التعليم في بيئة متنوّعة.. قصص عمليّة مُلهمة
التعليم في بيئة متنوّعة.. قصص عمليّة مُلهمة
جنفياف أوديه | أستاذة في قسم إدارة التعليم والتكوين المتخصص جامعة كيبيك - كندا

 

تعدّ مشاركة التجارب التعليميّة والبحثيّة ذات قدرٍ كبيرٍ من الفائدة. هذا رغم اختلاف السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة للنظم التعليميّة بين بلدٍ وآخر؛ إذ تشكّل هذه المشاركة أداةً رئيسة للتطوير المهنيّ للمعلّمين، وللمعلّمين الباحثين. وتُعدُّ كثيرٌ من القضايا التي ترتبط بالشأن التعليميّ عابرةً للدول، ومنها تلك التي تتعلق بالتعليم في بيئة متعدّدة الثقافات. لم تعد تشكّل هذه التعدّديّة خصوصيّةً للدول الغربيّة فحسب، بل صارت دول الخليج العربيّة أيضًا تتّسم بالتنوّع الثقافيّ بسبب الوجود الكبير للعمالة الوافدة فيها، كما شهدت بعض الدول العربيّة حالات نزوح ولجوء إليها؛ ما أدّى إلى انتشار العديد من المدارس الدوليّة الخاصّة فيها. ويؤدّي اندماج الطلّاب المهاجرين واللّاجئين في الدول التي تتّسم مجتمعاتها بالتعدّديّة إلى ظهور تحدّيات تتعلّق بتطوير سياسات وخطط تربويّة لهؤلاء الطلّاب؛ ما يؤثّر في أداء المعلّمين ووظيفتهم في المدارس.

في هذا السياق المتعدّد، يهدف هذا المقال إلى عرض نتائج بحث Audet et al., 2018-2021، حول تدخّل المعلّمين في صفوف تتّسم بالتعدّديّة في مقاطعة كيبك في كندا؛ للتعامل مع موقف أو إشكاليّة تعرّض لها طالب مهاجر أو لاجئ، من خلال ما يسمّيه Desgagné "قصّة عمليّة" يسردها كلّ معلّم على حدة حول موقفٍ يختاره بنفسه. ويهدف البحث تحديدًا إلى إبراز "الدراية المهنيّة" للمعلّمين، كما يصطلح عليها Schön. وذلك بإعطاء المعلّمين صوتًا لسرد تجربة يرونها مهمّة، ومن ثمّ توعية المعلّمين المستقبليّين حول تحدّيات التدخّل في بيئة صفّيّة متعدّدة الثقافات.

 

ما يريده المعلّم من القصّة التي يسردها

خلال مقابلات فرديّة مع 11 معلّما ومعلّمةً في مدارس ابتدائيّة متعدّدة الثقافات في مقاطعة كيبك، طُلب من المعلّمين التحدّث عن موقفٍ أو إشكاليّةٍ جرت مع طالب لاجئ أو مهاجر في الصفّ، وعن كيفيّة معالجة المعلّم لهذا الموقف. وقد أثارت القصص لدى الباحثين تساؤلات مهمّة في هذا الصدد: كيف تعكس ممارسات المعلّمين درايةً مهنيّةً في صفٍّ يتّسم بالتنوّع العرقيّ والثقافيّ والدينيّ واللغويّ؟ كيف يتصرّف المعلّم عندما يواجه موقفًا أو مشكلةً يعانيها أحد الطلّاب المهاجرين أو اللّاجئين؟ هل يتصرّف بطريقة مختلفة عمّا اعتاد عليه؟ هل تفرض عليه البيئة المتعدّدة الثقافات استراتيجيّاتٍ مختلفةً ودرايةً مهنيّةً خاصّة بالسياق؟

أظهرت نتائج المقابلات أن القصص التي سردها المعلّمون تمحورت حول رسائل أرادوا التركيز عليها، ومن الواضح أنّها تعبّر عن المرتكزات الأساسيّة التي توجّه عملهم في مثل هذا السياق. يمكن إدراج هذه الرسائل تحت عنوانَيْن رئيسَيْن: الأوّل، التركيز على بناء العلاقة مع الطالب و/ أو العلاقة مع الأهل. والثاني، الحذر (Champy, 2009) في التعامل مع المواقف التي ترتبط بالطلّاب وعائلاتهم المهاجرة، من ناحية حساسيّة العلاقة معهم، والتنبّه إلى واقعهم.

 

  1. العلاقة مع الطالب ومع الأهل

من الملاحظ أنّ بعض المعلّمين (أربعة منهم) ركّزوا في قصصهم على أهميّة بناء علاقة جيّدة مع الأهل، بوصفها أداة للتعامل مع المواقف التي تواجههم مع الطلّاب المهاجرين واللّاجئين. وقد أشاروا إلى وجوب احترام خصوصيّة العائلات التي ترفض الحديث عن تاريخ هجرتها أو الصعوبات التي عانتها. في المقابل، تمحورت ستّ قصص حول أهميّة بناء العلاقة مع الطالب، فقد تحدّثت إحدى المعلّمات، مثلًا، عن تغييرها استراتيجيات تدريسها استنادًا إلى خلفيّة الطالب، حيث سمحت له باستخدام لغته الأمّ في الكتابة، علمًا أنها لا تجيد هذه اللغة، ولكنها هدفت إلى منحه الثقة بطاقاته وقدراته. وأفادت معلّمة أخرى بمثابرتها في محاولة بناء علاقة قويّة مع أحد الطلّاب على الرغم من رفضه لهذه العلاقة. كما ركّزت معلّمة في قصّتها على مسؤوليّة المعلّم في التكيّف مع احتياجات الطلّاب وواقعهم، هم والعائلة في آنٍ معًا.

تؤكّد هذه النتيجة حول بناء علاقة مع الطلّاب وعائلاتهم مدى فهم المعلّمين لخصوصيّة دمج هؤلاء الطلّاب في البيئة الصفّيّة، عبر بناء شراكة معهم وكسب ثقتهم وتفهّم أوضاعهم. مع ذلك، ترافق اهتمام المعلّمين هذا مع ما قد نسميه الحذر (Champy, 2009) في العلاقة، ربّما بسبب عدم معرفتهم بثقافة هؤلاء الطلّاب ومسار هجرتهم ووضعهم الحاليّ في المجتمعات المضيفة، وخصوصًا أنّ المعلّم في حالات كثيرة ينتمي إلى ثقافة مختلفة عن ثقافة طلّابه؛ ما قد يسبّب له إرباكًا في المواقف التي تواجهه. فالحذر في التعامل يبقي المعلّم في "منطقة الراحة" حتى يتسنّى له بناء معرفته تدريجيًّا بالطلّاب.

 

  1. الحذر في العلاقة مع الطالب ومع الأهل

لوحظ من خلال تحليل قصص المعلّمين أنّهم على استعداد للتعامل مع المواقف التي ترتبط بالطلّاب، غير أنّهم يحاولون التأنّي والتأمّل قبل الإقدام نحوها. وقد استخلصنا الخصائص الخمس التالية التي عبّر عنها المعلّمون من خلال رسائلهم:

 

- أن يكون المعلّم حسّاسًا إزاء خلفيّة الطلّاب وخبراتهم التعليميّة، فقد أشارت قصص بعض المعلّمين إلى أهميّة أخذ التاريخ الشخصيّ والأكاديميّ لهؤلاء الطلّاب في الاعتبار مع الحرص على عدم خفض التوقعات الأكاديميّة بشأنهم. وهكذا، يبدو أنّ هؤلاء المعلّمين يعتقدون أن التدخّل في بيئة غير متجانسة يفرض تنوّعًا وتمايزًا من جهة الاستراتيجيات الموضوعة، ولكن دون إغفال أهداف التعلّم.

 

- أن يكون المعلّم حسّاسًا بشأن بناء العلاقة مع الطلّاب، حيث ركّزت بعض القصص على أهميّة المثابرة في ذلك، مع الإشارة إلى أنّ من مسؤوليّة المعلّم أن يبادر لتطوير هذه العلاقة، وعدم إسنادها إلى الطلّاب. وعلى الرغم من التحدّيات والإشكاليّات التي قد تواجه المعلّمين في هذا الإطار، خاصّة مع الوافدين الجدد الذين قد يعانون "صدمة ثقافيّة"، فإنّ بعض المعلّمين وضعوا استراتيجيات تدخّل تتيح لهم مدّ جسور من الثقة مع الطلّاب.

 

- أن يكون المعلّم حسّاسًا إزاء دعم الطلّاب، مع التنبّه إلى احترام التفاوت في سرعة تعلّمهم، بمعنى ألّا يطالب المعلّم الطلّاب بالإسراع في ذلك؛ إذ يعتقد بعض المعلّمين أنّه من الضروريّ منحهم الوقت الكافي للتعوّد على التعلّم وللاستقرار النفسيّ وتنمية الشعور بالأمان في بيئتهم الجديدة؛ ما يسهم في إنجاح استراتيجيّات التدخّل والدعم وحلّ المشكلات، وهو "استثمار عاطفيّ" كما وصفته إحدى المعلّمات.

 

- أن يكون المعلّم حسّاسًا إزاء إنشاء علاقة مع عائلات الطلّاب، مع التنبّه إلى الحفاظ على خصوصيّة هذه العائلات. فقد أشارت قصص بعض المعلّمين إلى أنّهم يطالبون بإنشاء علاقة تتميّز بالاحترام مع عائلات الطلّاب من أصول مهاجرة، سواء عن طريق التماس مشاركتهم والتواصل معهم، أو من خلال الاستماع إليهم، بشرط ألّا يحكموا عليهم أو ينظروا إليهم من منظور ضيّق. وهكذا نجد أن المعلّمين يحمّلون أنفسهم مسؤوليّة إنجاح العلاقة من خلال تعاطيهم بصورة منصفة مع العائلات.

 

- أن يكون المعلّم حسّاسًا تجاه واقع العائلات، مع الحرص على عدم الاندفاع والتسرّع في مطالبتهم بالاندماج في البيئة المدرسيّة؛ إذ يعارض بعض المعلّمين مطالبة العائلات بالإسراع مثلًا في تعلّم لغة البلد المضيف أو الحديث عن تاريخهم وحياتهم الشخصيّة. وتُظهر قصصهم أنّهم يعتقدون أنّ العلاقة مع عائلات الطلّاب المهاجرين أو اللّاجئين فيها نوع من الهشاشة، ولكي تتطوّر العلاقة، من الضروريّ التعرّف إلى واقع هذه العائلات، دون التعامل معهم رسميًّا فقط كأرقام، وعلى المعلّم تجاوز مهمّاته المفترضة في بعض الأحيان للوصول إلى هذه الغاية.

 

ما الذي تعنيه هذه الرسائل من جهة الدراية المهنيّة للمعلّمين؟

تشير قصص المعلّمين، كما رووها بأنفسهم، إلى تصوّرهم لدورهم في التعامل مع المواقف المرتبطة بالطلّاب المهاجرين واللّاجئين وعائلاتهم، وكيف تسمح لهم هذه المواقف بتوسيع حدود تدخّلهم أو الحفاظ عليها أو تقييدها. قد يحتاج المعلّمون، كما أشار بعضهم، إلى القيام بمهمّات أكثر من تلك التي يُطالَبون بها للتعامل مع خصوصيّة موقفٍ معيّن، بينما قد يقرّر معلّمون آخرون التمسّك بمهمّاتهم حتى لو جاءت على حساب العلاقة مع الطالب وحلّ مشكلته. في حالات أخرى، قد يقرّر بعضهم تجاهل الموقف برمّته. ويتحدّث Giddens عن "منطقة السلطة" بالإشارة إلى الحيّز الذي يشعر فيه المعلّم بالكفاءة في التصرّف والتأمّل في ممارساته وتطويرها حسب الحاجة. ويختلف هذا الحيّز من معلّم إلى آخر بحسب قراءته للموقف وتعامله معه، وحسب السياق والعوامل المدرسيّة والشخصيّة والمهنيّة التي تؤطّر عمله أيضًا.

المشترك بين المعلّمين المشاركين، هو أنّهم جمعوا بين الحساسيّة في علاقتهم بالطلّاب وعائلاتهم وبين التنبّه أو الحذر من تبعات هذه العلاقة؛ ما يوضّح تعقيدات التدخّل في بيئة متعدّدة. وبالنسبة إليهم، فإنّ الانخراط في الوضع الإشكاليّ مع الطلّاب وأسرهم، مع الحساسيّات التي ينطوي عليها ذلك، لا ينفصل عن اتّخاذ الاحتياطات والتنبّه في هذا الشأن. تعكس هذه الدراية المهنيّة حالةً من التوازن المستمرّ في عمل المعلّم (Schön, 1983)، الذي يعمل دائمًا على المحافظة عليه من خلال حكمه على الموقف، وطريقة معالجته للإشكاليّة والتعامل مع الطلّاب والأهل (Le Boterf, 2000)، التي تمّ تطويرها لمواجهة الموقف.

 

خلاصة

ترتبط القصص العمليّة التي تحدّث عنها المعلّمون بمفهوم الإنصاف في التعليم. في الواقع، سواءً أشار المعلّمون إلى الحساسيّة تجاه خلفيّات الطلّاب وتجاربهم، أو إلى واقع عائلاتهم، فإنّهم يسلّطون الضوء على جوانب مختلفة من الإنصاف في المدرسة. وفضلًا عن ذلك، ركّز المعلّمون على التنبّه إلى احترام التفاوت في سرعة تعلّم الطلّاب، وعدم الاندفاع في التعامل مع العائلات والحفاظ على خصوصيّتهم، والحذر أيضًا من المسائل التي يجب تجنّبها لإنصاف الطلّاب وعائلاتهم. تعدّ هذه القصص مهمّة، وإن ارتبطت بسياق أو مكان معيّن، فهي ملهمة لجميع المعلّمين حول العالم سواءً عملوا في بيئة متعدّدة أو متجانسة؛ إذ من الضروريّ أن يهتمّ المعلّم بما يحدث داخل الصفّ، وأن يكون جاهزًا لتطوير درايته المهنيّة في مجتمعات آخذة في التحوّل نحو التعدّديّة. أخيرًا، تساعد هذه القصص المعلّم، أيَّ معلّم، على التأمّل في ممارساته الصفّيّة التي يمارسها بصورة تلقائيّة، فيتمكّن عندها من مساءلة دوره، وأقلمته مع احتياجات الصفّ والطلّاب.

 

المراجع

- Champy, F. (2009). La sociologie de professions. Presses Universitaires de France

- Desgagné, S. (2005). Récits exemplaires de pratique enseignante : analyse typologique. Presses de l’Université du Québec

- Giddens, A. (1987). La constitution de la société. Presses Universitaires de France

- Le Boterf, G. (2000) Compétence et navigation professionnelle. Éditions d’Organisation

- Schön, D. A. (1983). The Reflective Practitioner. Basic Books