تحدّيات ومخاوف حول التنشئة الاجتماعيّة بين التعليم الحضوريّ والتعليم عن بعد
تحدّيات ومخاوف حول التنشئة الاجتماعيّة بين التعليم الحضوريّ والتعليم عن بعد
سها نصر الله | معلّمة وباحثة في تربية الطفل - فلسطين

لمرحلة الطفولة أهمّيّة بالغة وخصوصيّة مميّزة، لأنّها المرحلة التي تتشكّل فيها الخبرات الأولى، إذ يُعَدّ فيها الطفل ليستقبل مراحل عمره التالية بإدراك قويّ، وبعقليّة ناضجة. يشير مفهوم الطفولة هنا إلى المرحلة المبكّرة من حياة الإنسان التي يعتمد فيها على الآخرين المحيطين به، فيستجيب لعمليّات التفاعل الاجتماعيّ التي تدور حوله، ويتزوّد خلالها بالعادات، والتقاليد، والقيم، والمعايير، وأساليب التفكير (عفيفي، 1993). فما أثر الظروف الراهنة التي فرضت التعليم عن بعد على التنشئة الاجتماعية للأطفال؟ تظهر مخاوف واضحة حول هذا لدى ذوي الاختصاص، وهذا المقال يحاول الإجابة عن السؤال حول الجوانب الإيجابيّة والسلبيّة للتعليم الحضوريّ والتعليم عن بعد في التنشئة الاجتماعيّة للأطفال.

 

التنشئة الاجتماعية للأطفال في التعليم الحضوريّ

تشير مجموعة واسعة من البحوث التي أُجريت في مجالات متعدّدة مثل علم نفس النموّ، وعلم الاجتماع، وعلم التربية إلى التأثير الواضح لمرحلة الطفولة في تشكيل القدرات الذهنيّة، واكتساب السلوك الاجتماعيّ. وللسنوات الثمانية الأولى دورها الفعّال في هذا، نظرًا لتأثيراتها التي تستمرّ طيلة حياة الطفل، إذ لا يقتصر التعلّم على سنّ معيّنة أو على البيئة الدراسيّة الرسميّة. إنّ قدرة الطفل على التعلّم تبدأ لحظة ولادته، ومنذ ذلك الحين يبدأ إدماج الطفل في الإطار الثقافيّ للمجتمع عن طريق توريثه أساليب التفكير والمعتقدات والعادات والتقاليد السائدة، وما يرتبط بها من أنماط سلوكيّة حتى تصير من مكوّنات شخصيّته فيما يعرف بالتنشئة الاجتماعيّة (الفنيش، 2004).

بناءً على ذلك، فإنّ أولياء الأمور والمعلّمين بحاجة إلى اكتساب المعرفة والمهارات اللازمة لتوفير بيئة مناسبة للتعليم المبكّر، والتفاعل مع الطفل، وينبغي عليهم أيضًا أن يكونوا على دراية تامّة بالمؤشّرات التي تنذر بتعثّر الطفل نمائيًّا.

ولمّا كان الأطفال يكتسبون السلوك الاجتماعيّ بمحاكاة المقرّبين إليهم مثل أعضاء الأسرة والمعلّمين، كانت المدرسة من أهمّ العوامل التي تساهم في دمج الفرد في المجتمع، وهي المؤسّسة القادرة على توفير الفرص الكافية لإكساب تلاميذها الخبرات التعليميّة، والكشف عن ميولهم واستعداداتهم للمهن التي تناسبهم. بهذا، أصبحت المدرسة قوّةً اجتماعيّةً موجّهةً تعمل على بناء الشخصيّة السويّة، وتهيئة الطفل لمواجهة تحدّيات الحياة الاجتماعيّة (أبو جلالة، 2001).  

في إطار "التقارب الاجتماعيّ"، يمهّد التعليم الحضوريّ للتنشئة الاجتماعيّة عبر المناهج التعليميّة، والتفاعل مع الآخرين، الذي يُعدّ مهمًّا لإكساب الطفل المهارات الاجتماعيّة التي يحتاجها، إذ إنّ وضع الأطفال في مجموعات من نفس عمره ينمّي مهاراته الاجتماعيّة كالاتّصال الفعّال مع الآخرين، الذي يشمل تحيّة الآخرين وتقديرهم واحترامهم وحسن التحدّث والاستماع، والقدرة على إدراك الإشارات الكلاميّة وغير الكلاميّة، وتفسيرها، وتوجيه النزاعات إيجابيًّا، ويدرك بذلك الأطفال معنى العمل التطوعيّ وأهمّيّة العمل الإنسانيّ، بما يشمل مساعدة الضعفاء، و يتعلّمون أسس الأخلاق والمسؤوليّة الاجتماعيّة التي تساعدهم على أداء أدوارهم المستقبليّة المطلوبة، وهي كأيّ بيئة اجتماعيّة قد تسهم في إعادة إنتاج بعض السلوكيّات السيّئة.

 

هل المدرسة هي دائمًا أفضل مكان للتنشئة الاجتماعيّة؟

لدى مشاهدة الاتّصال في ساحة المدرسة أو الصفوف، يطفو السؤال عن نوعيّة المهارات الاجتماعيّة التي يكتسبها الأطفال في هذا السياق. ثمّة اعتقاد بأنّ الأطفال يعلّمون بعضهم بعضًا السلوكيّات الاجتماعيّة، وردود الفعل المقبولة اجتماعيًّا، لكن الواقع أنّهم ليسوا قادرين على تقديم ما يحتاجونه في هذا المجال لبعضهم.

تحكي والدة الطفلة (ليان)، وهي طالبة في الصفّ الثاني الابتدائيّ، عن أنّها تعاني من ترديد ابنتها لبعض الألفاظ، ومن بعض تصرّفاتها التي تصفها بالسيّئة، وأنّها قد اضطرّت عدّة مرّات إلى تغيير صفّ ابنتها، ومع حرصها أجبرت البيئة المدرسيّة _على حدّ وصفها_ ابنتها على اكتساب هذه السلوكيّات.

غالبًا ما تكون التنشئة الاجتماعيّة السلبيّة في المدارس مدمٍّرة، وتتطلّب من الوالدين بذل الكثير من الجهد والوقت لتعديل سلوكيّات أبنائهم بعد التعرّض لهذه البيئة فترةً طويلةً، ومن نماذج هذه المهارات الاجتماعيّة السلبيّة: المضايقات، النميمة، الوقاحة...

الاختلاط بالأقران ليس بالضرورة أن يجعل الطفل راضيًا عن نفسه، بل قد يجعله معتمدًا على الآخرين في اتّخاذ قراراته، كما يحفزّه على تعلّم أساليب التلاعب السياسيّة ليحظى بالقَبول.

على النقيض أيضًا، يمكن أن يكون وضع الطفل في فصله الدراسيّ أفضل اجتماعيًّا، إذا وُجد المعلّم الكفؤ، غير أنّ الكثافة الطلّابيّة في الفصول، والانشغال التامّ بما هو مطلوب من واجبات ومهمّات عادةً ما يقلّل حجم تفاعل المعلّم الاجتماعيّ داخل الصفّ. هكذا أفقد نظام التعليم المعلّم دورَ المرشد الاجتماعيّ، فتراجع دوره في عمليّة التنشئة الاجتماعيّة، وتراجعت هي الأخرى لصالح الحرص على الحصول على علامات جيّدة في الاختبارات.

 

التنشئة الاجتماعيّة في التعليم عن بعد

منذ إعلان حالة الطوارئ في فلسطين، تغيّر نمط الحياة إلى ضرورة "التباعد الاجتماعيّ"، ممّا أدّى إلى الاعتماد المكثّف على توظيف الوسائط التقنيّة الحديثة للتعويض عن ذلك، وقدّم التعليم الإلكترونيّ عن بُعد حلولًا جزئيّةً للتخفيف من آثار "التباعد الاجتماعيّ". تمثّلت الحلول بنشر الإرشادات المكتوبة، والفيديوهات، وبرامج المحاكاة التي تُدَرّب الطلّاب على تنظيم الوقت، والانضباط، والتركيز، والعمل الجماعيّ عن بُعد. لقد شكّل التطوّر المتسارع في تقنيّات التعليم عن بعد أساس ثورة التعليم التي نعيشها الآن، وكباقي الثورات ستوفّر ثورة التعليم حلولًا للعديد من الإشكاليّات، لكنّها ستخلق أيضًا قضايا جديدةً تشغل العالم، أهمّها تلك المتعلّقة بمرحلة الطفولة: هل يلائم التعليم عن بعد الخصائص النمائيّة للأطفال في هذه المرحلة؟ هل يوفّر التعليم عن بعد التنشئة الاجتماعيّة المناسبة للأطفال؟ كيف سيكتسب الطفل القيم والمهارات اللازمة للانخراط في الحياة المجتمعيّة؟ ما هي الجوانب الإيجابيّة والسلبيّة للتعلّم عن بعد في التنشئة الاجتماعيّة للأطفال؟

إنّ التربية الاجتماعيّة عبر التعليم عن بعد تشجّع الأبوين على منح الطفل شعورًا بالأمان والثقة بالنفس في المواقف المتعدّدة، والأطفال في التعليم عن بعد يحصلون على بعض الاستقلاليّة ويتواصلون مع الآخرين بثقة، ولا يخضعون لضغط أقرانهم بسهولة، وسيتعلَّم الأطفال من عائلاتهم والمحيطين بهم كيفيّة التصرُّف والتفاعل في البيئات الاجتماعيّة، وهو ما قد يسمح لهم أن يصبحوا اجتماعيّين بصورة سويّة.

يروي والد الطالب (محمد) أنّ ابنه كان يرفض الذهاب إلى المدرسة بسبب تنمّر أقرانه عليه لارتدائه النظّارة، وأنّه في التعليم عن بعد كان أكثر جرأةً. لقد أتاح له الفضاء الإلكترونيّ، والحماية الوالديّة نوعًا من الشجاعة في التعبير عن نفسه والتواصل مع أقرانه، ما سهّل عليه الانخراط معهم في الأنشطة. أمّا في نموذج التعليم المدرسيّ التقليديّ، فالأمور مختلفة تمامًا، إذ ثمّة قدر قليل جدًّا من الحريّة للأطفال الحاضرين، وينبغي على الأطفال اتّباع التعليمات، وطلب الإذن قبل التحرُّك أو التحدُّث، أو الوقوف في الصفّ، وهو ما يدعى تكييفًا أو تنميطًا، لا تنشئةً اجتماعيّةً.

 

هل يزيد التعلّم عن بعد الفروقات الفرديّة الاجتماعيّة لدى الأطفال؟

ليس لدى كلّ الآباء الإمكانيّة، أو الاستعداد النفسيّ لإشراك أطفالهم في أنشطةٍ اجتماعيّة متنوّعة ومتابعتهم خلالها، إذ أشارت الدراسات على مرّ السنين إلى تداعيات إضافيّةً للتباينات الاجتماعيّة والاقتصاديّة على قدرات الطلّاب. ربّما تستطيع المدرسة تضييق هذه الفجوات إلى حدٍّ ما، بينما في غياب التعليم الحضوريّ ستزداد الفجوات عمقًا، ويكون الضرر أكبر على الأطفال في الصفوف الدنيا، فيؤثّر ذلك في القدرات الأكاديميّة والعاطفيّة في السنوات اللاحقة.

وهذا ما أشارت إليه دراسة (الصميدعي، 2017)، إذ تبيّن أنّ الظروف والملابسات المحيطة بالطفل تؤثّر فيه تأثيرًا كبيرًا بطريقة مقصودة أو غير مقصودة، كما أكدّت نسبة كبيرة من المعلّمين على وجود فارق بين الأطفال على المستويين العاطفيّ والأكاديميّ، يعود إلى التباين في المستويات الخاصّة بالتعليم، والحالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة للوالدين.

وبرغم وجود بعض العائلات غير المؤهّلة لتقديم مهارات اجتماعيّة معيّنة لم يتعلّموها هم أنفسهم، فإنّ أولياء الأمور، مع التطوّر والاطّلاع على نماذج تنشئة اجتماعيّة جيّدة، يمكنهم تقديم الكثير لأبنائهم. هذا ما أكّده أولياء أمور بعد تجربتهم في التعليم عن بعد.

 

أخيرًا، نرى أنّ للتعليم الحضوريّ، والتعليم عن بعد مميّزاتهما، ولا يمكننا بما لدينا من معرفة الجزم بأفضليّة التعليم الحضوريّ على التعليم عن بعد في ما يخصّ التنشئة الاجتماعيّة للأطفال أو العكس. إنّ أفضل نموذج للتنشئة الاجتماعية هو ما يكون للأطفال فيه قدوة ناضجة تتواصل معهم باهتمام، إذ تجسّد هذه القدوات نموذجًا للطفل يعلّمه التفاعل السليم مع الآخرين، فيكتسب مهارات الاتّصال الفعّال، بالإضافة إلى القدرة على التعبير عن رأيه بثقة، وحلّ المشكلات بفاعليّة، سواءً كانت هذه القدوة الوالدين والأسرة، أو المعلّمين في المدرسة، فالطفل كائن اجتماعيّ، يمكن تشكيله وقولبته، وتبقى التنشئة الاجتماعيّة للأطفال محورًا مهمًّا يدعو إلى البحث والتمحيص في انعكاس تأثيره المباشر، وغير المباشر على بناء جيل سويّ فعّال يحقّق تطلّعات الأمّة.

 

المراجع

- أبو جلالة، صبحي والعبادي، محمد. (2001). أصول التربية بين الأصالة والمعاصرة. مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع.

- الصميدعي، منيرة. (2017). أثر البيئة في التنشئة الاجتماعيّة للطفل (الأسرة أنموذجًا) دراسة نظريّة. مجلّة كلّيّة التربية للبنات للعلوم الإنسانيّة، (20)، 389-412.

- الفنيش، أحمد. (2004). أصول التربية(الطبعة الثالثة). دار الكتاب الجديد المتحدّة.

- عفيفي، عبد الخالق. (1993). الأسرة والطفولة: النظريّة والتطبيق. مكتبة عين شمس.