فنّان تشكيليّ أم مدرِّس فنون؟
فنّان تشكيليّ أم مدرِّس فنون؟
صفاء بديع | فنّانة لبنانيّة تشكيليّة ومعلّمة فنون-لبنان

قد لا يكون مدرّس الفنون فنّانًا، ومع ذلك، إذا كان الفنّان الماهر معلّمًا جيّدًا، فلن تتحقّق فوائد كبيرة للفنّان- المعلّم فحسب، بل للمجتمع كلّه أيضًا. طوال فترة خبرتي البالغة 28 سنة، كنت محظوظة لأنّي فنّانة ومعلّمة فنون في الوقت ذاته. ومنذ اللحظة التي اعتقدتُ فيها ذلك، عملتُ على تطوير رؤيتي وهدفي ومعتقداتي ورسالتي.

في هذا المقال، أسلّط الضوء على فلسفتي التربويّة والفنّيّة، والتي تستند إلى خبرتي، فنّانةً ومعلّمة فنون، حقّقتُ فيها عددًا من الإنجازات، انطلاقًا من مدى تقديري للفنّ وتعليمه، وإيماني بدوره في جعل الطلّاب أكثر إبداعًا وإدراكًا، ومساعدتهم على تطوير قدراتهم العقليّة والعاطفيّة.

 

رؤيتي الفنّيّة في المجال التربويّ

تتمثّل رؤيتي في ابتكار برنامج فنّيّ كامل ومتوازن، يسمح لكلّ طالب بزيادة السلوك الإيجابيّ تجاه الذات والآخرين والبيئة، من خلال التجارب الإبداعيّة. تتماشى هذه الرؤية التربويّة مع رؤيتي الفنّيّة، حيث أسعى إلى نشر السلوك الإيجابيّ، برسوماتي وألواني ومفاهيمي الفنّيّة. عملت، وما زلت أعمل، على تطوير منهج مادّة الفنون، حيث يتضمّن ذلك المفاهيم المشار إليها، وتسهيل دمج الفنون في مناهجنا المدرسيّة، ما قد يساعدني على الاقتراب من رؤيتي المتوقَّعة.

أمّا هدفي من ذلك فيكمن في تعليم الطلّاب أنْ ليس هناك طريقة محدّدة لابتكار الفنّ، حيث توجد أحيانًا عقبات قد يحتاجون إلى التغلّب عليها. وأنّ التعامل مع الشكّ والتعبير عن الآراء، والدفاع عنها، عناصر أساسيّة يطلبها الفنّانون. قد يواجه الطلّاب مشكلات تتعلّق بالخوف، أو عدم الثقة بالنفس، أو الشعور بعدم الأمان عندما يتعلّق الأمر بإنتاج الفنون، نظرًا إلى تحدّي النقد المسبق، أو ردود الفعل السلبيّة على أعمالهم الفنّيّة. أريد أن يدرك طلّابي ما يمكن للفنّ أن يخلقه من ردود أفعال مختلفة عمّا هو متوقَّع، ولكن، يجب أن نفهم أنّ أيّ ردّ فعل أفضل من عدمه.

ينطلق اهتمامي بعمليّة التربية والتعليم من رغبتي في توظيف الفنّ في تعزيز القبول والاعتراف بالآخر. ولمّا كان الفنّانون يسعون دائمًا إلى إنتاج الفنّ عملًا بحثيًّا أو استكشافيًّا، كانت المناقشات التي تدور حول عمل فنّيّ مهمّة، سواء كانت إيجابيّة أم سلبيّة. يقول بابلو بيكاسو: "كلّ طفل فنّان، ولكنّ المشكلة كيف يبقى فنّانًا عندما يكبر؟" أؤمن أنّ فنّانينا اليافعين منفتحون على النقد، لكن، مع نضوجهم، يصبحون أكثر حساسيّة تجاه ردود أفعال الأقران، إذ يدركون الفرديّة، ويخشون أن يُصنَّفوا على أنّهم مختلفون عن الجمهور. أريد أن يكتشف طلّابي تفرّدهم، ويقبلوا أن يكونوا أفرادًا مختلفين، بدلاً من الاختباء وسط الحشد. لذلك، أسعى إلى التفرّد دائمًا، بصفتي فنّانة، ولديّ شغف بعملي الفنّيّ الخاصّ. وكذا أطمح إلى أن أطوّر شخصيّة طلّابي وأسهم في تفرّدهم، بصفتي معلّمة، فأظهر حبّي وشغفي لما أدرِّسه، لأنّ هذا ينتقل مباشرة إلى الطلّاب، إذ يتأثّرون بالطاقة الإيجابيّة التي أظهرها لهم.

 

تجربتي في الجمع بين الفنّ والتعليم

لا يمكننا أن ننكر ما للفنّ من قدرة على إشراك الطلّاب في التعلّم التجريبيّ، حيث يمكنهم التعلّم من خلال العمل. ولهذه الغاية، أتعاون دائمًا مع معلّمي المواد الأخرى لتحقيق هذا التواصل. عقدت ورش عمل لمعلّمي الفنون والموادّ الأخرى حول التدريس من خلال الفنون. ساعدتني هذه التجارب على التطوّر مهنيًّا، فنّانةً ومعلّمةَ فنون. كنتُ بحاجة إلى إظهار مهاراتي والتأثير في البيئة المحيطة بي، ثمّ الاقتراب من الأشخاص الذين يعيشون في هذه البيئة، لمعرفة المزيد عنهم، ومشاركة معرفتي المكتسبة مع المعلّمين القادرين على إحداث تأثير في الشباب والمتعلّمين الذين ينقلون التعلّم في مواقف الحياة الواقعيّة المختلفة. لذلك، أنظّم دائمًا زيارات مع طلّابي إلى المعارض والمتاحف الفنّيّة المرتبطة بثقافتنا، بالإضافة إلى المشاريع والمسابقات الفنّيّة، المحلّيّة والدوليّة.

الفنّ مرآة المجتمع التي تعكس قضاياه، واهتمامات أفراده ومخاوفهم وآمالهم ومعتقداتهم، والمفاهيم والأجندات التاريخيّة في جميع أنحاء العالم، والتي تعاد مشاهدتها اليوم. لذلك، يجب على الطلّاب استكشاف ثقافاتهم الخاصّة وتقديرها، قبل أن يتمكّنوا من فهم أهمّيّتها في حياة الآخرين. أحاول أيضًا تعليم طلّابي تاريخ الفنّ، وأهمّيّة التدقيق في المعلومات أثناء البحث في تاريخ الحقب والأنماط الفنّيّة المختلفة. كما أحاول أن أظهر لطلّابي ما في تدريس الفنّ من متعة، ليتعلّموا بشكل أفضل، وسط جوّ من الإثارة والإيجابيّة في صفّنا الفنّيّ، يسهم في تحقيق الإبداع والنموّ. هكذا يعمل الفنّانون، فهم دائمًا بحاجة إلى مساحة مفتوحة وعقل حرّ ليخلقوا. من هنا، أسمح لطلّابي بالرسم في أيّ مساحة يجدونها مريحة وملهِمة، مثل قاعة الفنون، أو الملعب، أو الحديقة، أو الشارع.

لمّا كان الفنّان يستوحي أعماله من التنوّع، حرصتُ دائمًا على استيعاب جميع الطلّاب من خلفيّاتهم الثقافيّة المتعدّدة، للتعرّف إلى الثقافات المختلفة في صفّي. أعدّل خطط الدروس للتأكّد من أنّها تتضمّن كلّ طالب. يساعدني ذلك كلّه على تحقيق نفسي فنّانةً ومعلّمةً، ومساعدةَ الباحثين الشباب على تحقيق الذات والنموّ. يقول مهاتما غاندي: "كن التغيير الذي تريد أن تراه في العالم".

من خلال تجربتي، أعتقد أنّ العمل يسبق التعلّم. تسهم ممارسة الفنّ بإبقاء المعلّمين مندمجين بالموضوع اندماجًا قويًّا، حيث يوفِّر هذا الاتّصال رؤى مستمرّة في عمليّة تدريس الفن. حصل ذلك إثر تنظيمي ناديًا فنّيًّا للمعلّمين والطلّاب معًا، حيث تشاركوا في تأمين بيئة فنّيّة في مدرستنا، برسم الجداريّات داخل المدرسة وخارجها.  

أحاول أيضًا تعليم الطلّاب أن يكونوا قادرين على استكشاف إبداعاتهم الفريدة، باستخدام مستوى عالٍ من مهارات التفكير الناقد لتحديد المشكلات. يتمكّن الطلّاب القادرون على تطوير مهارات التفكير الإبداعيّ من استخدامها في أيّ مسار يختارونه في حياتهم؛ فالطالب الذي يدرك القوّة الكامنة في الفنّ ويستمتع باستكشافها، يتعلّم وينمو بطرق فريدة وقويّة.

 

* * *

بناءً على ما تقدّم، أرى التربية الفنّيّة تجربة تعلّميّة مستمرّة، وبإمكاننا الحصول على منهج فنّيّ متوازن وناجح، من خلال عمليّات البحث، وتحصيل الطلّاب، والتفاعل الاجتماعيّ، ومزج الاتّجاهات في الثقافة البصريّة، وتعزيز قبول التنوّع، وإدراج الفنّانين القدماء والمعاصرين في خطط الدروس، والاعتراف بالقدرات الفرديّة. أوصلتني استمراريّتي في عمليّة التعلّم والتعليم، من خلال الأبحاث وورش العمل المستمرّة، إلى المعرفة والثقة، لأظهر لطلّابي والإدارة والمجتمع أنّه يمكننا بالفنّ اكتشاف كيفيّة تواصل الناس، ليس بالكلمات فحسب، بل بالصور أيضًا.