عزيزي معلّم التاريخ، دعهم يقرؤون الروايات!
عزيزي معلّم التاريخ، دعهم يقرؤون الروايات!
ريما ضو | مدرسة تاريخ وشريك مؤسس في سكوب-لبنان

تعكس الرواية التاريخيّة الماضيَ، ولا تُعدّ كتابتها مهمّة سهلة، إذ تحتاج إلى توثيق المعلومات والأحداث. ولا شكّ في أنّ قراءة الرواية التاريخيّة تعود بالفائدة على الطلاب، لكنّ الصعوبة تكمن في عدم التمييز بين الواقع والخيال الذي يعتمده كاتب الرواية. يرفض بعض مدرِّسي التاريخ اعتبار الرواية التاريخيّة أداة تعليميّة، وأساء بعضهم الآخر استخدامها، في حين أنّ تحليل المعلومات التي جُمِعت من روايات تاريخيّة مختلفة تبيّن مدى إمكانيّة أن تكون الرواية التاريخيّة مفيدة للتعلّم.

من هنا نسأل: هل الرواية التاريخيّة مصدر كافٍ لتعليم الطلّاب التاريخ؟ وكيف يمكن استخدام هذا المصدر في صفّ التاريخ لربط المادّة الأدبيّة مع المادّة التاريخيّة؟ ما المعرفة التاريخيّة التي يكتسبها الطالب بدراسة الرواية؟  

يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة، بالإشارة إلى أهمّيّة الرواية في تعليم مادّة التاريخ، وكيفيّة توظيفها في استخدامات تربويّة مختلفة وفق سياقاتها التاريخيّة وما تحويه من معلومات.

 

حول الرواية التاريخيّة وأهمّيّتها في تعليم التاريخ

تعدّ الرواية التاريخيّة قصّة غنيّة بالمعلومات ومسلّية في آنٍ، حيث يرتكز سياق القصّة على الواقعيّة بقدر ارتكازه على الخيال (Prieur, 1999). يعيد فيها الكاتب الحياة إلى الماضي بخلق جوّ حقبة ماضية، يقدِّم فيها إلى القارئ عالمًا متجذِّرًا في التاريخ، تلتقي فيه الشخصيّات الخياليّة بشخصيّات تاريخيّة، وتتطوَّر في بيئة أعيد بناؤها بدقّة. يضيف الروائيّ فيها إلى سحر المَشاهد الصراعاتِ السياسيّةَ والعسكريّة، والبنى الاجتماعيّة والمواجهات الإيديولوجيّة التي أثّرت في حقبة معيّنة.

تعريف الطلّاب بالتاريخ يعني دعوتهم إلى التواصل مع الماضي، ودفعهم إلى قراءة الحاضر. فالتاريخ، سواءً أنقله المؤرِّخ أم الروائيّ، هو بناء، وهو منتج فكريّ، أنشِئ لحساب عمليّة فكريّة (Martineau, 1997).

تسمح الرواية التاريخيّة، على العكس من النصّ التاريخيّ، للطلّاب بالتعلّم والشعور بالماضي باستيعابهم الداخليّ للحقائق. بينما يُضفي الخيال التاريخيّ طابعًا إنسانيًّا على دراسة التاريخ بالتركيز على الاختبارات الإنسانيّة التي قد يغفلها المؤرّخون. وهذا ما يعطي الرواية التاريخيّة الخياليّة القدرة على تطوير التفكير التاريخيّ.

أضف إلى ذلك أنّه إذا كان أحد أهداف تعلّم التاريخ إدراج الطالب في خبرات بشريّة أخرى، فإنّ الرواية التاريخيّة تثبت أنّها وسيلة ذات صلة؛ فالسرد التاريخيّ يسمح لهم أن يفهموا أن التاريخ تجربةٌ إنسانيّة تشكِّل كلًّا متماسكًا، بفضل مفهوم التغيير الذي يكمن وراء كلّ تجربة بشريّة. من المسلَّم به أنّ الطلّاب لا يمتلكون دائمًا المعرفة المسبقة أو المهارات اللغويّة أو تدريب المؤرِّخ، ولكن يتيح العمل على المصادر المختلفة الفرصة أمامهم لاكتشاف الطرق التي تُبنى بها المعرفة من الأدلّة، ومن التمييز بين القصص الثانويّة والمصادر الأوّليّة التي بنيت عليها القصص (Johnson, 1979).

 

الاستخدامات التربويّة للرواية التاريخيّة

كرّست المناهج العالميّة مساحة واسعة لدراسة الحروب في مادّة التاريخ، وذلك في المراحل التعليميّة كافّة. ومن بينها المناهج الفرنسيّة التي أعطت حيّزًا كبيرًا للحرب العالميّة الأولى التي دامت أربع سنوات. بلغ عدد القتلى في فرنسا وحدها 1،385،000 قتيل، وفي أوروبا 8 ملايين قتيل و6 ملايين معوَّق، بالإضافة إلى خسائر ماديّة هائلة. هذه الروايات التاريخيّة التي تتناول الحروب، أو ما يُعرَف بروايات الذاكرة، لا تُعدّ ولا تحصى. يمكن الاختيار من بينها بحسب المرحلة التعليميّة.

وكوني معلمة تاريخ للمنهج الفرنسيّ، اخترتُ رواية "الذهب والطين" لكريستوف لامبرت، للعمل على هذا الحدث التاريخيّ مع طلّاب المرحلة المتوسِّطة. تُعدّ هذه الرواية شهادة مذهلة عن الظروف الفظيعة التي عرفها الجنود خلال الحرب العالميّة الأولى. وتسرد كيف قاتل فوج "كازيمير" و"مارتن"، بطلي الرواية، على الجبهة بالقرب من فردان. تتوالى الأسابيع في الخنادق، رماديّةً رتيبة، وسط القذائف والطين والقذارة. وفي يوم من الأيّام، عندما كان الصديقان في غابة "هامونت"، أكّد مارتن لكازيمير أنّ في الغابة كنزًا مدفونًا. هنا، تصبح فكرة الاستيلاء على هذا الكنز حلمًا يسمح لهما بالبقاء على قيد الحياة، وذلك بالهروب من حياتهما اليوميّة المروِّعة. تعيد الرواية القارئ إلى قلب هذه الفترة الصعبة من تاريخ البشريّة، بالاستناد إلى معلومات تاريخيّة دقيقة. 

أتاحت لي هذه الرواية التاريخيّة مساعدة الطلّاب على تحقيق الأمور الآتية:

 

استخراج المعلومات المتّصلة بالحرب

1- الموضوعات العسكريّة والحربيّة

  • - الحياة العسكريّة: الغرض من الخنادق؛ تنظيم الخنادق؛ المعسكرات؛ المعدِّات؛ المفردات العسكريّة... 
  • - أساليب القتال والتسليح: الرشاشات ودور الحربة؛ الهجوم والهجوم المرتدّ؛ يسبق الهجوم الأرضيّ إعداد مدفعي؛ الغازات الخانقة؛ أخصائيِّو المتفجِّرات... 
  • - التنظيم العسكريّ: الرواية تبيّن لنا التسلسل الهرميّ للرتب، ولوجستيّات الاتّصالات (هاتف، حمامة، صاروخ...). 
  • - التكتيكات الإستراتيجيّة (هجوم فردان): لماذا تُعتبر فردان قاعدة الدفاع الفرنسيّ؟ 

2- القضايا السياسيّة: أسباب الحرب وأهدافها

  • - الدوافع الرئيسة: الانطلاق إلى الحرب "الزهرة بالبندقيّة" (تعبير استُعمل للدلالة على أنّ الحرب لن تستمرّ لأكثر من أسبوعين)[CE1] [GU2]. يستخدم البطل مصطلحات تظهر الدوافع للمشاركة في القتال: "عدم السماح بغزو فرنسا"، "لاستعادة الألزاس واللورين". 
  • - القضايا الأوسع: محاربة الديمقراطيّات (فرنسا وإنكلترا)؛ الأنظمة الاستبداديّة (الإمبراطوريّة الألمانيّة). 
  • - الخصوم: الفرنسيّون والألمان والإنكليز والنمساويّون والروس والإيطاليّون والأتراك. من الفاعلون في هذه الصراعات؟ 

3- جوانب الحياة اليوميّة وعادات الجنود

  • - التكيّف مع الرعب إلى حدّ الإدمان عليه: يسمح لنا النصّ بفهم العنف الاستثنائيّ الذي تعرَّض له الجنود، ويشرح معاناة المقاتلين. 
  • - كيف يأكلون: مطابخ متنقّلة؛ حصص غذائيّة؛ نومهم؛ البقاء على قيد الحياة...
  • - كيف عاشوا؟ وبمَ كانوا يفكِّرون؟ 
  • - الخيارات الشخصيّة: الوطنيّون ودعاة السلام والبراغماتيّون.  
  • - أنواع الإصابات وبعض التطوّرات الطبيّة (فصائل الدم، وعمليّات نقل الدم).  
  • - الحرب مكان اختلاط طبقات اجتماعيّة مختلفة. 
  • - التعبيرات والمفردات التي يستخدمونها.  

 

التفكير في موضوعات تاريخيّة معيّنة

1- القيم التي يجب الدفاع عنها

  • - ما القيم التي كان على المقاتلين الدفاع عنها؟ وما الديمقراطيّة الحاليّة؟ 
  • - ما حقوق المواطنين؟ وما واجباتهم تجاه مجتمعهم السياسيّ؟
  • - ماذا يعني تدريس الذاكرة اليوم؟

2- عواقب الحرب

  • - أدّى الرعب والتعب إلى ثورة فكريّة وأخلاقيّة، وتساؤل عن القيم القديمة. الأمر الذي أسهم في ظهور الأفكار السلميّة. 
  • - هل الحرب عامل تقدُّم تقنيّ وطبيّ؟ 

3- مسائل فكريّة أخرى

  • - الحرب في الماضي والحاضر. 
  • - ما وسائل احتواء الحرب؟ 
  • - هل تنعم أوروبا بالسلام اليوم؟ 

 

مقارنة أفكار الرواية بالوثائق التاريخيّة

  • - رسائل الجنود الموجَّهة إلى عائلاتهم.
  • - مقتطفات من الصحف القديمة.
  • - أغاني من الحقبة التاريخيّة.
  • - لوحات فنّيّة، مثل لوحات الألمانيّ أوتو ديكس التي أظهرت قباحة الحرب، ولا سيّما لوحات "لاعب البطاقة"، و"الحرب"، و"تاجر المباريات".

بالإضافة إلى ذلك، استخدمنا الرواية ذاتها للربط بين مادّة التاريخ ومادّة اللغة الفرنسيّة، لدراسة أدب المغامرة، إذ تحوي الرواية مغامرة البحث عن الكنز المفقود. 

 

* * *

من نتائج استخدام الرواية في تعليم التاريخ ما يرسخ في ذهن الطلّاب من معلومات يَصعُب رسوخها عند التعلّم بكتاب التاريخ المدرسيّ. في الواقع، يبدو، حسبما يرى Johnson (1979)، أنّه من الأسهل فهم حدث تاريخيّ ما أو مقابلة شخصيّة معيّنة في رواية، بدلاً من جدول مختصر للأسباب والنتائج. كما يمكن للرواية التاريخيّة أن تحفِّز الطلّاب على البحث عن معلومات جديدة حول الموضوع التاريخيّ، أو التحقّق من البيانات التي تنقلها. يطوِّر تقييم البيانات التاريخيّة الحسّ النقديّ لدى الطلّاب، ما يجعلهم أكثر استعدادًا لتمييز الحقيقة من الخيال. من الممكن، بعد ذلك، تحديد درجة موضوعيّة الرواية ومناقشة التفسيرات المختلفة التي يمكن أن يثيرها السرد التاريخيّ. في هذه الحالة، يكون الطلّاب أكثر استعدادًا لفهم أهمّيّة دراسة الحقل التاريخيّ، وطرح أسئلة حول مكانتهم والدور الذي يؤدّونه في المجتمع. 

وعليه، فيمكن للرواية التاريخيّة أن تساعد الطلّاب على تطوير التفكير النقديّ في ما يتعلّق بخطابات الماضي، وتعرِّفهم إلى كيفيّة جعل الحقائق نسبيّةً، وفقًا للوثائق التي أخذِت منها. 

 

المراجع

- Johnson, M. (1979). L’histoire apprivoisée. Les Éditions du Boréal Express.

- Martineau, R. (1997). L’échec de l’apprentissage de la pensée historique à l’école secondaire. Contribution à l’élaboration de fondements didactiques pour enseigner l’histoire (thèse de doctorat, Université Laval). www.nlc-bnc.ca/obj/s4/f2/dsk3/ftp04/nq25250.pdf

- Prieur, T. (1999). Le roman historique, un genre didactique. Trames. 19-28.

https://www.erudit.org/en/journals/qf/2009-n154-qf1095144/1837ac.pdf