بوصلة التفكير: فهم الممارسات التربويّة في ضوء نظريّة في علم الدماغ
بوصلة التفكير: فهم الممارسات التربويّة في ضوء نظريّة في علم الدماغ
هنادي هاني نصرالله | كاتِبة ومعلِّمة كيمياء وعلوم حياة-لبنان

أين تجد نفسك الآن؟ وما إمكانيّاتك؟ وما الأهداف التي تناسبك؟ وكيف تصل إليها بأقصر الطرق؟ اكتشف ذاتك وانطلق نحو المستقبل برؤية.  

ليست هذه السطور إعلانًا ترويجيًّا لإحدى ورشات العمل "السحريَّة"، وليست مقدِّمة لكتاب يغيِّر حياتك بعد قراءته. فإذًا، ما قصّة هذه السطور؟ أدعوكم إلى اكتشاف ذلك في هذا المقال.

 

بين الأبحاث التربويّة والأبحاث العصبيّة

تركِّز الأبحاث التربويّة الحديثة على الدماغ، من حيث تركيبته والعوامل المؤثِّرة فيه، فضلًا عن تأثير الأفكار في المشاعر والانفعالات وتأثّرها بها. يهدف هذا التركيز إلى الربط بين العلوم العصبيّة والأساليب التربويّة المختلفة، بغية الوصول إلى بيئة تعلّميّة وتعليميّة فضلى، تمكِّن المتعلِّم والمعلِّم، على حدّ سواء، من تحقيق أفضل ما لديهما من إمكانات. 

 

يُعرَّف علم الأعصاب التربويّ بأنَّه مجال بحثيّ متشعِّب الاختصاصات، محوره الأساس تطويع المعارف المسؤولة عن وظائف الدماغ لحلِّ المشكلات التعليميّة داخل الفصول الدراسيّة. ويعتبر ماسون أنّ هدف علم الأعصاب التربويّ إنشاء جسر بين وظائف الدماغ المختلفة والآليّات المرتبطة بالتعلّم والتعليم. يعني ذلك تحويل نتائج الأبحاث حول آليّات التعلّم العصبيّة إلى ممارسات سلوكيّة تعليميّة. وتضمّ عمليّة التحويل الركائز الآتية: التنظيم السلوكيّ، واتّخاذ القرار، والتحفيز، والتفكير، والوعي الأخلاقيّ (بو عنان، ومحجوبة، 2023).

 

إطلالة تاريخيّة على الاكتشافات الدماغيّة

  • - اكتشف عالم نفس الأعصاب الأميركيّ روجر بيري سنة 1960 أنّ لكلّ من نصفيّ الدماغ الأيمن والأيسر عملًا خاصًّا به (Pearce، 2019).
  • - توالت بعدها أبحاث الدماغ، ليعلن العالم بول ماكلين نظريَّة الدماغ الثلاثيّ سنة 1990، حيث اقترح أنّ دماغ الإنسان مقسَّم إلى ثلاثة أدمغة: دماغ الزواحف، والدماغ الحوفي أو الدماغ العاطفيّ، والدماغ العقلانيّ أو القشرة المخّيّة الحديثة (J., 2019 Mallerup).
  • - بعد ذلك، دمج الباحث وليم هيرمان، اكتشاف سبيري مع نظريَّة ماكلين، ليصبح أب "تكنولوجيا السيطرة الدماغيّة"، أو ما يُعرَف بـ"الهيمنة الدماغيَّة"، أو "بوصلة التفكير"، أو "نظريَّة الدماغ الكلّيّ" (Hermann, 2000).

 

نظريّة أقسام الدماغ عند هيرمان

يقسِّم هيرمان الدماغ إلى أربعة أقسام، نبدأ بالقسم العلويّ من جهة اليسار، ثمّ نكمل بعكس اتّجاه عقارب الساعة، الدماغ الأيسر العلويّ (The left cerebral brain)، والدماغ الأيسر السفليّ (The left limbic brain)، والدماغ الأيمن السفليّ (The right limbic brain) والدماغ الأيمن العلويّ (The right cerebral brain). ثمّ يوسم هيرمان كلّ دماغ من هذه الأدمغة الأربعة بنمط من أنماط الشخصيّة: نمط تفكير الدماغ الأيسر العلويّ، وهو نمط موضوعيّ (أسماه النمط A)، ونمط تفكير الدماغ الأيسر السفليّ، وهو نمط تنفيذيّ (أسماه النمط B)، ونمط تفكير الدماغ الأيمن السفليّ، وهو نمط مشاعريّ (أسماه النمط C)، ونمط تفكير الدماغ الأيمن العلويّ، وهو نمط إبداعيّ (أسماه النمط D).  

وبعد ربطه بين أجزاء الدماغ وأنماط الشخصيّة، ينتقل هيرمان إلى تحديد سمات كلّ نمط من هذه الأنماط الأربعة:  

  • - يتّصف النمط الموضوعيّ "A" بمعالجة المشكلات، استنادًا إلى المنطق والعقلانيّة والدقّة، حيث يفضِّل التعامل مع الأرقام ويميل إلى تحليل الأفكار، بعيدًا عن العاطفة. 
  • - يتّصف النمط التنفيذيّ "B" بتفضيله الطرق التقليديّة في التفكير، وهو منظَّم ومتسلسل، ويفضِّل الاستقرار والروتين على المخاطرة والمغامرة. كما يميل إلى إنجاز المهمّات في الوقت المحدّد مع اهتمامه بتفاصيل الأشياء.  
  • - يتّصف النمط المشاعريّ "C" بالتعاطف مع مَن حوله، بالإضافة إلى امتلاكه قدراتٍ مرتفعةً على التواصل. وبالتالي، يعالج هذا النمط المشكلات استنادًا إلى العاطفة، وليس إلى المنطق (كما يفعل النمط A). كما يتحمَّس مع الأفكار الجديدة ويستمتع بالتفاعل مع المحيطين به. 
  • - يتّصف النمط الإبداعيّ "D" بإدراكه للصُوَر إدراكًا كليًّا، وهو بالتالي غير معنيٍّ بالتفاصيل. لدى هذا النمط قدرة عالية على إعادة ترتيب الأفكار وربطها مع بضعها بطرق غير مألوفة. كما لديه قدرة عالية على التخيُّل والتخطيط الاستراتيجيّ، بالرغم من عدم ميله إلى الالتزام بالقوانين (Hermann, 2000).

 

تحديد نمط الشخصيّة وفق نظريّة هيرمان

يعلن هيرمان أنّ كلّ واحد منّا يمتلك هذه الأنماط الأربعة مجتمعة، ولكن يغلب نمط واحد، أو نمطان، على الشخصيّة. ولتحديد هذا النمط الغالب، يكون على الفرد الإجابة عن عدّة أسئلة بنعم أو لا، مع التركيز على ضرورة الإجابة عن الأسئلة من دون تفكير دقيق، بل الإجابة تلقائيًّا حالما يفهم المفحوص السؤال (كلّ سؤال مصنَّف وفق واحد من الأنماط الأربعة). وبعد الانتهاء من الإجابة عن الأسئلة كلّها، يجمع الأسئلة التي أجاب عنها بــ "نعم" ويضع المجموع في جدول مخصَّص لذلك، ثمّ يضع، في مرحلة لاحقة، هذه المجاميع في مخطَّط مخصَّص لذلك، ليكتشف الشخص المفحوص النمطَ الغالب لديه (Hermann, 2000).

 

يشدِّد المهتمّون على أنّ اختبار "بوصلة التفكير" (اختبار هيرمان) ليس اختبارًا للذكاء، أو مقياسًا للجدارة أو المزاج، وإنّما مقياس تفضيلات طريقة التفكير وأنماط معالجة المعلومات. وبالتالي، لا يوجد نمط جيِّد ونمط سيّئ، بل مساعِد للفرد لاكتشاف ذاته وفهم الآخرين، واكتشاف ما يناسبه وما لا يناسبه، فضلًا عن أسباب نجاحه وأسباب فشله في مجال ما. 

 

أوجه الإفادة من النظريّة في المجال التربويّ وأمثلة عليها

تتحقّق الإفادة من نظريّة هيرمان في المجال التربويّ على عدّة مستويات:

  • - وضع الشخص المناسب في المكان المناسب داخل المؤسّسة التعليميّة، بالمواءمة بين أنماط شخصيّة الفرد والمهمّات التي تتطلّبها صفته الوظيفيّة.  
  • - العلاقات المهنيّة بين الموظّفين والمعلّمين المنتسبين إلى المؤسّسة التعليميّة. 
  • - تطوير الأساليب التعليميّة التي يتّبعها الطلّاب بما يتناسب مع أنماط تعلّمهم. 
  • - مساعدة الطلّاب على اتّباع وسائل التعلّم التي تناسب أنماط شخصيّاتهم. 

وفي هذا السياق، يذكر قسيم الهيلات (2015) في كتابه "مقياس هيرمان لأنماط التفكير" عدّة أمثلة توضيحيّة، نذكر منها ثلاثة:  

 

المثال الأوّل

لينا وسلمى ولارين، ثلاث طالبات متفوّقات يدرسن في مدرسة واحدة، ويُرشَّحن للالتحاق بمدرسة اليوبيل في عمان (مدرسة ثانويّة تقدِّم برنامجًا تعليميّا متكاملًا ومتوازنًا للطلبة الموهوبين والمتفوّقين أكاديميًّا).  تُقبَل الطالبات الثلاث في مدرسة "اليوبيل"، ولكنّ كلّ واحدة منهن تفضِّل معلّمة أثناء دراستها، بالاستناد إلى عوامل مختلفة: تفضِّل لينا معلّمة اللغة العربيّة لأسلوبها المعتمِد على الدقّة والتسلسل المنظَّم، في حين تفضِّل سلمى معلّمة العلوم لأسلوب تدريسها المبنيّ على العاطفة واحترام الآخرين، أمّا لارين فتفضِّل معلّمة الفنون لارتكاز مادّتها على الإبداع. بعد إنهائهنّ المرحلة المدرسيّة وارتيادهنّ الجامعة، اختارت لينا تخصّص المحاماة، لأنّها تحبّ العمل المنظَّم ولا تحبّ الخروج عن النصّ، بينما اختارت سلمى تخصّص الطبّ، انطلاقًا من حبّها الأعمال الإنسانيّة ومساعدة الآخرين، أمّا لارين فاختارت تخصّص هندسة العمارة لحبّها الرسم والخيال والإبداع، بعيدًا عن الروتين والقوانين الصارمة. (قسيم الهيلات، 2015).

يظهِر هذا المثال الترابط بين أنماط الشخصيّة وتفضيل الطلّاب أسلوب تدريس دون آخر.  كما يبيّن الترابط بين هذه الأنماط واختيار الطلّاب تخصّصاتهم الجامعيّة، بالرغم من مشاركتهم القدرات العقليّة ذاتها.  

 

المثال الثاني

آلاء طالبة موهوبة في كتابة الشعر، وهي حتمًا تتمتّع بخيال خصب ولغة غنيّة، وهي طالبة دراسات عليا في الجامعة، وهي تتابع مساق القياس والتقويم. البارز في حالة آلاء أنّها أخفقت مرارًا في هذا المساق، رغم موهبتها في كتابة الشعر، ورغم محاولاتها المتكرّرة للنجاح فيه. وتبرِّرُ آلاء حالها بالقول: "أنا أدرس بطريقة شموليّة والمدرِّس يهتمّ بالتفاصيل الدقيقة والحقائق. المدرِّس يركِّز على الأرقام وأنا لا أحبّ التعاملَ مع الأرقام. المدرِّس يستهلك 90% من وقت الحصّة بغية الشرح، من دون فسح المجال لمشاركات الطالبات والطلّاب وأنا أحبّ أن أشارك. المدرِّس ينظر إليّ على أنّني في قمّة الغباء وأنا أنظر إلى نفسي على أنّني في قمّة الإبداع" (قسيم الهيلات، 2015).

يُظهِر هذا المثال أنّ سبب فشل بعض الطلّاب قد يُردّ أحيانًا إلى عدم التطابق بين نمط المتعلِّم والنمط المتَّبع في التعليم. بالإضافة إلى طبيعة المساق المطلوب من المتعلِّم اكتسابه. وهنا أطرح التساؤلات الآتية: هل من الصواب أن يعزي المتعلِّم سبب فشله إلى نمط شخصيّته، وإلى ما يحبّ وما لا يحبّ؟ ألا يتوجَّب على المتعلِّم أن يبذل الجهد المطلوب إليه، متخطّيًا ما يحبّ وما لا يحبّ، باعتبار أنّ المساقات التعلّميّة غير الاختياريّة مراحل مؤقّتة للعبور إلى ما يحبّ؟ ألا يتحمَّل المعلّم مسؤوليّة تكييف أنماط تعليمه لتناسب أنماط شخصيّات المتعلِّمين المختلفة؟

 

المثال الثالث 

وليد طالب مجتهد، كان يُعرَف بحبّه تعلّم العلوم، ولكنّه بدأ ينفر من مادّة الفيزياء عند انتقاله إلى مدرسة جديدة. تسرّب وليد من المدرسة وأصبح ميكانيكيًّا مشهورًا في منطقته. توالت الأيّام ليأتي معلّم الفيزياء ليصلح سيّارته، ويكتشف أنّ الميكانيكي المشهور هو ذاته الطالب "الكسول" و"الغبيّ" الذي كان يعلِّمه منذ ستّ سنوات. وبعد انصراف المعلّم، دار نقاش بين وليد وصاحب المحلّ الذي يعمل عنده، فأعلن وليد أنّ فشله في الفيزياء مردّه إلى تركيز المعلّم على الجانب النظريّ من دون ربط المعارف بالتطبيقات العمليّة، بينما كان وليد يفضِّل التعلّم بالتجارب العمليّة والتطبيقيّة (قسيم الهيلات، 2015).

يظهر لنا هذا المثال أهميّة ربط المعارف مع التطبيقات الحياتيّة والعمليّة، إذ قد يؤدّي عدم تحقيق هذا الربط إلى فشل بعض الطلّاب في مسيرة اكتسابهم المعارف والمهارات المطلوبة. وكم من معلومةٍ توضَّحت بتحويلها من المجرَّد إلى المحسوس، وكم من طالب أبدع عند اكتشافه أهمّيّة المعلومة التي تُعرَض أمامه!

 

* * *

ختامًا، نقول إنّ اختبار هيرمان لا يمثّل، بالطبع، الحلّ السحريّ لمشكلات التعليم كلّها، إذ لا توجد وصفة سحريّة يمكنها القضاء على المشكلات التربويّة دفعةً واحدة، بل يتوجّب على التربويّ تجربة هذا الاختبار على طلّابه والعمل على الإفادة من نتائجه. فما ينجح مع طالب قد لا ينجح مع آخر. ولكن، ألفتُ نظرَكم إلى أهمّيّة هذا الاختبار وانتشاره في الأوساط التربويّة والمهتمّين بالعلوم العصبيّة والدماغيّة، حتّى إنّه يُروَّج له أداةً سحريّةً لحلّ مشكلات الفرد.

 

وعليه، أدعوكم إلى تجربة اختبار مقياس هيرمان لأنماط التفكير، ومشاركة مدى تطابق نتيجته على شخصيّاتكم وسماتكم: هل كان إجراء الاختبار مفيدًا لكم؟ هل أضاف معرفةً عن ذواتِكم؟ هل وسّع دائرة إدراككم ذواتكم والمحيطين بكم؟ هل لمستم واقعيّة الاختبار أم لاحظتم العكس؟

 

المراجع 

- بو عنان، أحمد، ومحجوبة، بوشيت. (2023). علم الأعصاب التربويّ: مسار التأسيس ورهان التخصُّص. المجلّة الأمريكيّة الدوليّة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.

- قسيم الهيلات، مصطفى. (2015). مقياس هيرمان لأنماط التفكير. مركز ديبونو لتعليم الفكر.

- Hermann, Ned. (2000). The Theory Behind the HBDI and Whole Brain Technology. https://heikejordan.de/artikel/TheTheoryBehindHBDI.pdf 

- Mallerup, J. (2019). Connecting Emotional intelligence to Leadership.

https://www.alp-network.org/wp-content/uploads/2020/02/conneqt_booklet_web.pdf

- Pearce, JMS. (2019, April). The “split brain” and Roger Wolcott Sperry (1913–1994). Revue Neurologique. 175 (4). 217-220.

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0035378718307008