ضبط إيقاع الصفّ في الرياضيّات: تجربة من قلب الممارسة الصفّيّة
ضبط إيقاع الصفّ في الرياضيّات: تجربة من قلب الممارسة الصفّيّة
لياء قاسم | معلّمة رياضيّات - فلسطين

يُعدّ ضبط إيقاع الصفّ من القضايا الأساسيّة التي تُحدّد نجاح المعلّم في مهمّته التعليميّة. فالصفّ ليس مجرّد مكان لشرح الدروس، بل بيئة حيّة تتفاعل فيها الطاقات، وتُبنى فيها العلاقات، ويتشكّل داخلها سلوك الطلّاب تجاه التعلّم. ومن واقع التجارب الصفّيّة، يتّضح أنّ ضبط الإيقاع لا يعني الصرامة المطلقة ولا التساهل المفرط، بل فنّ الموازنة بين الحرّيّة والانضباط. 

الفرق بين الصفّ النشيط والصفّ الفوضويّ 

الصفّ النشيط يمتاز بالحركة والابتكار، لكن تحت مظلّة من القواعد والأنشطة الواضحة التي تمنح كلّ طالب دورًا، مع متابعة مستمرّة من المعلّم لضمان سير الحصّة بسلاسة. 

أمّا الصفّ الفوضويّ فيغيب فيه الهدف والتنظيم، وتتحوّل الطاقة الطبيعيّة للطلّاب فيه إلى تشويش وفقدان للتركيز، ويصعب على المعلّم إيصال المعلومات بفعّاليّة. 

الفرق بينهما دقيق، ويقع على عاتق المعلّم أن يوجّه الحماس ليبقى في المسار الصحيح، ويحوّل الطاقة المتدفّقة إلى تعلّم حقيقيّ وممتع. 

 

تجربتي في صفوف الخامس والسادس: دمج المتعة والتركيز 

من تجربتي في تدريس مادّة الرياضيّات لطلبة الصفّين الخامس والسادس، لمستُ بشكل مباشر حاجتهم إلى الحافز المستمرّ، والأنشطة التي تجمع بين الحركة والتفكير. هذه المرحلة العمريّة تتميّز بالفضول والرغبة في المشاركة، لكنّها في الوقت نفسه تحتاج إلى حدود واضحة، حتّى لا تتحوّل الطاقة إلى فوضى. 

  • - أبدأ الحصّة دائمًا بروتين ثابت، مثل سؤال سريع أو مسألة قصيرة على اللوح، تساعد الطلّاب في الدخول في جوّ الرياضيات بهدوء، وتهيئتهم للتفاعل. 
  • - أستخدم أنشطة تفاعليّة مثل "لعبة الأرقام السريعة"، يجيب فيها الطلّاب عن أسئلة حسابيّة في وقت محدود، أو "مسابقة المجموعات" لتشجيع التفكير الجماعيّ، أو استراتيجيّة "فكّر - زاوج - شارك" لتعزيز النقاش والمشاركة بين الأقران. 
  • - أشجّع التعاون بتقسيم الصفّ إلى فرق صغيرة، بحيث يُصبح كلّ طالب مسؤولًا عن جزء من الحلّ، ويشعر بأنّ مشاركته مهمّة لنجاح الفريق. 

 

تجربة اللعبة في الصفّ 

  • - لاحظت أنّ بعض الطلّاب يفقدون اهتمامهم بمجرّد أن نبدأ بالتمارين التقليديّة، لذلك قرّرت تحويل الدروس إلى ساحة ألعاب تفاعليّة. قسّمت الطلّاب إلى مجموعات صغيرة، ومنحت كلّ مجموعة اسمًا (مثل: "العباقرة" و"المبدعون"). عند حلّ سؤال على اللوح، يحصل الفريق الذي يجيب أوّلًا على "نقطة طاقة"، وتتراكم النقاط أثناء الحصّة. وفي نهايتها نحتفل بالفريق الفائز بتصفيق جماعيّ، أو ببطاقة تشجيعيّة تحمل كلمات تشجيعيّة بسيطة مثل: "ممتاز" أو "جهد رائع"، ما يُعزّز شعور الطلّاب بالإنجاز. 

النتيجة كانت مذهلة؛ حتّى الطلّاب الذين كانوا متردّدين بدأوا يرفعون أيديهم بحماس، والذين يخطئون يجدون دعمًا من مجموعتهم بدل الإحباط. أحد الطلّاب الذين كانوا ضعفاء في الحساب، قاد مجموعته في حلّ مسألة صعبة، ووقف بفخر أمام زملائه قائلًا: "أنا ساعدتكم". منذ ذلك اليوم صارت مشاركاته أكبر، وتراجع خوفه من الفشل، وبدأ يظهر تقدّمًا ملحوظًا في فهم العمليّات الحسابيّة. 

 

أثر التحوّلات الرقميّة في إدارة الصفوف 

لإثراء تجربة التعلّم، أنشأت قناة خاصّة على يوتيوب، أرفع عليها مقاطع قصيرة تشرح الدروس خطوة بخطوة، مع أمثلة عمليّة وأسئلة تطبيقيّة. الهدف كان أن تُصبح الفيديوهات صفًّا موازيًا للتعلّم، يُتيح للطلّاب مراجعة الدروس في أيّ وقت، وتكرار الشرح حتّى يترسّخ الفهم لديهم. هذا مكّن الطلّاب من مراجعة الشروح في أيّ وقت، وخفّف الضغط عن الحصّة الصفّيّة. كما استفدت من الاختبارات الإلكترونيّة لمتابعة تقدّم الطلّاب فرديًّا، ومعرفة من يحتاج إلى دعم إضافيّ. 

وعلى رغم التحدّيات التي نواجهها بصفتنا معلّمين فلسطينيّين، منحتني الرقمنة فرصة للوصول إلى طلّابي حتّى خارج جدران المدرسة، وتعويض ما قد يفوتهم بسبب الظروف. 

وبينما كان الطلّاب يستفيدون من الفيديوهات، لاحظت أنّ هذا التفاعل لم يقتصر عليهم فقط، بل امتدّ ليصل إلى الأهالي أيضًا. 

 

تفاعل الأهالي مع الفيديوهات 

لم تقتصر نتائج هذه التجربة على تفاعل الطلّاب فقط، بل انعكست أيضًا على علاقة الطلّاب بأهاليهم. لاحظت أنّ بعض أولياء الأمور صاروا يتابعون الفيديوهات مع أبنائهم، أو فوجئوا بحماس أبنائهم للرياضيّات، بعد أن كانت مادّة ثقيلة عليهم. بعض الأهالي بدأوا يناقشون أبناءهم حول حلول المسائل، ويشاركونهم بعض الألعاب التعليميّة في البيت، ما خلق شراكة تعليميّة حقيقيّة خارج الصفّ. 

أحد المواقف المؤثّرة كانت رسالة من طالبة لم أدرّسها مباشرة في الصفّ، لكنّها تابعت مقاطع القناة، قالت فيها: "أستاذة، شاهدت فيديوهات القناة ثلاث مرّات قبل الامتحان، وعندما حللت المسألة، شعرت أنّني أسمع صوتك في أذنيّ". هذا النوع من التعليقات أكّد لي أنّ التعليم لا ينتهي عند جدران الصفّ، بل يمكن للتكنولوجيا أن تمدّ أثره إلى طلّاب آخرين خارج الصفّ، وتخلق مساحة تعليميّة ممتدّة تتجاوز الحصّة التقليديّة. 

 

التحدّيات التي واجهتني، والحلول 

1. التفاوت في المستويات: بعض الطلّاب يجدون صعوبة في المتابعة. عالجت الأمر باستخدام أوراق عمل بمستويات متفاوتة، بحيث يُنجز كلّ طالب ما يناسبه، ويشعر بالتحدّي من دون إحباط. 

2. الصفوف المكتظّة: أحيانًا يتجاوز العدد قدرة المعلّم على المتابعة الفرديّة. لجأت إلى تقسيم الصفّ إلى مجموعات صغيرة مسؤولة عن أنشطتها، ما ساعد في تنظيم الجهد وتركيز الانتباه. 

3. الطلبة ذوو صعوبات التعلّم: في حالات مثل عُسر الحساب (Dyscalculia)، اعتمدت وسائل بصريّة وألعابًا تعليميّة، مع تخصيص وقت إضافيّ للمتابعة الفرديّة، لضمان عدم تخلّف أيّ طالب عن الزملاء. 

4. التحدّيات الرقميّة: بعض الطلّاب لا يملكون أجهزة أو إنترنت دائمًا في بيوتهم، لذلك قدّمت لهم نسخًا مطبوعة من الشرح، وأعددت أنشطة بديلة لضمان شموليّة التعلّم، مع إعطاء الطلّاب فرصة لإعادة التجربة في الصفّ إذا لزم الأمر. 

5. إدارة الوقت: دمج الألعاب والأنشطة الرقميّة أحيانًا يستغرق وقتًا أطول من الشرح التقليديّ، لذلك أحرص على تقسيم الحصّة بحيث يتخلّلها وقت للأسئلة والمراجعة، لضمان استثمار كلّ دقيقة بشكل فعّال. 

 

ضبط الصفّ بين المراحل وأحجام الصفوف 

  • - في الصفّين الخامس والسادس، يعتمد الضبط على مزيج من الألعاب التعليميّة، والنقاشات القصيرة، والأنشطة العمليّة، بحيث يوازن بين الحركة والانضباط. 
  • - يختلف الأمر عن المراحل الأصغر التي تحتاج إلى "روتين" أكثر بساطة، وعن المراحل الثانويّة التي تحتاج إلى مساحة أوسع للنقاش والتحليل، مع فرص أعمق للاستقصاء والفكر النقديّ. 
  • - ومع ازدياد حجم الصفّ، يُصبح من الضروريّ اعتماد أنشطة جماعيّة مُقسّمة بوضوح، مع إشراف مباشر من المعلّم على كلّ مجموعة، حتّى لا تضيع جهود الطلّاب وسط العدد الكبير. 

 

البعد الإداريّ والتربويّ في التجربة 

التأمّل في هذه الممارسات لا يقتصر على كونها أساليب صفّيّة ناجحة، بل يكشف أيضًا عن أبعاد إداريّة وتربويّة عميقة. فإدارة الصفّ في جوهرها صورة مصغّرة عن إدارة المؤسّسة التعليميّة، إذ يتطلّب الأمر وضوحًا في الرؤية، وتنظيمًا للوقت، وتوزيعًا للأدوار، وتحفيزًا للأفراد لتحقيق الأهداف المشتركة. وبالتالي، فإنّ ما اكتسبته من خبرة في ضبط إيقاع الصفوف، وتوظيف الرقمنة والشراكة مع الأهالي، يمدّني بأرضيّة قويّة لدراسة الإدارة التربويّة؛ إذ أرى أنّ المعلّم الناجح مشروع قائد تربويّ مستقبليّ. هذه التجربة جعلتني أكثر وعيًا بأهمّيّة السياسات المدرسيّة التي تدعم الإبداع والمرونة، وأكّدت لي أنّ الإدارة التربويّة الفاعلة تبدأ من الفهم العميق للتفاعلات الصفّيّة، لأنّها الأساس الذي يُبنى عليه نجاح المدرسة. 

 

***

ضبط إيقاع الصفّ عمليّة ديناميكيّة تتغيّر وفق المرحلة التعليميّة، وعدد الطلّاب، وخصائصهم الفرديّة. أثبتت لي التجربة أنّ الحزم والمرونة، مع استثمار الألعاب والرقمنة، هي المفاتيح الأساسيّة لنجاح المعلّم. فحين يشعر الطالب أنّ المعلّم قريب من عالمه، ومهتمّ بذكائه الفرديّ، يُصبح أكثر استعدادًا للالتزام والانضباط، ويستمتع بالتعلّم بدلًا من أن ينفر منه. 

هذه الممارسات، البسيطة لكن المؤثّرة، جعلت الطلّاب أكثر ارتباطًا بالرياضيّات، فطوّروا ثقة أكبر بقدرتهم على مواجهة المادّة. كما عزّزت التواصل بين المدرسة والأهل، ووفّرت مسارات تعلّم إضافيّة باستخدام التكنولوجيا. أتمنّى أن تُشكّل قصّتي مصدر إلهام للمعلّمين، كي يبتكروا أدواتهم الخاصّة التي تناسب طلّابهم وواقعهم، ليُصبح الصفّ مساحة ممتعة ومليئة بالتحدّيات التي تُحفّز التفكير، لا مجرّد مكان للدرس التقليديّ.