دور النشاطات الشفويّة اللّاصفّيّة في تعلّم اللغة العربيّة
دور النشاطات الشفويّة اللّاصفّيّة في تعلّم اللغة العربيّة
عبدالرحمن الشولي | معلّم لغة عربيّة ومحاضر سابق في الفلسفة-لبنان/قطر

مقدّمة 

 إنّ تعلّم اللغة قائم على ممارستها في مجالات مختلفة، ونشاطات متباينة تجعل المتعلّم يستعمل لغته استعمالًا حيًّا، دون أن تكون أشكالًا وقوالب فارغةً من المعنى، لا يحتاجها المتعلّم إلّا في قاعة الدرس، ولا يستعملها إلّا في موضوعات يُطلب إليه كتابتها، وفي الاختبارات والامتحانات التي يكون مجبرًا فيها على الكتابة باللغة العربيّة. ولمّا كانت اللغة أصواتًا لا أشكالًا ورموزًا، اقتضى تعلّمها التحدّثَ أكثر من الكتابة بها، فبقدر ما يتحدّث الإنسان لغةً، تُصبح اللغة طيّعةً في التعبير عن أغراضه، لأنّها تصبح جزءًا منه، بل تغدو إيّاه. فإذا أراد أن يعبِّر عن ذاته، خرجت مكنونات الذات بألفاظ لغته التي أتقن استعمالها شفويًّا، واستساغ التحدّث بها في مواقف مختلفة. لأجل ذلك كانت المشافهة الوسيلةَ الأهمّ لتمكين المتعلِّم من استخدام لغته. 

ليس على المعلّم أن يحدّ نفسه وطلّابه في مكان واحد لتفعيل النشاطات اللغويّة؛ ذلك أنّه لو انحصرت تلك النشاطات بحيّز الصفّ لاعتقد المتعلّم أنّ استعمال اللغة يكون محصورًا في هذا المكان الدراسيّ، وأنّه ليس عليه استعمالها خارج إطاره. وهذا ما يعتقده فعلًا معظم المتعلّمين، إذ يستعملون العربيّة الفصيحة داخل الصفّ، فإذا خرجوا منه تحوّل لسانهم لسانًا عاميًّا أو أعجميًّا. وهذا لا يعني أن يبقى المتعلّم مستعمِلًا اللغةَ الفصيحة في كلّ أحداث حياته، داخل المدرسة وخارجها، بل يعني عقد النشاطات اللغويّة خارج إطار الصفوف، وخارج إطار المدرسة، في سبيل تمكين المتعلّم من استعمالها في المواقع التي توجب عليه ذلك، مثل المجالس العلميّة، والنقاشات الثقافيّة، والورش، والمؤتمرات، والمداخلات أثناء المحاضرات عمومًا، والخطابة، وعرافة الاحتفالات. لكن كيف يمكن تطويع المنهاج لإقامة نشاطات خارج الصفّ؟ وما طبيعة هذه النشاطات؟  

يمكن استغلال المنهاج من جهة المضامين، لا الأهداف، لإقامة نشاطات لغويّة خارج الصفّ نحقّق من خلالها أهدافًا أخرى غير منهجيّة، وذلك مثل استغلال مضمون نصّ لعقد مؤتمر طلّابيّ، أو استغلال تساؤل يُطرَح حول فكرة طرحها النصّ لإقامة محاضرة طلّابيّة أو مناظرة، أو تأدية قصّة في الكتاب أداءً تمثيليًّا في المسرح، أو تعزيز فكرة النصّ بإجراء مقابلات يعقدها المتعلّمون مع أصحاب الاختصاص. تلك أمثلة سأتعرّض إليها في هذا المقال وصفًا وتحليلًا، مستندًا إلى بعض التجارب التي أقمتها خلال سنين تعليمي اللغة العربيّة في مدارس مختلفة في لبنان، وقطر.

 

أوّلًا: نشاط المؤتمر الطلابيّ

من التجارب التي أقمتها في بيروت المؤتمر الطلابيّ الذي نظّمه طلّاب الصفّ الحادي عشر، وكان عنوان المؤتمر "اللغة العربيّة: مشاكل الحاضر، وحلول المستقبل". أُقيم النشاط في مسرح جامعة بيروت العربيّة. كان نشاط المؤتمر مستمدًّا من نصّ "اللغة والعصر" الذي ينتمي إلى محور "الإنسان والعلم"، فطوّعتُ مضامين هذا الدرس لأقيم نشاط المؤتمر الطلّابيّ. طلبتُ إلى مجموعة من المتعلّمين أن يبحثوا عن طبيعة المشكلات التي تواجه اللغة العربيّة في عصرنا، وإلى مجموعة أخرى أن تنظِّم المعلومات التي بُحثت، وتبتكر لها حلولًا، وإلى مجموعة ثالثة أن تلخّص المضامين التي بُحِثتْ، وإلى مجموعة رابعة أن تدرس هذه المضامين، وتحضّر نفسها لعرضها في المؤتمر، على أن يحضر المؤتمر طلّاب المرحلة الثانويّة جميعهم، ليشاركوا المؤتمِرين أفكارهم ويناقشوهم فيما يعرضونه، ويبدون التعليقات والمداخلات والملاحظات. 

حقّق هذا المؤتمر فهمًا حياتيًّا لما عرضه نصّ "اللغة والعصر" من مضامين، فلم نخرج به عن المنهاج، وفوق ذلك أسهم هذا النشاط في استعمال المتعلّم اللغة استعمالًا حيًّا، وفي زيادة ثقته بنفسه وبلغته وبقدرته على إيصال أفكاره.  

 

ثانيًا: نشاط المحاضرة الطلابيّة

أجريتُ تجربةً لعقد محاضرة طلّابيّة مع طلّاب الصفّ الثاني عشر فرع الاقتصاد والاجتماع في مدرسة في بيروت، ضمن محور "الأدب وقضايا المجتمع المعاصر"، فاختار المتعلّمون قضيّةً من مجتمعنا المعاصر، ألا وهي "التلوّث الفكريّ والسلوكيّ"، فكُلّف متعلّم بالبحث عن المضامين، وكُلّف آخر بتلخيص ما بُحِث، وكُلّف ثالث بتنظيم ما لُخّص وتصنيفه ضمن عناوين، وكُلّف رابع بإرفاق الأفكار التي بُحِثت بالصور والرسومات البيانيّة والفيديوهات، ووضعها في ملف "بوربوينت"، ثمّ وُزّعتْ أدوار العرض بين المتعلّمين، وألقوا محاضرتهم أمام طلّاب المرحلة الثانويّة في قاعة المدرسة.  

ممّا حقّقته هذه المحاضرة للمتعلّمين زيادة الثقة بالنفس، وتقدير دور المعلّم، إذ إنّهم لعبوا في هذا النشاط دوره، وأقاموا نقاشًا مع الحاضرين، وتلقّوا أسئلةً لم يجدوا جوابًا لها، الأمر الذي دفعهم إلى مزيد من البحث. فعقد المحاضرة عزّز لدى المتعلّم قيمة المسؤوليّة، وصفات الباحث في شخصيّته، فضلًا عن اكتسابه من خلالها مزيدًا من المعارف المضافة إلى ما عرفه ضمن المنهاج.  

 

ثالثًا: نشاط المناظرة الطلابيّة

المناظرة نشاط يُقام بين فريقين، تُطرَح عليهما جملة قضيّة تحتمل موقفين، يكون فريق مؤيّدًا للجملة، وآخر معارِضًا لها، فيتناظر الفريقان، ويدلي كلّ فريق بحججه. أقمتُ هذا النشاط مع طلّاب الصفّ الثاني عشر فرع العلوم العامّة وعلوم الحياة في مدرسة في صيدا، ضمن محور "الإنسان واستشراف المستقبل"، في نصّ "حول مفهوم التقدّم ودلالاته". جرت المناظرة في مسرح المدرسة.

طرحتُ على المتعلّمين المسألة الآتية "التقدّم محصور بالتطوّر التكنولوجيّ، فكلّما تطوّر المجتمع تقنيًّا اكتسب ميزة التقدّم"، وجعلتُ المتعلّمين ضمن فريقين، كلّ فريق مؤلَّف من ثلاثة طلّاب، فريق كُلّف بتأييد المسألة وإثباتها، والآخر كُلّف بمعارضة المسألة وتفنيدها. مُنح كلّ فريق ربع ساعة لمناقشة المسألة ووضع الأدلّة التي تثبت موقفه، وبعد انتهاء وقت النقاش، تبدأ المناظرة، فيخرج المتحدّث الأوّل من فريق المولاة ويدلي بحججه، ثمّ يخرج المتحدّث الأوّل من فريق المعارضة ويفنّد ما قاله متحدّث فريق الموالاة ويدلي بحججه المخالفة، وكذلك الأمر مع المتحدّث الثاني، ثمّ الثالث. وعند الانتهاء يعلن المعلّم اسم الفريق الفائز في المناظرة.  

طبّقت نشاط المناظرة أيضًا مع طلّاب الصفّ السابع في الدوحة، ضمن محور "الصحّة النفسيّة والجسديّة". طرحتُ على المتعلّمين السؤال الآتي: "هل تعتقد أنّ الالتزام بنظام غذائيّ صارم يؤثّر سلبًا في صحّة الإنسان النفسيّة؟"، تركت خيار التأييد والمعارضة للطلّاب، فوزّعتُ لهم أوراقًا ملوّنةً، بعضها أزرق وبعضها أصفر، على أن يكتب كلّ متعلّم مؤيّد اسمه في الورقة الزرقاء وكلّ متعلّم معارض في الورقة الصفراء، ثمّ بحث المؤيّدون عن أدلّة وحجج تثبت موقفهم، وبحث المعارضون أيضًا عن أدلّة وحجج تثبت موقفهم. ناقش المتعلّمون ما بحثوه ضمن مجموعات في حصّة لاحقة وقسّموا أدوار المتحدّثين وطبيعة الحجج التي سيدلي بها كلّ متحدّث منهم، ثمّ انعقد نشاط المناظرة في حصّة الأسبوع الذي يليه في مسرح المدرسة، وأدلى كلّ فريق برأيه وحاول إقناع الفريق الآخر بذلك. 

تعزّز المناظرة عند المتعلّم قدرته على إثبات رأيه في مسألة، وعلى نقد آراء الآخرين، فيكون بذلك وظّفَ النمط البرهانيّ توظيفًا لغويًّا حياتيًّا. فضلًا عن تعزيز مهارة الحوار والنقاش، وتعزيز قيمة الموضوعيّة واحترام الرأي الآخر، وفوق ذلك تمكّن الطالب من استنباط الأفكار، وإبداع الإجابات والحلول والردود بسرعة، الأمر الذي ينمّي لديه مهارة التعبير الشفويّ والكتابيّ على حدّ سواء. أضف إلى ذلك كلّه ما يتحقّق لدى المتعلِّم في المناظرة من ثقة بالنفس وقدراتها.  

 

رابعًا: نشاط المسرحيّة

يكون هذا النشاط تمثيلًا لقصّة وردت في الكتاب المنهجيّ، أو لموضوع محوريّ قابل لأن تُبتَكر فيه مسرحيّة. ومن الممكن أيضًا أن يقوم المتعلّم نفسه بتأليف قصّة ضمن محور "القصّة"، ويتدرّب مع زملائه على عرضها شفويًّا، مرورًا بعرض أفكاره عرضًا منظّمًا، وصولًا إلى استخدام حركات جسمه ووسائل إيضاح تساعده على التعبير عن نفسه بحريّة وطلاقة.

كنتُ قد نظّمتُ مسرحيّةً لطلّاب الصفّ العاشر في بيروت، يؤدّون فيها شخصيّات بعض الأدباء والشعراء من عصور مختلفة، تمّت دراسة نصوصهم في الكتاب، فمثّل أحد المتعلّمين شخصيّة عنترة، ولبس ثيابه، وعرض كلامًا مختصرًا يُعبّر من خلاله عن حياة عنترة وشخصيّته، وألقى شيئًا من معلّقته. ومثّل متعلّم ثانٍ شخصيّة الجاحظ، ومتعلّمة ثالثة شخصيّة الخنساء، ومتعلّم رابع شخصيّة أبي العلاء المعرّي، ومتعلّم خامس شخصيّة المتنبّي.

كلّ متعلّم كان يعرض كلامًا مختصرًا يمثّل فيه حياة العَلَم وشخصيّته، ويحفظ شيئًا من أدبه، فيلقيه على المسرح، وذلك ضمن سلسلة أحداث يغلب عليها طابع الكوميديا، إذ تسأل مدرّسة ثلاثة طلّاب عن أعلام اللغة العربيّة فلا يعرفون منهم أحدًا، فتطلب إليهم الذهاب إلى المكتبة من أجل البحث عن الأعلام، فيدخل المتعلّمون الثلاثة إلى المسرح المصمّم على شكل مكتبة أو كتاب عملاق، فيلتقون بهؤلاء الشخصيّات، شخصيّةً تلو الأخرى. أسمينا المسرحيّة "من أعلام العربيّة"، وحضرها طلّاب المدرسة كلُّهم. وقد كرّرتُ التجربة ذاتها مع طلّاب من صفوف مختلفة في المرحلة الثانويّة في الدوحة، حيث أدّى الطلّاب أدوارهم من الشخصيّات المذكورة في المسرحيّة السابقة في مشهد مسرحيّ رائع أمام الأساتذة والطلّاب ضمن نشاطات يوم اللغة العربيّة.  

عزّزت هذه المسرحيّة لدى المتعلّمين الثقة بالنفس، وأضافت للحاضرين معارف عن بعض أعلام العربيّة وقيمة أدبهم، بأسلوب فكاهيّ مَرِح، قريب من حياتهم وفكرهم وميولهم.  

 

خامسًا: نشاط عرافة الاحتفالات 

قد يبدو هذا النشاط بعيدًا عن المنهاج، غير أنّ بعض المحاور والنصوص، تطرَح موضوعاتٍ لمناسبات شهيرة تقيم المدارس لها الاحتفالات، مثل يوم الأرض في فلسطين، أو عيد الاستقلال في لبنان، أو اليوم الوطنيّ في قطر، إذ يُكلَّف المتعلّم بأن يكون عريفَ حفل هذا اليوم، فيكتب كلمة الافتتاح، ويقدّم الكلمات والعروض التي يؤدّيها الأساتذة والمتعلّمون. ويدرج المتعلّم "عريف الحفل" في كلماته بعضًا ممّا درسه في محور الكتاب ونصوصه، وهو بذلك يعزّز مضامين الدرس ومخرجاته، ويستخدمه في موقف حياتيّ، ونشاط لغويّ. وكنتُ قد كلّفتُ طالبًا من الصفّ العاشر في بيروت أن يكون عريف حفل ذكرى النكبة، بوصفه نشاطًا لغويًّا مستمدًّا من محور "التحرّر والتحرير". فكانت عرافة حفل ذكرى النكبة مستفادةً من هذا المحور الموجود في المنهاج. 

 

خاتمة

بناءً على هذه الأمثلة التجريبيّة التي أقمتها في أكثر من مدرسة في لبنان، وفي قطر، يتبيّن لنا أهميّة عقد النشاطات اللغويّة الشفويّة خارج الصفّ، أو خارج المدرسة في تعزيز دور المتعلّم في العمليّة التربويّة، وفي إحياء اللغة المستعملة في الصفّ في حياة المتعلّم الخارجيّة، إذ إنّ هذا النوع من النشاطات يجعل المتعلّم مدرِكًا أهمّيّةَ استعمال العربيّة الفصيحة في مواقف حياتيّة، ممّا يدفعه إلى الإقبال على تعلّمها بشغف وحماس. ويتبيّن لنا أنّ المناهج الدراسيّة قابلة لأن تحقّق أهدافًا حياتيّة للمتعلّم، إذا ما أحسن المعلّم استغلالها، واستطاع أن يستنبط منها نشاطات جمّةً متنوّعةً، ليعزّز من خلالها لغة الطلّاب وشخصيّتهم اللغويّة، وأنّ المعلّم قادر على تحويل معلومات جامدة في الكتاب إلى لعبة، أو احتفال، أو رحلة، أو مسرحيّة، أو مؤتمر، أو أيّ نشاط يُخرج المتعلّم من عالم الكتاب المدرسيّ إلى عالم الحياة الاجتماعيّة، فيغدو للغة بذلك معنى وقيمةٌ في حياة المتعلِّم وحاضره.