تزاوج الكتابَين المدرسيّ والرقميّ في عصر الذكاء الاصطناعيّ
تزاوج الكتابَين المدرسيّ والرقميّ في عصر الذكاء الاصطناعيّ
رشا عطوة القدومي | اختصاصيّة تصميم وتطوير تجارب تعليميّة رقميّة - الأردن

نحن لا نتعامل اليوم مع جيل رقميّ فحسب، بل مع جيل وُلِد في بيئة تفاعليّة تقودها خوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ، وتغذّيها أدوات المحاكاة. هذا الجيل لم يعتد النماذج التعليميّة التقليديّة القائمة على التلقين؛ بل يعيد تشكيل المعرفة، ويتوقّع أن تواكب العمليّة التعليميّة فضوله وسرعة تعلّمه. في المقابل، لا يمكن إغفال الدور الجوهريّ الذي ما يزال يؤدّيه الكتاب المدرسيّ الورقيّ، بوصفه مرجعًا معرفيًّا موثوقًا ومنظّمًا، يضمن عدالة الوصول إلى المحتوى لجميع المتعلّمين. فهل يمكن التوفيق بين الثبات الذي يمثّله الكتاب الورقيّ، والانفتاح الذي تتيحه الوسائط الرقميّة؟  

 

الكتاب المدرسيّ: مرجعيّة منظّمة وسط زخم رقميّ متزايد 

في ظلّ التوسّع السريع للمصادر الرقميّة وتنوّعها، تظهر الحاجة الماسّة إلى مرجعيّة معرفيّة ثابتة تحصّن المتعلّم من التشتّت والتكرار والتضليل. وهنا يحتفظ الكتاب الورقيّ بمكانته بوصفه مصدرًا منضبطًا، يوفّر بنية معرفيّة موحّدة، ويحقّق التناسق المطلوب في العمليّة التعليميّة. ولكنّ النظر إلى الكتاب الورقيّ على أنّه نقيض للتقنية أو بديل، يُعدّ رؤية قاصرة؛ فالأجدى أن نراه عنصرًا مكمّلًا في بيئة تعليميّة هجينة تجمع بين الثبات والانفتاح. 

 

التزاوج بين الورقيّ والرقميّ: مقاربة تربويّة معاصرة 

لم يعد مقبولًا أن يُبنى التعليم على مصدر واحد. ففي ضوء التحوّلات العميقة في أنماط التعلّم المعرفيّ والسلوكيّ لدى المتعلّمين، تتطلّب البيئات التعليميّة اليوم نموذجًا هجينًا، يستثمر الأدوات الرقميّة لإعادة تقديم المفاهيم بطريقة مرنة وتفاعليّة، مع الحفاظ في الوقت ذاته على الاتّساق التربويّ الذي يوفّره الكتاب المدرسيّ. هذا التزاوج يحقّق فوائد ملموسة لجميع أطراف العمليّة التعليميّة: 

  • - المتعلّم: يعيش خبرة تعلّم غنيّة تحفّز حواسه وفضوله، وتراعي أنماطه الإدراكيّة. 
  • - المعلّم: يكتسب أدوات إضافيّة للتخطيط والتقييم، تتيح له تخصيص الشرح بما يناسب الفروق الفرديّة. 
  • - البيئة التعليميّة: تتحوّل إلى مساحة ديناميكيّة داعمة للتعلّم النشط ومرتبطة بالواقع. 

 

من الفكرة إلى التطبيق: أمثلة تطبيقيّة على التزاوج بين الكتاب المدرسيّ والكتاب الرقميّ التفاعليّ في العمليّة التربويّة 

مثال 1: العلوم – الصفّ الثاني – درس "الشمس مصدرًا للضوء والحرارة" 

لتحقيق الدمج الفاعل لا يكفي التنظير، بل لا بدّ من تقديم نماذج تطبيقيّة توضّح كيف يمكن توظيف الكتابَين الورقيّ والرقميّ معًا. 

  • - يبدأ المعلّم بتحضير أهداف الدرس اعتمادًا على الكتاب المدرسيّ الذي يقدّم المفاهيم (مثل الحرارة والضوء والنجم) ضمن تنظيم لغويّ وبصريّ مبسّط. 
  • - يُعرض مشهد متحرّك تفاعليّ من الكتاب الرقميّ، يُظهر الشمس ترسل ضوءًا وحرارة إلى الأرض، مصحوبًا بتعليق صوتيّ تفاعليّ يستهدف تحفيز الإدراك السمعيّ والبصريّ. 
  • - ينتقل الطلبة إلى نشاط في الكتاب المدرسيّ، يرسمون فيه الشمس ويكتبون أسفلها جملة قصيرة (مثل: "الشمس نجم يمدّنا بالضوء والدفء")، ما يعزّز المهارات الكتابيّة والتعبير العلميّ. 
  • - يُنفّذ نشاط تفاعليّ داخل الكتاب الرقميّ، بتركيب صورة الشمس وسحبها إلى مشهد لسماء معتمة، وعند إفلات الشمس يتحوّل المشهد إلى سماء في النهار. 
  • - في نهاية الحصّة، يُصمّم التقييم التفاعليّ الرقميّ بحيث يُظهر مدى إنجاز الطالب للمهامّ، مثل ترتيب العناصر أو اختيار المفهوم الصحيح، وترسل النتيجة تلقائيًّا إلى المعلّم، مع استخدام تقييم كتابيّ في الكتاب المدرسيّ لتحفيز الكتابة العلميّة المبكّرة. 
  • - نشاط منزليّ: لعبة رقميّة تتيح للطفل إعادة ترتيب مشاهد توضّح دور الشمس، ما يوفّر مراجعة مرنة وشخصيّة. 
  • - التقييم النهائيّ في نهاية الوحدة: في ختام وحدة "الفضاء"، يُعتمد أسلوب تقييميّ تكامليّ يجمع بين الرقميّ والورقيّ، لتقديم صورة شاملة عن مدى تحقّق نواتج التعلّم. يُشكّل درس "الشمس كمصدر للضوء والحرارة" محورًا تطبيقيًّا في هذا التقييم. 

رقميًّا: يخوض الطالب تجربة تفاعليّة بواسطة لعبة مغامرة في الفضاء، يجيب فيها عن أسئلة تتعلّق بوظائف الشمس، ويُكمل محاكاة تفاعليّة تُظهر أثر غيابها. تُجمع بيانات الأداء تلقائيًّا وتحلّل آليًّا.  

ورقيًّا: ينجز الطالب مخطّطًا مفاهيميًّا يوضّح فوائد الشمس، ويكتب فقرة علميّة قصيرة بعنوان "يوم من دون شمس"، لقياس الفهم والتحليل والتعبير.  

يوفّر هذا التزاوج مؤشّرات كمّيّة ونوعيّة تُظهر فهم الطالب ضمن السياق الكلّيّ للوحدة، ويربط بين الاستكشاف الرقميّ والتعبير الكتابيّ، ما يجعل التقييم أكثر عدالة وعمقًا. 

 

مثال 2: الرياضيّات – الصفّ السادس – درس "النسبة المئويّة" 

  • - يبدأ الدرس بالكتاب المدرسيّ الذي يُعرّف النسبة المئويّة، ويعرض مفاهيمها الأساسيّة بتحويل الكسور إلى نسب مئويّة ضمن مسائل منطقيّة ومألوفة. 
  • - يُنفّذ لاحقًا نشاط تطبيقيّ رقميّ يحاكي موقفًا حياتيًّا (الشراء من متجر إلكترونيّ)، فيُطلب من الطالب حساب الخصم على منتج، فيختار القيم ويُدخل النسبة المطلوبة، ويحسب السعر بعد الخصم. 
  • - التقييم يتمّ تلقائيًّا داخل النظام الرقميّ، ويُظهر عدد المحاولات وسرعة الأداء، ما يساعد المعلّم في اتّخاذ قرارات دقيقة حول حاجة الطالب إلى الدعم أو التوسّع. 
  • - يُختبر فهم الطالب بنشاط ختاميّ في الكتاب الورقيّ، يحلّ فيه مسألة مشابهة ويشرح خطواته كتابةً، ما يعزّز التفكير التحليليّ والقدرة على الشرح. 
  • - نشاط منزليّ: لعبة رقميّة قصيرة تتطلّب حساب نسب خصم في مواقف متنوّعة، تُرسل نتائجها تلقائيًّا، وتُستخدم مؤشّرًا تقويميًّا غير مباشر. 
  • - التقييم النهائيّ في نهاية وحدة: "الكسور والنسب" يُدمج درس "النسبة المئويّة" في نهاية وحدة "الكسور والنسب" ضمن تقييم تكامليّ، يجمع بين التحليل الرقميّ والتطبيق الكتابيّ.

رقميًّا: يتفاعل الطالب مع بيانات تصويت افتراضيّة، ويُطلب منه حساب النسب المئويّة وتمثيلها بيانيًّا. وتُرسل النتائج تلقائيًّا إلى المعلّم.

ورقيًّا: يحلّ الطالب مسألة مشابهة تتضمّن جدول بيانات، ويكتب تحليله لنتائج التصويت. هذا التزاوج يُمكّن من تقييم الفهم المفاهيميّ والتطبيق العمليّ معًا، ويُظهر قدرة الطالب على استخدام النسب المئويّة في مواقف تحليليّة حياتيّة. 

 

مثال 3: اللغة العربيّة – الصفّ التاسع – درس تحليل نصّ أدبيّ 

يقرأ المعلّم النصّ من الكتاب المدرسيّ، مع التركيز على المفردات الأساسيّة والمعاني الأسلوبيّة، ثمّ يوجّه النقاش نحو مواقف النصّ الشعوريّة. 

  • - يُعرض النصّ نفسه داخل الكتاب الرقميّ بصيغة تفاعليّة، تُظهر رموزًا فوق السطور تكشف شرحًا لغويًّا أو سؤالًا تفكيريًّا عند النقر. 
  • - يُطلب من كلّ طالب اختيار جملة أثّرت فيه وكتابة تعليق رقميّ حولها، ما يمنحه مساحة فرديّة للتعبير، ويعزّز استقلاليّة الرأي. 
  • - يُكلّف الطلّاب بتحليل فقرة إنشائيًّا في هامش الكتاب الورقيّ، مع مراعاة بنية الفكرة وسلامة اللغة ودقّة المفردات. 
  • - يرصد النظام الرقميّ عدد المشاركات وجودة التفاعل مع النصّ، ما يوفّر مؤشّرات حول الفهم العميق وقدرة الطالب على الربط. 
  • - نشاط منزليّ تفاعليّ: قراءة قصيدة قصيرة داخل الكتاب الرقميّ، تتبعها مجموعة أسئلة اختياريّة في البلاغة والمعنى، وتُرسل الإجابات مباشرة إلى المعلّم لمراجعتها لاحقًا. 
  • - التقييم النهائيّ لوحدة "النصوص الأدبيّة" في نهاية وحدة "النصوص الأدبيّة": يُوظّف درس "تحليل نصّ أدبيّ" ضمن تقييم تكامليّ، يُظهر قدرة الطالب على الفهم والتحليل والتعبير النقديّ.  

رقميًّا: يقرأ الطالب نصًّا أدبيًّا تفاعليًّا على المنصّة، تظهر فيه رموز شرح وسؤال عند التفاعل، ويُطلب منه تسجيل تعليق صوتيّ أو كتابة رأي نقديّ في مقطع أثّر فيه.  

ورقيًّا: يُكلّف الطالب بتحليل فقرة إنشائيًّا في الكتاب المدرسيّ، مع الالتزام بعناصر البناء الأدبيّ والدقّة اللغويّة. يُبرز هذا التزاوج قدرة الطالب على التفاعل الفوريّ والانطباعيّ رقميًّا، والتحليل العميق والمنظّم ورقيًّا، ما يوفّر تقييمًا شاملًا للتذوّق الأدبيّ والمهارات التعبيريّة. 

 

تعليم متوازن يحفظ الثوابت ويواكب التحوّلات 

ليس التزاوج بين الكتابَين المدرسيّ الورقيّ والرقميّ خيارًا تجميليًّا، بل ضرورة تربويّة تُمليها تحوّلات أنماط التعلّم وتنوّع الحاجات الإدراكيّة لدى المتعلّمين. بيئة التعلّم المعاصرة مطالبة بأن تخلق توازنًا رشيدًا بين المرجعيّة الثابتة للكتاب، وحيويّة الوسائط الرقميّة. وعندما يتكامل المصدران ضمن تخطيط تربويّ دقيق، تصبح الحصّة الصفّيّة أكثر واقعيّة، والتعلّم أكثر مرونة وعمقًا، والتقييم أكثر عدالة وفاعليّة. وبهذا، لا نخسر أدوات العصر، ولا نفقد جذورنا التعليميّة.