بين الفاقد التعلّميّ والفاقد الاجتماعيّ العاطفيّ
بين الفاقد التعلّميّ والفاقد الاجتماعيّ العاطفيّ
وحيد جبران | خبير في شؤون التعليم والتدريب -فلسطين

مقدّمة

أدّت إجراءات الحجر الصحّيّ التي شهدها العالم في ظلّ جائحة كورونا في العامين الدراسيّين الأخيرين، وما رافقها من اضطراب، إلى إغلاق المدارس لفترات طويلة، سواءً أكانت الفترات مستمرّة أم متقطّعة، واللجوء إلى بدائل تعليميّة مثل التعليم عن بعد في معظم الدول. رافق ذلك بعض مظاهر العزلة الاجتماعيّة لدى الأطفال، وتزايد مشاعر الخوف والقلق من الواقع والمستقبل المجهول.

لوحظ أنّه كثيرًا ما تركّز الاهتمام على الجانب المعرفيّ في عمليّة التعليم عن بعد، أو في التعليم الوجاهيّ بعد تراجع حدّة الأزمة، من أجل تعويض الطلّاب ما فاتهم من معارف. في حين لم ينل الجانبين الاجتماعيّ والعاطفيّ الاهتمامُ المناسب، وكان ذلك موضع انتقاد الكثيرين، إذ إنّ عدم الاهتمام بالجوانب النفسيّة والمهارات الاجتماعيّة للمتعلّم، التي تشكّل جزءًا أساسيًّا من شخصيّته، من شأنه أن يفقد العمليّة التعليميّة شيئًا من قيمتها التربويّة.

من جهة أخرى، قد يؤدّي الاضطراب في التعليم إلى ظهور أساليب تربويّة إبداعيّة عظيمة، وإلى تحقيق بعض الإصلاحات في العمليّة التعليميّة. لذلك، هناك من يدعو إلى تجنّب المبالغة في الحديث عن الآثار السلبيّة، وعدم تجاهل بروز أشكال جديدة من التعلّم. بالإضافة إلى أنّ الاضطراب الحاصل قد ألمح إلى الحاجة الماسّة إلى تقعيد بيانات دقيقة يمكن الاعتماد عليها في الاستجابة لحالات الطوارئ ومتابعة مآلاتها، وفي إعداد الاستراتيجيّات التي تسهم في التخفيف من حدّة الأضرار وتجاوزها.

نركّز في هذا المقال على العلاقة القائمة بين الفاقد التعلّميّ والفاقد الاجتماعيّ العاطفيّ في ما يتّصل بعمليّة التعلّم، ولذلك، نبدأ بتوضيح المفهوم الأوّل بالاستناد إلى بعض الآراء حوله، مع الإشارة إلى جوانبه، ثمّ نبيّن أهمّيّة التعلّم الاجتماعيّ والعاطفيّ ودوره في تنمية مهارات الطلّاب، وننهي المقال بعرض مجموعة من الاستراتيجيّات التي تساعد الطلّاب على التكيّف مع الظروف الطارئة وتسهم في تعزيز شخصيّتهم التربويّة.

 

الفاقد التعلّميّ

آراءٌ حول المفهوم

ينطلق مفهوم الفاقد التعلّميّ من افتراض يقضي بأنّ ما كان ينبغي تعلّمه من معارف ومهارات واتجاهات وقيم لم يتحقّق البتّة، أو تحقّق دون المستوى المطلوب لأسباب معيّنة، وبالتالي، أصبح مصنّفًا فقدانًا للتعلّم لدى المتعلّمين. ثمّة عدّة جوانب لهذا الفاقد، فمنه ما يتعلّق بالمعارف والمهارات، ومنه ما يتعلّق بالاتجاهات والقيم التي تعدّ جانبًا مهمًّا فيه، إذ يصعب تعويض الجانب المعرفيّ والمهاراتيّ دون التعامل معه، ويصعب تجنيب المتعلّم ما قد يلحق به من أضرار في المستقبل (جبران، 2021).

بالمقابل، هناك من ينظر إلى الفاقد التعلّميّ على أنّه مجرّد تراجع في المعرفة أو المهارات الموجودة، إذ يشير المهتمّون بإصلاح التعليم إلى الفجوات التعلّميّة الناتجة عن اختلاف المكان الذي يوجد فيه الطلّاب أثناء تعلّمهم عن المكان الذي يجب أن يكونوا فيه، وهناك من يسلّط الضوء على الفاقد التعلّميّ الذي يحدث في نظام تعليميّ لا تتوافر فيه الإمكانات الكاملة (Lorié, 2020). كما يمكن أن يُعرَّف الفاقد التعلّميّ بأنّه تراجع مستوى التعلّم لدى الطلّاب، أـو تراجع مستوى التقدّم في عمليّة تعلّمهم، مقارنةً بما كان عليه في عام دراسيّ سابق سار على ما يرام (UNESCO et al., 2021).

 

التفاعل السلبيّ مع الفاقد التعلّميّ

دعا الباحثان Strauss وGabriel (2021) إلى عدم المبالغة في تقدير الاضطراب الناتج عن جائحة كورونا، وإلى التوقّف عن إخبار الأطفال بأنّهم تخلّفوا عن الركب وعليهم اللحاق به، حيث إنّ اللحاق بالركب يعدّ سببًا ضعيفًا للتعلّم، ونادرًا ما تشكّل الحوافز العلاجيّة سياقات لممارسة هادفة. كما أشارا إلى أنّ الأطفال يتعلّمون بشكل أفضل عندما يؤمن الكبار بقدرتهم على التعلّم، فيخلقون لهم الأسباب والفرص الملائمة لذلك.

أمّا Frye (2021) فيعتقد أنّه انطلاقًا من اعتبار رفاهية الأطفال وصحّتهم النفسيّة من أولى الاهتمامات التربويّة، كان من المتوقّع أن تركّز جهود نظام التعليم على زيادة خدمات الصحّة النفسيّة، وإدماج الأطفال في النشاطات التواصليّة والاجتماعيّة، وإعادة الاستقرار إليهم، ومساعدتهم على تجاوز آثار الوباء. لكنّنا نشهد، بدلًا من ذلك، اهتمام المؤسّسات التربويّة بتعويض الطلّاب ما فاتهم من المحتوى التعليميّ أثناء الجائحة. وهذا يعني، حسبما يبدو، أنّنا أمام المزيد من الضغط النفسيّ على الأطفال، وذلك من خلال الدعوة إلى تمديد السنة الدراسيّة وتكثيف الواجبات المنزليّة. ورغم إظهار هذا الضغط بمظهر التعاطف، حيث يتّخذ طابع الاهتمام بشأن التقصير الذي لحق العمليّة التعليميّة، فإنّ ما يمثّله حقيقةً هو ما يمكن تسميته بجزع الفاقد التعلّميّ، وهو في الواقع تصعيد منهجيّ للضغط على الأطفال في أسوأ وقت ممكن، من حيث كونهم أكثر ضعفًا من قبل.

من جانب آخر، حذّر الباحث Merrill (2021) من التركيز المفرط على الفاقد التعلّميّ، واعتبر أنّ ذلك سيكون خطأ تاريخيًّا، وأنّ اهتمامنا الشديد بتقدير ما خسره المتعلّم من التقدّم الأكاديميّ غير منسجم مع الأولويّات التربويّة، وإذا كانت هناك حاجة ملحّة للتقدير، فتكمن في تقدير الخسائر الاجتماعيّة العاطفيّة التي برزت في الأشهر الماضية.

 

الفاقد الاجتماعيّ العاطفيّ

أهميّة الجانب الاجتماعيّ العاطفيّ في عمليّة التعلّم

إثر الانشغال بالتخطيط لتعويض الفاقد التعلّميّ الناتج عن جائحة كورونا، غاب عن المسرح التعليميّ الفاقد الاجتماعيّ العاطفيّ الذي كان ينبغي أن ينال حقّه من الاهتمام، وأن تعدّ له الخطط التعويضيّة كما أُعدّت للفاقد التعلّميّ. وما من شكّ في أنّ إهمال الجوانب الاجتماعيّة والعاطفيّة في العمليّة التربويّة، يمكن أـن ينعكس سلبًا على شخصيّة المتعلّم، حيث لا تنفصل هذه الجوانب عن الجوانب العقليّة المعرفيّة (العشماوي، 2019).

يمكن تعريف التعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ بأنّه العمليّة التي يكتسب من خلالها المتعلّمون المعارف والمواقف والمهارات اللازمة لفهم عواطفهم وإدارتها، وإدراك مدى قدرتهم على وضع الأهداف الإيجابيّة وتحقيقها، وإظهار الرعاية والاهتمام بالآخرين، وإنشاء علاقات إيجابيّة والحفاظ عليها، واتخاذ قرارات مسؤولة، والتعامل مع الحالات الشخصيّة على نحو فاعل وإيجابيّ (النملة، 2020). من أجل ذلك، نعتقد أنّ التعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ يلعب دورًا رئيسًا في تعويض الفاقد التعلّميّ، ولا يقتصر تعويض هذا الأخير على الجانب الأكاديميّ، لما للتعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ من دور جوهريّ في تمكين المتعلّم من تحقيق التطوّر في مجالات مختلفة، عبّر عنها كلّ من النملة (2020) وجبران (2018) بالآتي:

  • بناء علاقات إيجابيّة مع الآخرين والاهتمام بمشاعرهم.
  • تعزيز الثقة بالذات والقدرة على الإنجاز الأكاديميّ، ومساعدة الطلّاب المعرّضين لخطر الفشل الدراسيّ والتسرّب من المدرسة.
  • وعي المتعلّم مشاعره والتعبير عنها والتحكّم بها بشكل بنّاء.
  • تعزيز القيم والاتجاهات الإيجابيّة، مثل التقبّل والتسامح والتعاون والاحترام المتبادل.

جاء في توصيّات دراسة بحثيّة (إبداع المعلّم، 2021، أكتوبر) حول التعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ في فلسطين، أنّه يجب التركيز على بناء شخصيّة الأطفال بتعليمهم المهارات الحياتيّة، والتأكيد على دمج القيم والمواطنة الصالحة، وتعزيز اتجاهات التقبّل واحترام الاختلاف بين الأطفال. لذا، يجب أن يخضع المعلّمون والمرشدون إلى دورات تأهيليّة متخصّصة في التعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ، ويجب إدماج نشاطات في المنهاج تعمل على تعزيز هذا التعلّم، مثل اللعب والموسيقى والأغاني وسرد القصص والرسم والرياضة. كما أوصت الدراسة بضرورة قيام الإدارات المدرسيّة بتوفير الفقرات الترفيهيّة والنشاطات اللامنهجيّة التي تنمّي الجوانب الاجتماعيّة والعاطفيّة لدى المتعلّمين، فضلًا عن ضرورة تحسين العلاقة بين المعلّمين والأهالي. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الدراسة أنّه عندما تعتني المدرسة بالمهارات الاجتماعيّة العاطفيّة لدى الطلّاب تنخفض معدّلات حدوث المشكلات السلوكيّة، وتتعزّز العلاقات الاجتماعيّة بينهم، فيصبحون منتجين ومسؤولين وأعضاء مشاركين وفاعلين في مجتمعهم.

بناءً على ذلك، يكمن التحدّي الرئيس في كيفيّة جعل برامج التعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ عنصرًا أساسيًّا في الحياة المدرسيًّة، بما في ذلك المنهج الدراسيّ، وكيفيّة تنفيذها بطرق مستدامة. كما يكمن التحدّي في القدرة على الربط بين تعويض الفاقد التعلّميّ وتعويض الفاقد الاجتماعيّ العاطفيّ، انطلاقًا من تكامل جوانبهما.

 

استراتيجيّات تعزيز الجانب الاجتماعيّ العاطفيّ

  1. سرد القصص والحكايات للمتعلّمين: يستخدم أسلوب القصّة أحداثًا معيّنة يجد فيها المتعلّمون معاني ودلالات عن الحياة والبيئة من حولهم، إذ يتمّ من خلالها إثارة التساؤلات والقضايا المهمّة ضمن صراعات تواجهها الشخصيّات. يهدف ذلك إلى تعليم الطلّاب دروسًا عن الحياة، أو إقناعهم بأن يتّخذوا موقفًا معيّنًا إزاء قضيّة ما. الأمر الذي يجذب انتباههم إلى موضوع الدرس، ويهيّئهم للموقف التعليميّ، ويزيد دافعيّتهم للتعلّم، ويشوّقهم ويثير فضولهم وتساؤلاتهم، ما يحّفزهم على البحث عن الإجابات والمعلومات بدل تلقّيها جاهزة من المعلّم.  
  2. اللعب في المواقف التعليميّة: اللعب ميل فطريّ عند الطفل، ويشكّل عاملًا رئيسًا لنموّ الأطفال معرفيًّا وعقليًّا واجتماعيًّا وعاطفيًّا وحركيًّا، وله أنواع لكلّ منها مفهومه وغايته، ويمكن توظيفه في مخاطبة الجوانب الاجتماعيّة العاطفيّة لدى المتعلم. عرّف العشماوي (2019) اللعب التعليميّ بأنّه نشاط تعلّميّ منظّم وموجّه يقوم به المتعلّمون لتنمية مهاراتهم وقدراتهم العقليّة والجسميّة والعاطفيّة، ويحقّق في الوقت نفسه المتعة والتسلية، وهو يعتمد على نشاط المتعلّم وفاعليّته ويزيد من دافعيّته نحو التعلّم، ويقوم على التفاعل بين المتعلّمين بهدف الوصول إلى أهداف تعليميّة محدّدة. يتمّ هذا النشاط تحت إشراف المعلّم وتوجيهه، ويكتسب الطالب من خلاله المعلومات والمفاهيم والمهارات والاتجاهات.
  3. التعلّم في مجموعات صغيرة: لا ينبغي أن يعمل الطلّاب بمفردهم، من ناحية تعرّضهم بشكل مبالغ فيه للتعليم الالكترونيّ أو الرقميّ البعيد عن التفاعل مع أقرانهم، فهم بحاجة إلى التعاون في التعلّم. فبعد عام من العزلة الاجتماعيّة والتعلّم خلف الشاشات، زادت حاجتهم إلى التواصل مع بعضهم بعضًا، وإلى التعلّم ضمن مجموعات صغيرة، وإلى تغذية الحوار الداخليّ والتأمّل (France, 2021).

 

خاتمة

من الأهمّيّة بمكان إيلاء العناية الملاءمة للفاقد التعلّميّ ضمن نطاق علاقته بالجوانب الاجتماعيّة العاطفيّة، وتطوير مبادرات وبرامج وحلول عمليّة مدروسة لتعويض مختلف الجوانب التي فقدها المتعلّم، مع الحذر من المبالغة في الحديث عن الأثار السلبيّة وتضخيمها خشية ترسيخ مفاهيم العجز وضعف الثقة والكفاءة. لأجل ذلك، كان من الضروريّ اعتماد استراتيجيّات التعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ في العمليّة التربويّة التعليميّة في الحالات الطبيعيّة والطارئة على حدّ سواء، وتزويد الحصص الدراسيّة وفق سياقات مختلفة بنشاطات ترفيهيّة تفاعليّة تتضمّن ألعابًا حركيّة وعقليّة واجتماعيّة، ناهيك عن ضرورة الانتباه إلى أشكال التعلّم الأخرى التي قد يكتسبها المتعلّمون في أوقات الصراعات والأزمات.

 

المراجع

إبداع المعلّم. (2021، أكتوبر). التعلّم العاطفيّ الاجتماعيّ في فلسطين: أولويّة وضرورة.

جبران، وحيد. (2021، يوليو). النجاح في تعويض الفاقد التعلّميّ يحتاج توحيد تسميته وتطوير برامج تعليميّة خاصّة به. وكالة وطن للأنباء. [إنترنت].

جبران، وحيد. (2018). التعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ مدخل استباقي للتعامل بنجاح مع النزاعات. Hope Flowers. [إنترنت].

العشماوي، رجاء. (2019). الألعاب التعليميّة أفضل وسيلة لتعليم الأطفال. تعليم جديد- أخبار وأفكار تقنيّات التعليم. [إنترنت].

النملة، روان. (2020). متى سيمنح التعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ الأولويّة في التعليم؟ تعليم جديد- أخبار وأفكار تقنيّات التعليم. [إنترنت].

France, P. (2021). 3 Dimensions of Personalized Learning. Edutopia.

Frye, D. (2021). The Dangers of the “Learning Loss” Craze. Psychology Today.

Lorié, W. (2020). Contextualizing COVID-19 “Learning Loss” and “Learning Recovery”. Center for assessment. ]Internet[.

Merrill, S. (2021). Too Much Focus on ‘Learning Loss’ Will Be a Historic Mistake. Edutopia.   

Strauss, V. & Gabriel, R. (2021, march). What ‘learning loss’ really means. The Washington Post.

UNESCO et al. (2021).What’s Next? Lessons on Education Recovery: Findings from a Survey of Ministries of Education amid the COVID-19 Pandemic. OECD Publishing,  https://doi.org/10.1787/697bc36e-en