في ظلّ التحوّلات المتسارعة التي يشهدها العالم المعاصر، لم يعد بالإمكان الاكتفاء بالطرق التعليميّة التقليديّة التي تقوم على التلقين ونقل المعارف الجاهزة. لقد أصبح التفكير النقديّ والإبداعيّ من المهارات الأساسيّة التي ينبغي أن يكتسبها المتعلّم، ليواكب تحدّيات القرن الحادي والعشرين. غير أنّ النظام التعليميّ في كثير من البلدان، لا يزال يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الكتاب المدرسيّ مصدرًا وحيدًا أو رئيسًا للمعرفة، ما يطرح تساؤلات جوهريّة حول مدى توافق هذا الاعتماد مع متطلّبات المرونة التعليميّة، وحاجة المتعلّمين إلى التفكير المستقلّ والتفاعل الخلّاق مع المعرفة.
تمثّل المرونة التعليميّة اليوم ضرورة تربويّة، لا ترفًا فكريًّا، إذ تُتيح للمعلّم والمتعلّم، على حدّ سواء، مساحة أوسع لتعديل المحتوى، وتكييف طرق التدريس، واستخدام مصادر متنوّعة، بما يعزّز من فرص تنمية مهارات التفكير العليا. وفي هذا السياق، تُثار إشكاليّة مركزيّة مفادها: هل لا يزال الكتاب المدرسيّ قادرًا على تلبية حاجات المتعلّم المعاصر؟ أم أنّه بات يُشكّل قيدًا يَحول دون تحقيق تعليم مرن ومحفّز للإبداع؟
تعريف المرونة التعليميّة ودورها في تنمية التفكير
مفهوم المرونة التعليميّة
تُعرّف المرونة التعليميّة بأنّها قدرة النظام التربويّ على تعديل عناصر العمليّة التعليميّة (المحتوى والأساليب والوسائط)، بما يتناسب مع احتياجات المتعلّمين المتنوّعة. ووفقًا لعزّام (2015)، تُعدّ المرونة نهجًا ديناميكيًّا يتيح للمعلّم تجاوز أساليب التلقين التقليديّة، والاعتماد على استخدام أساليب تعلّم متنوّعة. كما يشير توملينسون (2014) إلى ثلاثة مجالات رئيسة للمرونة التعليميّة، هي: تنويع المحتوى، وتنويع طرائق التدريس، وتنويع أساليب التقييم. تهدف هذه الممارسات إلى تعزيز مهارات التفكير النقديّ والإبداعيّ لدى المتعلّمين.
علاقة المرونة بتنمية التفكير الإبداعيّ والنقديّ
تهدف المرونة التعليميّة إلى تهيئة بيئة تعليميّة تحفّز المتعلّمين على استخدام مهارات التفكير النقديّ (Critical Thinking) والإبداعيّ (Creative Thinking)، وهما من المهارات الأساسيّة في عالم سريع التغيّر. يشير تقرير منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية (2018) إلى أنّ أنظمة التعليم المستقبليّة يجب أن تكون مرنة، لتطوير متعلّمين قادرين على "اتّخاذ قرارات معقّدة، وتقديم حلول مبتكرة، والتفكير بطريقة مستقلّة وتعاونيّة في آنٍ واحد". كما تؤكّد منصّة Edutopia على أنّ البيئة الصفّيّة التي تمنح المتعلّم حرّيّة استكشاف مصادره، وتنظيم مسارات تعلّمه، تعزّز الحافزيّة الذاتيّة، وتدفعه إلى إنتاج أفكار أصيلة وقابلة للتطبيق (Edutopia, 2022). ويرى فولان (2013) أنّ الدمج بين التكنولوجيا والطرائق النشطة وفهم احتياجات الطالب، أساس لنموّ التفكير العميق والابتكار داخل الفصول المرنة.
طبيعة الكتاب المدرسيّ التقليديّ وحدوده
خصائص الكتاب المدرسيّ التقليديّ
يُعدّ الكتاب المدرسيّ من أقدم أدوات التعليم وأكثرها رسوخًا في المنظومات التعليميّة، ويمثّل في العادة المرجع الرسميّ للمحتوى الدراسيّ، وينظّم المعارف وفق تسلسل محدّد ومنهجيّ. غير أنّ هذا التنظيم، وإن بدا مفيدًا من حيث ضبط المقرّر وتوحيد المرجع، يحمل في طيّاته مجموعة من الخصائص التي قد تعيق تنمية مهارات التفكير العليا، من أبرزها:
- - المحتوى المغلق: غالبًا ما يُصاغ الكتاب بصيغة نهائيّة لا تحتمل النقاش، تُقدّم فيها المعلومات باعتبارها حقائق ثابتة، غير قابلة للتأويل أو التساؤل.
- - التسلسل الخطّيّ: تُرتّب المعلومات بطريقة جامدة من الأبسط إلى الأعقد، ما لا يراعي دائمًا الفروق الفرديّة في الفهم أو طرق التفكير.
- - النزعة التقريريّة: تهيمن على الكتب لغة تقليديّة تُركّز على التلقين، بدلًا من تحفيز الاستكشاف أو التحليل، وتفتقر في الغالب إلى الأسئلة المفتوحة التي تحفّز الحوار أو الجدل المعرفيّ.
- - التقييم المرافق: غالبًا ما تُرفق الكتب بأنشطة وتدريبات تقيس الحفظ والاستظهار، أكثر من كونها تقيس الاستدلال أو التفكير النقديّ.
حدود تأثير الكتاب المدرسيّ في التعليم المعاصر
تتجلّى إشكاليّة الاعتماد المفرط على الكتاب المدرسيّ في كونه لا يُساير التحوّلات السريعة في المعرفة والتكنولوجيا. فالمحتوى المطبوع لا يُمكن تحديثه باستمرار، ما يجعله في بعض الأحيان غير متوائم مع المستجدّات، سواء العلميّة أو الثقافيّة أو القيميّة. وقد أشار تقرير البنك الدوليّ (2020) إلى أنّ "الأنظمة التعليميّة التي تُبقي الكتاب المدرسيّ وسيلة وحيدة أو مهيمنة على التعليم، غالبًا ما تُنتج طلّابًا ذوي مهارات ضعيفة في حلّ المشكلات والتفكير التحليليّ".
أثر الاعتماد الحصريّ على الكتاب المدرسيّ في إعاقة الإبداع والتفكير النقديّ
-
- غياب بيئة التعلّم المحفّزة على الإبداع
يقيّد الاعتماد الكامل على الكتاب المدرسيّ الإبداع، إذ يقتصر التعلّم على أسئلة وإجابات محدّدة مسبقًا، ما يمنع التساؤل أو الاستكشاف، ويحول دون التفاعل والتجربة.
-
- إضعاف ملكة النقد والاستقلاليّة الفكريّة
تقدّم الكتب المدرسيّة المعرفة بشكل أحاديّ، ما يعزّز الحفظ والتلقين بدلًا من التفكير النقديّ والتحليل، ويحدّ من قدرة المتعلّم على الاستقلاليّة الفكريّة.
-
- هيمنة "الجواب الصحيح" وقتل البدائل
من نتائج هذا النموذج أن يصبح المتعلّم مهووسًا بإيجاد "الجواب النموذجيّ"، لا بأصالة الفكرة أو عمق التحليل. الكتاب المدرسيّ لا يفتح الباب أمام احتمالات متعدّدة، بل يُغلقه على إجابة واحدة. يُضعف هذا من قدرة المتعلّم على توليد الفرضيّات، أو تحمّل الغموض، أو الإقدام على المجازفة الفكريّة.
نماذج تطبيقيّة عن المرونة التعليميّة
تجربة إعادة بناء التحدّي في النصوص السرديّة – المستوى الرابع الابتدائيّ
يمكن توضيح الجزء الأساسيّ من تجربتي مع تعزيز التفكير الإبداعيّ لدى المتعلّمين، بتطوير تدريس النصوص السرديّة للصفّ الرابع. في هذه التجربة، لاحظت أنّ النصوص ذات البناء البسيط تؤدّي إلى توقّع النهاية بسهولة، ما يُضعف من التحدّي التخيّليّ لدى المتعلّمين، ويقلّل من مشاركتهم.
1. ملاحظة التحدّي المحدود
عند تقديم نصوص سرديّة في الكتاب المدرسيّ، لاحظت أنّ معظم المتعلّمين ينجحون في توقّع النهاية منذ الفقرات الأولى، نتيجة لبنية النصوص النمطيّة، ما يؤثّر سلبًا في تفاعلهم.
2. طرح إشكال تعليميّ
طرحتُ سؤالًا مركزيًّا: كيف نحفّز المتعلّمين على التفكير خارج توقّعات النصّ؟ وقد اعتمدت في ذلك استراتيجيّة إعادة تشكيل نهاية القصّة، وتحفيز الخيال.
3. بناء نشاط بديل
قسّمت القصّة إلى مشاهد، وطلبت من المتعلّمين تقديم نهاية بديلة لكلّ مشهد، قبل الكشف عن النهاية الأصليّة. نُوقشت هذه النهايات وقورنت من حيث المنطق والرسائل.
4. أثر التدخّل
لاحظت ارتفاعًا واضحًا في مستوى المشاركة، وتنوّعًا في المقترحات، وأظهر بعض المتعلّمين مستويات مبهرة في التعبير الإبداعي. كما أخرجت الأنشطة القراءة من حيّز التلقّي إلى حيّز الإنتاج التخيّليّ.
تجربة معالجة صعوبة الفهم – المستوى السادس الابتدائيّ
أمّا تجربتي الثانية، فقد تمحورت حول التحدّيات التي واجهها المتعلّمون في فهم النصوص المدرسيّة في المستوى السادس. لاحظت أنّ بعض النصوص تحمل مفردات معجميّة معقّدة، وتراكيب لغويّة ثقيلة، ما أثّر في سير الحصّة التعليميّة بشكل عامّ.
1. تشخيص صعوبة الفهم
أثناء قراءة نصوص في كتاب اللغة العربيّة، كرّر المتعلّمون أسئلة حول معاني الكلمات، أو طلبوا إعادة القراءة مرّات عديدة.
عزّز هذا قناعتي بأنّ الفهم لا يتحقّق نتيجة البنية اللغويّة للنص، وليس نتيجة قصور لدى المتعلّمين.
2. تحديد الحاجة التربويّة
برزت الحاجة إلى جسر فجوة الفهم باستخدام وسائل تكيّف مناسبة، من دون الخروج عن النصّ الأصليّ.
3. اعتماد التدرّج في الفهم
اعتمدت ثلاث خطوات:
- - تقديم صور أو مشاهد تمهيديّة قبل كلّ فقرة لإثارة التوقّع.
- - استخدام خرائط الكلمات لشرح المفردات الجديدة باستخدام مرادفات قريبة.
- - تشجيع المتعلّمين على إعادة صياغة الفقرات بلغتهم الخاصّة ضمن نشاط جماعيّ.
4. أثر التدخّل
أصبح التفاعل مع النصّ أكثر انسيابيّة، وتراجعت الحاجة إلى الترجمة الحرفيّة أو التبسيط المفرط. كما أصبح المتعلّمون أكثر جرأة على طرح أفكارهم الشخصيّة، واستعادوا ثقتهم في قدراتهم على الفهم.
***
يُعدّ النقاش حول دور الكتاب المدرسيّ اليوم نقاشًا حول جوهر العمليّة التعليميّة بحدّ ذاتها: هل نُعلّم ليحفظ المتعلّم المعلومة، أم لنُعينه على اكتشافها وتفكيكها وإعادة بنائها؟ الاستمرار في التعامل مع الكتاب المدرسيّ باعتباره مرجعيّة مطلقة، يعكس رؤية نمطيّة للتعلّم، تتعارض مع التحدّيات الفكريّة والتكنولوجيّة التي تواجه الأجيال الجديدة.
بيّن هذا المقال أنّ محدوديّة الكتاب المدرسيّ لا تكمن في مادّته فقط، بل في طريقة توظيفه داخل منظومة تعليميّة تقليديّة، غالبًا ما تنزع إلى الانضباط أكثر من الإبداع، وإلى التسليم أكثر من التساؤل. وفي المقابل، فإنّ تفعيل المرونة التعليميّة لا يعني بالضرورة التخلّي عن الكتاب، بل إدماجه ضمن بيئة تعلّم حيويّة وديناميكيّة ومتعدّدة المصادر، يكون فيها المتعلّم مشاركًا فاعلًا في بناء المعنى، لا مجرّد متلقٍّ له.
من هنا، فالتحدّي الحقيقيّ ليس في الكتاب نفسه، بل في الوعي التربويّ الذي يوجّه استخدامه، وفي الخيال المهنيّ الذي يملكه المعلّم لصياغة تجارب تعلّم تتجاوز حدود النصّ، وتحرّك طاقات العقل والخيال.
وعليه، فإنّ مستقبل التعليم لا يُبنى بإلغاء القديم، بل بإعادة تأويله في ضوء الحاضر، واستثماره لبناء غدٍ أكثر حرّيّة وعمقًا ومرونة.
المراجع
- - عزّام، ع. (2015). المرونة التعليميّة ومتطلّبات التعليم في القرن الحادي والعشرين. عمّان: دار المسيرة للنشر والتوزيع.
- - Organisation for Economic Co-operation and Development. (2018). The future of education and skills: Education 2030. OECD Publishing.
- - Tomlinson, C. A. (2014). The differentiated classroom: Responding to the needs of all learners (2nd ed.). ASCD.
- - Edutopia. (2022). Flexible classrooms: Research is scarce, but promising.
- - Fullan, M. (2013). Stratosphere: Integrating technology, pedagogy, and change knowledge. Pearson.
- - World Bank. (2020). The COVID-19 pandemic: Shocks to education and policy responses