برامج الذكاء الاصطناعيّ: تحدّيات جديدة في العمليّة التعليميّة
برامج الذكاء الاصطناعيّ: تحدّيات جديدة في العمليّة التعليميّة
ريام كفري أبو لبن | مستشار تربوي -فلسطين

يبدو أنَّ الذكاءَ الاصطناعيّ بدأ يحتلّ حياتنا، ومع إدراكنا التامّ بأنَّ المصطلح قد لا يعني الكثير لبعضنا، وقد يعني تقدُّمًا تكنولوجيًّا مُهِمًّا في تاريخ البشريّة لبعضنا الآخر، إلّا أنّه من المؤكّد أنَّ معظمنا يتخيّل إنسانًا آليًّا، له وجه نحيل وعينان زرقاوان، ورأس بيضَويّ يطيع أوامرنا، ويقوم بأعمال لا نودّ القيام بها؛ كأعمال المنزل أو الزراعة، أو طيّ الغسيل، ويمكن أن يقود السيّارة إلى اصطحاب الأطفال إلى المدرسة. لكنّ الذكاء الاصطناعيّ مفهوم لا يقتصر على إنسان آليّ يطيع الأوامر، وإنّما يدلّ على مجال علميّ يبحث في كيفيّة تطوير الأنظمة الحاسوبيّة القادرة على التعلّم مثل الإنسان، فيعتمد على الخوارزميّات التي تمكِّن الأنظمة من تحليل البيانات والتعرّف إلى الأنماط، من دون الحاجة إلى البرمجة اليدويّة، فيقلّد الحاسوب عمليّة التعلّم إلى حدّ ما، رغم أنّها عمليّة معقّدة في عقل الإنسان.

 

من أكثر التطبيقات تداولًا في يومنا تطبيق "ChatGPT" الذي أطلقته شركة "Open AI" في نهاية العام الماضي. هو نموذج يعتمد التعلّم الآليّ واللغويّ كنظام برمجة، كما يُستخدَم فيه الذكاء الاصطناعيّ وتقنيّات التعلّم الآليّ، لتدريب نماذج الحوسبة الآليّة على الإفادة من ردود الفعل البشريّة في عمليّة التعلّم. تتضمّن هذه التقنيّة تطوير طرق جمع ردود الفعل وأدواتها، وتستخدمها في تحسين أداء النظام الإلكترونيّ المستخدَم. من الجدير بالذكر أنَّ هذه التقنيّة أصبحت تُستخدَم في مجالات متعدّدة من الترجمة الآليّة، على سبيل المثال لا الحصر، ولكنّ مجال البحث في هذه التقنيّة ما زال في مراحله الأولى من التطوير، إذ يحتاج إلى مزيد من الوقت للوصول إلى نماذج خالية من الأخطاء تستطيع فيها الآلة التعلّمَ من ردود فعل البشر. لكن، كيف يعمل تطبيق "ChatGPT"؟ وما المخاطر والمشكلات الناتجة عنه؟ وما طبيعة التغييرات التي يقتضيها؟

 

حول مفهوم التطبيق وكيفيّة عمله

يعتمد "ChatGPT" على نموذج الدردشة، حيث يكتب المستخدِم سؤالًا أو جملة، فيردّ التطبيق على السؤال بإجابة مفصّلة ودقيقة، ويمكن للمستخدِم أن يطلب إعادة صياغة الجواب أكثر من مَرَّة؛ أي أنَّ السؤال الواحد له أكثر من إجابة، كلّ منها إجابة أصيلة، لا يوجد فيها أيّ نوع من التكرار. كما يمكن إعطاء الملاحظات حول الفقرة الناتجة لتحسينها، أو التركيز على نقطة محدّدة أو وجهة نظر معيّنة.  

 

"تعدّ ChatGPT نقطة تحوّل حاسمة في تقنية الذكاء الاصطناعيّ، بسبب قدرتها على إنشاء نصوص طبيعيّة متقدِّمة بطريقة شبه طبيعيّة، وهي تقنيّة تعتمد على تدريب النماذج اللغويّة الضخمة باستخدام الشبكات العصبيّة العميقة. وتعدّ ChatGPT واحدة من أكبر النماذج اللغويّة التي أُنشِئت حتّى الآن، إذ تحتوي على ملايين المعلومات، وعلى مجموعة بيانات ضخمة. يمكن، بهذه التقنية، إنشاء نصوص متكاملة وواقعيّة بطريقة مدهِشة، تُطبَّق في العديد من المجالات، مثل الترجمة الآليّة والمحادثات الآليّة والكتابة التلقائيّة والتحليل اللغويّ. بالإضافة إلى أنّها تساعد على تحسين تجربة المستخدِم بتوفير إجابات دقيقة وفعّالة على أسئلة المستخدمين. بفضل قدراتها المتفوّقة في إنتاج النصوص الطبيعيّة، تُعدّ ChatGPT محرِّكًا رئيسًا للتقدّم في مجال الذكاء الاصطناعيّ، وتشكّل نقلة نوعيّة في القدرة على فهم اللغة الطبيعيّة وتحليلها، ممّا يمكِّنها من إنشاء تجارب أكثر تفصيلًا، واستجابة أكثر دقّة وفعّاليّة لاحتياجات المستخدمين". 

 

الفقرة السابقة من إنتاج "ChatGPT"، إذ طرحتُ، في البداية، الأسئلة باللغة الإنكليزيّة، ولكنّني طلبت أن تكون الإجابة باللغة العربيّة، ثمّ طلبت إضافة فقرة عن التعلّم الهجين بين الإنسان والآلة. في المرّة الثالثة، طرحت السؤال باللغة العربية، وفي الخطوة الأخيرة، طلبت من التطبيق دمج الفقرتين وتنقيح اللغة فنتجت الفقرة الآتية:

"تعدّ تقنية ChatGPT نقطة تحوّل رئيسة في تقنيّة الذكاء الاصطناعيّ، حيث تمكّنت هذه التقنيّة من إنتاج نصوص طبيعيّة بجودة عالية وبشكل تلقائيّ. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ التعاون الهجين بين الإنسان والذكاء الاصطناعيّ يلعب دورًا حاسمًا في تحسين هذه التقنيّة وتحقيق أقصى استفادة من إمكاناتها.  

 

تمثّل عمليّة التعاون الهجين بين الإنسان والذكاء الاصطناعيّ تحدّيًا كبيرًا في مجال هذا النوع من الذكاء، إذ يتطلّب تطوير نماذج لغويّة متقدِّمة وتدريبها على مجموعات بيانات ضخمة. يتمّ التعاون الهجين بين الإنسان والذكاء الاصطناعيّ عادةً بعمليّة تدريب النماذج اللغويّة، حيث يوفِّر الإنسان المدخلات الأوليّة وتقييم النتائج، في حين يعالج الذكاء الاصطناعيّ البيانات ويخرِج النتائج المُحسَّنة. 

 

بالتعاون معًا، يمكن للإنسان والذكاء الاصطناعيّ تحسين بعضيهما بعضًا، وإنشاء نتائج أفضل، حيث يمتلك الإنسان القدرة على التفكير الإبداعيّ والتخيّل، بينما يتميّز الذكاء الاصطناعيّ بالقدرة على تحليل البيانات ومعالجتها بطريقة سريعة ودقيقة. وبالتالي، يمكن القول إنّ التعاون الهجين بين الإنسان والذكاء الاصطناعيّ يؤدّي دورًا حاسمًا في تطوير تقنيّة ChatGPT، وتحقيق أعلى مستويات الدقّة والفعّاليّة في إنتاج النصوص الطبيعيّة، ممّا يمكِّنها من تحسين تجربة استخدام التقنيّة".

 

يبدو الأمر مثيرًا، أليس كذلك؟  بالتأكيد، فهذا التطوّر في استخدام الذكاء الاصطناعيّ لكتابة نصوص بهذا المستوى المتقدِّم يعني سرعة في الإنتاج وقوّة لغويّة.  تخيّل لو أنّك تعمل في مجال كتابة التقارير والأوراق المفاهيميّة، أو مقترحات المشاريع، قد يكون "ChatGPT" ملاذك. لكن، ماذا لو كنت طالبًا في الصفّ التاسع، أرهقته الواجبات المدرسيّة وكتابة المقالات، فلجأت إلى التطبيق لكتابة المقالة الأخيرة؟ أو ماذا لو كنت معلّمًا، تنظر في وجوه الطلبة المتعَبة غير المهتمّة بما تقرِّر تعليمهم في المنهاج؟  كيف يؤثِّر الذكاء الاصطناعيّ في التعليم؟ هل سيأتي اليوم الذي يعتمد فيه الطالب في كتابة واجباته على التطبيق؟ إذا كانت المعلومات على بُعدِ سؤال بسيط، فما دور المعلّم؟ وهل يمكن الاستمرار بالمناهج المتّبَعة في الوطن العربيّ المبنيّة على المعرفة والحقائق؟ وهل سيواجه العالم عامّة والعالم العربيّ خاصّة تحدّيات كبيرة، إن لم يتحوّل التعليم والتعلّم فيه؟

 

مخاطر التطبيق وأبرز مشكلاته

لعلّ أبسط المشكلات التي سنواجِهها مع ظهور هذه الأدوات والتطبيقات هي الأمانة العلميّة. في البداية، كان النقاش التربويّ يقتصر على الكيفيّة التي سيُضبَط بها استخدام الذكاء الاصطناعيّ في كتابات الطلبة، وكيف يمكن للمعلّم التأكّد من أصالة عمل الطالب؟ كما بدرت توجّهات لمنع الطلبة من استخدام التطبيق، أو استخدامه بحذر، ولكنّنا ندرك تمامًا أنّ منع استخدام التطبيق يؤدّي إلى زيادة الفجوة بين المعلّم والطالب، ولا سيّما أنّ الذكاء الاصطناعيّ أصبح جزءًا من واقعنا، وأنّ هذا الجيل من الطلبة جيلٌ إلكترونيّ أصيل، ونحن لاجئون إلى هذا العالم الافتراضيّ. بتعبير آخر، أصبحت التكنولوجيا محورًا أساسيًّا في حياتنا وحياة أبنائنا، ولا يمكننا الهرب منها.

 

كانت منظّمة البكالوريا الدوليّة من أوائل البرامج الأكاديميّة التي سمحت باستخدام "ChatGPT" وغيرها من التطبيقات المماثلة، شرط أن يفصِح الطالب عنها مرجعًا معتمَدًا في بحثه. من هنا ظهر السؤال: كيف يمكن أن نضبط مَن استخدم التقنيّة ولم يرصدها مرجعًا؟ وما نوع التعلّم الذي يحتاج إليه الطالب؟ إذا أصبحت المعلومة على بعد سؤال، هل أصبح دور المعلّم ثانويًّا؟ أم تغيَّر دوره تغيُّرًا جذريًّا؟    

 

أعتقد أنّ التغيير في دور المعلّم ضروريّ، ولكنّه ليس كافيًا. يجب علينا اليوم تغيير نظرتنا إلى المناهج. إذا كانت المعرفة مجرّد إجابات على أسئلة، فما دور المدرسة إذًا؟ وما دور المعلّم؟ وما شكل التعلّم داخل غرفة الصفّ؟ بدايةً، لا أوافق على أنّ المناهج الحاليّة التي تركِّز على المعرفة والمحتوى غير مهمّة أو قديمة، بل أرى أنّها مهمّة جدًّا. تتمثّل إحدى نقاط ضعف الذكاء الاصطناعيّ في صياغة معلومات غير دقيقة أو مؤكّدة. لذلك، يجب على المعلّم والطالب أن يكونا مطّلعَيْنِ متمكّنين من المعرفة، كما يجب أن تتميّز المناهج بعمق المعرفة حتّى يصبح الطالب قادرًا على تمييز المعلومات الصحيحة من غيرها المفبركة، نتيجة خوارزميّات التطبيق وآليّة عملها. غير أنّ التغيير الجذريّ الذي يجب أن يحدث يكمن في كيفيّة الحصول على هذه المعرفة، فما استراتيجيّات التعلّم والمهارات التي يجب على الطلبة تعلّمها وتطويرها في رحلتهم التعليميّة؟

 

طبيعة التغييرات التي يقتضيها التطبيق

يجب أن ينتهج المعلّمون والمدارس طرقًا جديدة ومُبتكَرة، لتعليم الطلبة وتمكينهم من التفكير النقديّ وحلّ المشكلات وتطوير مهارات التواصل والتعاون. يأتي هنا دور الاستراتيجيّات التعليميّة الفعّالة والمتنوّعة، والتي تساعد الطلبة على اكتشاف مواهبهم وقدراتهم، وتطوير مهارات الابتكار والإبداع والتفكير النقديّ.

 

أعتقد أنَّ التوجّه الذي يمكن أن يحقّق ذلك هو بناء مهارات التساؤل والاستقصاء، وإدماجها في عمليّة التعلّم. يدعو تريفور ماكينزي في كتابه "عقليّة التساؤل" إلى تبنّي التساؤل والاستقصاء طريقةَ تفكير، وليس استراتيجيّة تعلّم فقط. يصبح بذلك التساؤل جزءًا طبيعيًّا من ميكانيكيّات التفكير لدى المعلّم والطالب، وينتج عنه مهارة في صياغة الأسئلة ترافقها مهارات أخرى من مهارات القرن الواحد والعشرين مثل التفكير النقدي، والقدرة على الابتكار والتفكير الإبداعيّ وغيرها. فإذا كان الذكاء الاصطناعيّ يعطينا المعلومات بجودة تعتمد على أسئلتنا، يصبح بناء مهارات الاستقصاء في مختلف المستويات في المدرسة أساسيًّا. وإذا كان الذكاء الاصطناعيّ قادرًا على تقديم معلومات غير دقيقة، فعلينا أن نصبح متعلّمين مطّلعين، قادرين على النقد والتساؤل بشكل متواصل حتّى نتأكّد من الإجابة.  هكذا، يصبح استخدام تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ وتطبيقاته وسيلة تعلّم وليس غاية، حيث يغدو جزءًا من الحصّة، ويمكن أن يوجّه المعلّم الطلبة إلى استخدامه لجمع معلومات وإيجاد حلول. من الضروري هنا أن ننمّي مهارات التفكير النقديّ، والتي تُعَدُّ جزءًا من عقليّة التساؤل، حتّى يستطيع الطالب فحص ما ينتجه الذكاء الاصطناعيّ بعين ناقدة تبحث وتتساءل دائمًا.  

 

يمكن للمعلّم أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعيّ في تخطيط الدروس أو كتابة الأسئلة التقييميّة، وإعادة صياغة الأسئلة لمراعاة الفروق الفرديّة بين الطلبة. هنا يصبح "ChatGPT" وسيلة أيضًا وليس غاية. لكي نحافظ على الأمانة العلميّة، على المدارس إعادة النظر بسياسة الأمانة العلميّة لديها مباشرةً، وإدراج هذه المنصّات مراجعَ لا بدّ من ذكرها في البحث والكتابة.

 

من المؤكّد أنّنا في الوقت الحاليّ لن نستطيع أن نكشف سوء استخدام هذه التقنيّات عند الطلبة، ولكن علينا التعاطي معها بشكل مباشر، وبناء ثقافة تعزِّز الطالب، ليستخدمها وسيلة بحث وتعلّم، بدل أن تكون عنده وسيلة هروب من إنجاز الواجبات. لذلك، لا بُدّ أيضًا لمناهجنا من التركيز على القيم الإنسانيّة والأخلاق التي تحكم مجتمعاتنا، وترفع من أهمّيّة الشفافيّة والصدق وقبول الآخر، وتقصي الحقائق، لنضمن أن نصل إلى مجتمع متماسك ومتسائل، لا يصدّق كلّ ما يراه أو يسمعه، وإنما يُصِرُّ على تقصّي الحقائق، ويمتلك أدوات ذلك. ومن الضروريّ هنا أن نعزّز لدى الطلبة والمعلّمين أنّ التكنولوجيا من إبداع العقل البشريّ، وأنّها وُجدت لتزيد من قدرات الإنسان في الإنتاج، وهي لن تكون أبدًا أذكى من صانعها أو أكثر ابداعًا؛ فالعلاقة التي تربطنا بها ليست متساوية، فالإنسان يبقى صاحب العقل الخلّاق وليس بالعكس.

 

* * *

لا شكّ في أنّ المرحلة القادمة ستكون مليئة بالتغيّرات السريعة، وستكون مخيفة، وعلينا التأقلم معها بسرعة. ولا شكّ أنّه، ومع ظهور هذه التطبيقات العديدة، فإنّ ما يجري في غرفة الصفّ من تلقين للمعلومات في عقول الطلبة فقط ليقوموا بإعادة تدويرها على ورقة الامتحان، لم يعد يكفي. وعلينا اليوم أن نفعّل مهارات التفكير العليا عبر الاستقصاء والتساؤل، لننمّي قدرة التفكير النقديّ والإبداعيّ لدى الطلبة. ومن الجهة الأخرى، علينا أن تزرع القيم الإنسانية التي تستطيع أن تنتج أجيالًا واعية، وتستطيع أن تسخّر كلّ هذه التكنولوجيا لما هو في مصلحة الإنسان، وتستطيع أن تسنّ القوانين التي تحمي البشر من سوء استخدام الذكاء الاصطناعي. أدرك، وأنا أكتب هذه المقال، أنّ التحدّيات كبيرة، وأنّ تاريخ البشر يكتظّ باستخدام العلم لغير خدمة الإنسان، بل لإيذائه. من هنا، انتشار الذكاء الاصطناعي القادر على الإنتاج اللغويّ نقطةُ تحوّل في هذا المجال؛ فالحياة بما فيها التعليم ما قبل الـChatGPT، ليست كالحياة ما بعده. 

 

المراجع

  • ماكينزي، تريفور. وبوشبي، ربيكا. 2022. عقليّة التساؤل. (ترجمة: عزّ الدين، علي). إصدارات ترشيد التربويّة.