التفكير النقديّ استراتيجيّة لبناء التعلّمات: درس الفلسفة نموذجًا
التفكير النقديّ استراتيجيّة لبناء التعلّمات: درس الفلسفة نموذجًا
عبد الصمد زهور | باحث في الفلسفة - المغرب

مقدّمة

يعتبر إصلاح التعليم مدخلًا لتجاوز التأخّر الحضاريّ، بحكم ارتباط نهضة المجتمعات بالتعليم. وهنا، لا بدّ من نموذج تعليميّ يجعل المجتمعات العربيّة تواكب متطلّبات العصر، فيكون حركيًّا يتفاعل مع التغيّر الاقتصاديّ- التقنيّ بروح نقديّة وبذهنيّة منفتحة قادرة على الانخراط من دون الضياع، وهذا ما يمكن أن يتحقّق من خلال التربية على التفكير النقديّ.

يهدف هذا المقال إلى توفير استراتيجيّة للمعلّم قوامها المنهج النقديّ الذي يساهم في بناء التعلّمات، وتاليًا تنمية الحسّ النقديّ لدى الطالب في مقاربة الموضوعات والطروحات بعيدًا من الذاتيّة والعاطفة، وتخريج جيل واعٍ طيّع قادر على الإبداع ومجاراة التطوّر.

 

التفكير النقديّ وأهمّيّته

يبدأ التفكير النقديّ بامتلاك أطروحة واضحة مدعّمة بحجج وبراهين توصل تاليًا إلى خلاصة أو نتيجة قد تتوافق مع الأطروحة التي انطلقنا منها أو تخالفها، بحسب تسلسل الحجج وقوّتها. لذلك حدّد فشر (2009)  دلالات التفكير النقديّ بأنّها تعلُّم بناء الحجّة والحكم على صدق المصدر وموثوقيّته، راسمًا بذلك معالم التفكير النقديّ. ويمكن أن تتحصّل التربية على التفكير النقديّ وفق هذا المفهوم داخل الدرس الفلسفيّ بحضّ المعلّم للمتعلّمين على اتّخاذ موقف بالانطلاق من وضعيّة مشكلة، تفترض اختيار حلّ من بين حلول مختلفة، مع قرنه بالحجج اللازمة لتبيان أنّه الحلّ الأنسب، مثل جعلهم، مثلًا، يفكّرون في مسألة التعديل الوراثيّ في صفات الجنين البشريّ، ومدى مشروعيّته أخلاقيًّا.

لا يتوقّف التفكير النقديّ عند حدود موضوع محدّد، بل هو وفق تعبير بركان (2013) تفكير في التفكير لا في الفكر، أي إنّه ليس تفكيرًا في الجاهز والمُعطى، بل هو فاعل في الحقيقة، خاصّيّته أنّه متجدّد ومجدّد. وهو يتحقّق على هذا النحو داخل درس الفلسفة من خلال اختبار المتعلّمين باعتماد وضعيّات غير مألوفة، فلا يمكنهم الإجابة من خلال أفكار حُفظت، بل من خلال نقل استراتيجيّات التفكير وتطبيقها على موضوع الاختبار الذي لا ينبغي أن يكون مرتبطًا معرفيًّا بالدروس المقرّرة بل منهجيًّا فقط.

على الرغم من ذلك لا يقتضي التفكير النقديّ قطع الصلة بالفكر وبتاريخ الأفكار، فهو لا يعني الهدم، بل يحدث في ضوء التفاعل مع تاريخ الأفكار عبر تأويله وإبداعه، وهذا ما يبرّر، مثلًا، وجود فلاسفة أرسطيّين كبار، وفلاسفة ديكارتيّين عظام حفظ لهم التاريخ مكانة بارزة رغم انطلاقهم من أفكار غيرهم وتطويرها.

 

معوّقات التربية على التفكير النقديّ

عبّرت عنها مخلوف (2018) في:

  • - الافتراضات المسبقة: التي تتجلّى في الحكم المسبق على شخص ما أو فكرة ما، دون وجود مسوّغ واضح يدعم هذا الحكم.
  • - التحيّز: أي الميل غير المعقلن إلى شخص ما أو فكرة ما، ونفقد معه القدرة على إصدار أحكام منطقيّة، فلا بدّ من الحياد وبناء الحكم عقلانيًّا لا عاطفيًّا.
  • - ضغط الأقران والمجتمع: السباحة مع التيّار، "الموضة مثلًا"، عائق أساسيّ أمام التفكير بطريقة نقديّة.
  • - عدم صدقيّة المصادر: ليست كلّ المعلومات المتداولة صحيحة، خصوصًا أنّنا بِتنا نعيش في عوالم افتراضيّة الكلّ فيها قادر على نشر الخبر.

يمكن إبراز هذه المعوّقات في أعمال المتعلّمين بعد تكليفهم بمهامّ وإجراء تحليل جماعيّ لنتائجها، فيقف المعلّم على بعض المعطيات غير الموثوق بها، ويبيّن ذلك بمقارنتها بنقيضها الذي ورد في مصادر موثوق بها، أو من خلال تقسيم المتعلّمين مجموعات تبحث في الموضوع عينه، على أن يواكب عمل مجموعة واحدة بمصادر موثوق بها، ويجعل المجموعات تتحاور في ما بينها أثناء عرض المخرجات. والمدخل ذاته، أي العمل بالمجموعات، يمكن استثماره في بحوث مرتبطة مثلًا بالمقارنة بين الرجل والمرأة في جزئيّة معيّنة، كالشغل مثالًا، إذ يمكن أن تظهر في هذا السياق بعض أشكال التحيّز للنوع، ويمكن معالجتها من خلال أمثلة توضح عكس ما تمّ التحيّز إليه بطريقة غير عقلانيّة.

يمكن اختصار هذه المعوّقات في مسمّى المغالطات المنطقيّة التي تحيل على وجود خطأ في التسلسل المنطقيّ الذي نرتكز عليه في تبنّي أطروحة ما أو رفضها، لذلك وجب أن تكون الحجج خالية من المغالطات، ومن أبرز هذه المغالطات التي وقف عليها (Hitchcock, 2017)  وكذلك مصطفى (2007) نذكر:

  • - مغالطة رجل القشّ: معناها نسبة كلام لشخص رغم أنّه لا يقصده، والتحاور مع هذا الكلام، إذ عوض أن نناقش أدلّته، نناقش كلامًا لم يقله.
  • - مغالطة الشخصنة: كأن نختزل فريقًا بكامله في حكم واحد نتيجة وجود شخص واحد يصحّ عليه ذلك الحكم، أو نرفض موضوعًا لارتباطه بشخص ما.
  • - مغالطة المنحدر الزلق: تعني تطوير فكرة نحو منزلق بعيد منها لا يقصده المتكلّم، بغرض إثارة ضجّة حول موقفه والحكم عليه بالبطلان.
  • - مغالطة الانقسام الزائف: تحصل بوضع المستمع بين اختيارين قصد التأثير سلبًا في اختياره، وجعله يختار ضمن ما نسمح له نحن باختياره فقط.
  • - مغالطة عربة الفرقة الموسيقيّة: الدعوة إلى عدم مخالفة الرأي الشائع، وغالبًا ما يكون سبب ذلك هو البحث عن الطمأنينة ضمن الجماعة، والخوف من المساءلة إن كان لنا رأي مخالف لرأي الجماعة.
  • - مغالطة التعميم المتسرّع: تحدث بسحب ما يرتبط بشخصٍ ما على الكلّ، كأن أنسب خصائص شخص ينتمي إلى بلد ما إلى البلد كلّه.
  • - مغالطة الرنجة الحمراء: تحصل بمحاولة إخفاء موضوع بموضوع آخر، قصد تشتيت انتباه المتحاور وجعله يتّجه نحو مناقشة مسألة أخرى، إنها باختصار مغالطة الإلهاء.

 

مهارات التربية على التفكير النقديّ واستراتيجيّاتها

إنّ المغالطات المنطقيّة عبارة عن خلل يحدث في التسلسل المنطقيّ للتفكير، وهي ترتبط بأدلّة الأطروحة التي نرغب في المنافحة عنها بوعي أو بغير وعي، ولا بدّ من تفاديها للحفاظ على الصفة النقديّة للتفكير. لذلك، وجب دومًا تحليل أدلّة المحاور وفق معايير التفكير النقديّ، وهذا ما يجب التركيز عليه في الغرف الصفّيّة لبناء حوار نقديّ بنّاء بين الطلّاب، وهي: الوضوح، والدقّة، والترابط، والتكافؤ.

إنّ التفكير النقديّ ليس تصيّدًا للأخطاء، وإنّما هو استعمال جيّد لقدراتنا ومهاراتنا، بغية إصدار أحكام منطقيّة بناء على معايير نقديّة تجنّبنا الوقوع ضحيّة المعوّقات المذكورة أعلاه. ويمكن تقريب ملامح التفكير النقديّ من خلال تصنيف بلوم Bloom’s Taxonomy، ومن خلال التعرّف إلى كيفيّة بناء الأحكام المنطقيّة والمحاججة السليمة. هذا التصنيف هو وسيلة علميّة لمعرفة مستوى تفكير الإنسان، وهو أداة تعليميّة، يمكن تقريبها من خلال الهرم التالي:

التفكير النقدي منهجيات

يمنحنا تصنيف بلوم بحسب مخلوف (2018) قاعدة للتعامل مع المعطيات التي يوفّرها لنا الآخرون، بالانطلاق من المعلومات والعمل على فهمها، وتطبيقها، وتحليلها، ومن ثمّ تقويمها والإبداع من خلالها. ويمكن مدرّس الفلسفة في هذا الصدد أن يقدّم للمتعلّمين تصوّرات فلسفيّة حول الحريّة مثلًا، ويدعوهم إلى ضبطها وتذكّرها، وفهم مضامينها من خلال نقاش جماعيّ، ثم يحضّهم على العمل بها في الوسط الذي يعيشون فيه في أفق تحليلها، إذ يمكن الوقوف على أشكال تعارضها مع هذا الوسط وكذا توافقها معه، قبل إجراء مراجعة وتقويم يقودان إلى تعديل في التصوّر، يكون المتعلّم فيهما فاعلًا في بلورة التصوّر في صيغته الجديدة، وهذه هي مرحلة الإبداع. ومثال ذلك أن نعتبر أنّ الحريّة هي أن تفعل ما تريد، وإذا فُهم من ذلك أن نلبس ما نريد متى شئنا، فسيكون تطبيق هذا الأمر داخل الوسط الاجتماعيّ محفوفًا بالاعتراضات باختلاف الأمكنة والأزمنة، فاللباس الذي يُرتدى في مكان العبادة مختلف عن لباس المنزل أو المدرسة أو الشاطئ، ما يعني أنّ الحريّة ليست فعل ما نريد، بل فعل ما يليق، وتاليًا فالحريّة فكرة معقلنة قبل أن تكون سلوكًا، وعليه، يمكن تقويم التعريف الأوّل، من خلال أخذ حريّة الآخرين بالاعتبار وربطها بالعقل وبتعدّد السياقات، بأنّها فعل ما يناسب. إنّ تصنيف بلوم هو أداة للتفكير النقديّ وبناء التوافق مع الآخرين ارتكازًا على الدقّة والوضوح. ويتبيّن لنا أيضًا أنّ من أبرز مهارات التفكير النقديّ القدرة على المحاججة، فالحجّة Argument موضوع مدعوم بأدلّة للوصول إلى نتيجة، ولحصول ذلك لا بدّ أوّلًا من وجود أطروحة، ثمّ أدلّة وبراهين، فنتيجة قد تتّفق مع الأطروحة أو تختلف معها.

عبّر الباهي (2003) عن التلازم بين التفكير النقديّ والحجاج، بقوله إنّ النتائج التي حقّقتها مختلف الحقول المعرفيّة في مقاربتها التفاعلات الحواريّة ساعدت في ترسيخ الاقتناع بوجوب إيجاد أنساق منطقيّة ذات منحى طبيعيّ (غير صوريّ)، الأمر الذي حدا بالكثير من الدارسين إلى الحضّ على تكثيف البحث للكشف عن مزيد من العلاقات التي يمكن إقامتها بين الحجاج والأنساق المنطقيّة غير الصوريّة، أو بين التفكير النقديّ والمنطق غير الصوريّ.

لذلك لا بدّ من الإقرار بوجود علاقة بين التواصل والحجاج والتفكير النقديّ، إذ يطوّر كلّ واحدٍ الآخر في الوقت عينه. فالاهتمام بالحجاج في سياق تواصليّ يتطلّب تطوير القدرة على التفكير النقديّ، حتى يكون بناء النتائج مشتركًا، وحتى يتلازم القول بالفعل.

ينبغي أن تكون للمفكّر النقديّ أطروحة يريد أن يقنع بها الآخرين، لذلك فهو في حاجة إلى مختلف وسائل الإقناع التي يمكن تحديدها في ثلاث، وهي:

  • - الصدقيّة: اعتماد حجّة الاستشهاد أو حجّة الصفة، غير أنها يمكن أن تحصل بطريقة خاطئة عندما يكون للصفة أو للمستشهد به علاقة بالموضوع.
  • - المشاعر: استهداف المشاعر من أجل الإقناع، ويمكن أن يحصل هذا الاستهداف بطريقة خاطئة، كأن يقحم المرء نفسه في ما لا يقدر عليه خشية إقلاق شخص ما.
  • - المنطق: قد يُستعمل في محلّه، وإن لم يحصل ذلك نصبح أمام مغالطات منطقيّة.

تحضر هذه العناصر في حياتنا العمليّة، ويكون للتفكير النقدي فيها بعدان: نظريّ وعمليّ. فعلى مستوى الشهرة وتقنيات الإعلام والاتّصال تستخدم وسائل الإقناع المذكورة بقوّة، لإقناع المشاهد باعتباره مستهلِكًا بشراء منتوج معيّن، ويُستقدم مشاهير ونجوم  كآليّة للإقناع تُكسب المنتج صدقيّته. وهنا لا بدّ من أن يتنبّه المفكّر النقديّ إلى عدم وجود ارتباط بين المنتج والنجم، وتاليًا يصير حضوره غير منطقيّ. يظهر أثر التفكير النقديّ أيضًا عند محاولة تقييم محتوى ما، إذ لا بدّ من تحرّي صدقيّة المصادر، بعيدًا من التحيّز والافتراضات المسبقة والتأثير المحتمل للأقران.

 

خلاصة

يتبيّن لنا الحاجة الماسّة إلى العمل باستراتيجيّات تعليميّة قادرة على تمكين المتعلّمين من ترسيخ كفايات كالاستقلاليّة والإبداعيّة في التحليل واتّخاذ القرار، إذ نؤسّس بيداغوجيا لمجتمع مستقلّ يقطع مع مختلف أشكال التبعيّة، التي هي نفسها مشكلة تعثّر المنظومة التعليميّة في البلدان العربيّة، إذ ترتبط هذه الاستراتيجيّات بـ:

  • - التركيز على التفكير لا على الأفكار.
  • - اعتبار الخطأ مدخلًا للتعلّم وتعديل السيرورات.
  • - الإيمان بتعدّد أنماط الذكاء وتنويع أشكال اختبار المتعلّمين.
  • - ربط التعلّمات بالحياة، وتوجيه النظر إلى العمل.

نحن في حاجة إلى تعميم العمل بالتفكير النقديّ، والذي يستلزم قرارات شجاعة تُفضي إلى تغيّرات جوهريّة على مستوى الأنظمة التعليميّة القائمة، التي تشجّع على الكمّ أكثر منه على الكيف، وتُنشئ بذلك أجيالًا غير قادرة على الإبداع والابتكار، فتقف هي الأخرى عاجزة أمام التغيّرات التي يشهدها العالم وتجتاح البلدان العربيّة بحكم العولمة.

 

المراجع

  • - الباهي، حسّان. (2003). الحوار ومنهجيّة التفكير النقديّ. أفريقيا الشرق.
  • - بركان، ثريّا. (2013). محاضرات وحدة التفكير النقديّ. جامعة القاضي عيّاض.
  • - فشر، آلك. (2009). التفكير الناقد. (تعريب العيتي، ياسر). دار السيّد للنشر
  • - مخلوف، أميرة. (2018). مدخل إلى التفكير النقديّ. منصّة رواق.
  • - مصطفى، عادل. (2007). المغالطات المنطقيّة. المجلس الأعلى للثقافة.
  • -Hitchcock, D. (2017). On Reasoning and Argument: Essays in Informal Logic and on Critical Thinking. Springer International Publishing AG.