أو يُنسَّق بين الباحث وأحد المعلّمين، أو يجري استنادًا إلى طلب المسؤولين في النظام التعليميّ الذين رصدوا إخفاقًا ويحاولون تجاوزه، أو نجاحًا يريدون التأكّد من إمكانيّة تعميمه في مدارس أخرى، أو بيئات تعليميّة.
سيكون من النافع وضع البحث التربويّ الجاد والرصين في خدمة تمكين المعلّمين. ومن المفيد أن تجد مؤسّسات التعليم العالي ووزارات التربية والتعلّم منهجيّة واضحة، لإجراء البحوث التربويّة ذات العلاقة المباشرة بحاجات الميدان المدرسيّ، حيث تكون الأدوار واضحة في هذه المنهجيّة بين الباحثين والمعلّمين. أمّا من ناحية دقّة الإجراء والتنفيذ، وواقعيّة البحث وأهدافه، فتخضع النتائج لنقاش مستفيض قد تشارك فيه أطراف العمليّة التعليميّة كافّة، ولا سيّما الطلبة الذين إذا اعتادوا هذا النهج فسيتعاملون معه، بمرور الوقت، بجدّيّة، ويصبح المعلّمون والباحثون قدوة لهم.

التطوّر المهنيّ والترقية 

سألت المتدرّبين ذات مرّة عمّا يفعلونه للتأكّد من فهم الطلبة واستيعابهم، بعد الانتهاء من شرح الدروس، فأخبرتني إحدى المعلّمات أنّها تقدِّم لطالباتها ورقة عمل.  
قلت لها: ماذا لو تحضرين غدًا في اليوم التدريبيّ الثاني بعضًا من نماذج أوراقك، لنتأمّلها ويستفيد منها المتدرّبون؟ 
قالت لي: أسلّمها للطالبات بعد تصحيحها، ولا أحتفظ بها.  
قلت لها: لا بأس، احضري نسخًا فارغة.  
قالت: هي في جهاز المدرسة، وسأحاول إحضارها غدًا. 

أبقيتُ في بالي سؤالها في بداية اليوم التدريبيّ الثاني، لتأتي إجابتها بأنّ أحدًا ما حذفها من جهاز الحاسوب، وأنّها عادت إلى ملفّاتها القديمة ولم تجد سوى ورقتين بدا عليهما القدم.  
ربّما خطر في بالكم السبب الحقيقيّ لعدم إحضار ورق العمل، على رغم حرص المعلّمة الظاهر على الاشتراك بالتدريب ونيل شهادته. وفي تقديري، إنّ ربط النظام التعليميّ لتنمية المعلّمين المهنيّة وتمكينهم، برتبهم وتسلسلهم الوظيفيّ، أضعف عمليّة نقل التدريب إلى الغرف الصفّيّة، ودفع المعلّمين إلى القبول بأيّ تدريب، مهما كانت جودته منخفضة، نظير حصولهم على حقّهم المشروع في الارتقاء الوظيفيّ. لذلك، لا بدّ من إعادة النظر في هذه المسألة، وجعل الورشات التدريبيّة مرتبطة أوّلًا بنتائج الطلبة، ورفع مستوياتهم، لا أن تكون مجرّد متطلَّب يُجبَر المعلّمون على اجتيازه من دون الإفادة منه.  
الوقت الملائم للتكنولوجيا  

المجال التكنولوجيّ رحب لتمكين المعلّمين. وبعد جائحة كورونا وما فرضته من تغيّرات، كثُرت آراء المعلّمين وتوجّهات النظام التربويّ حول ضرورة دمج التكنولوجيا وممارساتها في أداء المعلّمين. لكنّ تلك المهارات التكنولوجيّة التي تقدّمها الدورات التدريبيّة تصطدم بالبنية التحتيّة المتواضعة في البيئات المدرسيّة، وبعدم تعرّض المعلمين لهذا المستوى المهاري الذي قد يكون متقدّمًا عند مقارنته بمستوى المعلّمين والمعلّمات بالمهارات التكنولوجيّة. وحتّى يؤتي الاهتمام بالتكنولوجيا أكله، يجب أن تركِّز الدورات على:

1. مراعاة مستوى المعلّمين والمعلّمات، وعدم تقديم محتوى متقدّم يحتاج إلى مدّة طويلة وتدريب مستمر لإتقانه. 
2. تمكين المعلّمين في مختبرات متخصّصة مساوية من ناحية المعدّات والأدوات والبرامج، لما هو موجود في البيئات المدرسيّة. 
3. تقديم التدريبات على يد خبراء مهرة، يعرفون المهمّات اليوميّة المطلوبة إلى المعلّمين، ويكيّفونها مع التطبيقات التكنولوجيّة. 
4. تخفيف الأعباء الإداريّة، وإعفاء المعلّمين من إدارة المهمّات المرتبطة ببيانات الطلبة ومعلوماتهم وعلاماتهم واستخراج المعدّلات.
5. حوسبة المواد التعليميّة، لتكون العودة إليها سهلة، ولا نقصد بالحوسبة نقل محتوى الكتاب من الورق إلى الأجهزة، بل الحوسبة التي نريدها تظهر في كيفيّة تنفيذ مهمّات الكتاب باستخدام تطبيقات تجعل تحقيق هدف التعلّم الوجاهيّ مقاربًا لدرجته فيما لو كان عن بعد.
6. جعل جهد المعلّمين والمعلّمات ينصبّ على التعليم الفعليّ داخل الصف، وتخليصهم من الإرهاق المرتبط بما هو مطلوب منهم خارج الغرفة الصفّيّة. 
7. سهولة الوصول، إذ بإمكان المعلّمين العودة إلى هذه البيانات للحصول على أيّ معلومة عن أداء الطلبة وبياناتهم، ودراسة سيرة الطالب، لدعم تعلّمه أو معالجة إخفاقاته.    

 

تحدّيات متوقّعة وعقبات 

كثير من الخطط التدريبيّة تكون محكمة الإعداد، ويشرف على وضعها خبراء بارعون، لكنّ الأثر في الميدان يكون محدودًا، أو لا يرتقي إلى الطموح. والأسباب هنا كثيرة، منها: 

-    الدعم الماليّ والتمويل عائق رئيس في هذا المجال، إذ هو أوّل ما يبرِّر به المسؤولون عدم تحقيق خططهم التدريبيّة أهدافها المعلنة. وهذا سبب وجيه ولا سيّما في ظلّ تعدّد المهمّات المطلوب تغطيتها أثناء السنة الدراسيّة. وهذا الأمر يأتي عادةً على حساب التدريب، فيكاد الجانب التدريبيّ يكون أقل الجوانب حظوة في وفرة التمويل، في حين يكون أوّل جانب تقتطع حصّته عند إطلاق دعوات الترشيد وضبط النفقات. ويزداد الأمر تعقيدًا عندما تربط تلك الدورات بزيادات ماليّة في مرتّبات المعلّمين بعد اجتيازها.  

-    الوقت الذي تختاره النظم التعليميّة لتمكين المعلّمين وتدريبهم غير مناسب، إذ غالبًا ما يكون بعد انتهاء الدوام المدرسيّ، فيؤثِّر التعب والإرهاق في استيعابهم، وجودة تنفيذهم الأنشطة والمهمّات. فيضطر المدرّب إلى الاختصار والإسراع، وتغضّ الإدارة النظر عن أنّ التعلّم المشوّه لا يقلّ سوءًا عن عدم التعلّم. تظهر نتيجة ذلك في الغرفة الصفّيّة عندما لا يلبّي التدريب الحاجة الحقيقيّة التي يريدها المعلّم، ممّا يدفعنا إلى التفكير بالتدريب عن بعد، والذي يحتاج إلى مصداقيّة عالية في ظلّ الإعلانات التي نطالعها في منصّات التواصل الاجتماعيّ، والتي توفِّر شهادات دورات تدريبيّة يحتاج إليها المعلّمون لأغراض كثيرة، يكون آخرها تطوير الأداء وتحسين أساليب التعليم.

-    طول مدّة التدريب قد يكون سببًا في عدم تحقيق أهدافه، ذلك أنّ للفرد طاقة جسميّة واستيعابيّة. ويكون الأمر مرهقًا جدًّا عندما يغلب على التدريب الإلقاء النظريّ أكثر من العمل الإجرائيّ، فترى المعلّم يشعر بالضجر، ولا يسجِّل ملاحظاته، أو تجد الجهة المسؤولة عن التدريب تهمل توفير مكان مناسب للتدريب من ناحية المقاعد والتجهيزات المرافقة، وتوفير مشروبات تخّفف ثقل اليوم التدريبيّ.

* * *

الأطراف كلّها في النظام التعليميّ يستفيدون ويتغيّرون ويتحوّلون إلى الأفضل، ذلك أنّ المنهاج يتغيّر باستمرار، وعندما يحرص النظام التعليميّ على إكساب المعلّمين والمعلّمات المهارات الضروريّة والرئيسة، تكون استجابتهم لتلك التغيّرات والتحوّلات أسرع وأكثر مرونة، ولن يستغرق الأمر كثيرًا. ومن جهة أخرى، يرفع التمكين كفايات المعلّمين ويجعلها في مستويات متقاربة، ولن نرى مرّة أخرى مشكلة عندما ينتقل المعلّمون المميّزون إلى مدرسة أخرى، وتختفي مطالبات الأهالي وقادة المدارس بمعلّم دون غيره.