يُعَدّ التعليم أساسًا لنهضة أيّ دولة، وفي السودان يواجه النظام التعليميّ تحدّيات عميقة تهدّد مستقبله. فعلى الرغم من الجهود المبذولة لتطويره، ما يزال يعاني أزمات تؤثّر في جودته وقدرته على تلبية احتياجات المجتمع. ومع التغيّرات العالميّة السريعة، تبقى هناك آفاق كبيرة للإصلاح المستدام، يمكن أن تجعل التعليم أداة فاعلة في التنمية المستدامة.
وقد تمثّلت الجهود في إجراءات طارئة لضمان استمراره، مثل اعتماد نظام التناوب بين المدارس في مناطق النزوح، وتنفيذ برامج مكثّفة لتعويض الفاقد التعليميّ. كما أُطلقت مبادرات للتعليم المجتمعيّ المؤقّت بالتعاون مع منظّمات محلّيّة ودوليّة، لتوفير بدائل للمدارس المغلقة، وضمان وصول التعليم إلى أكبر عدد من الطلّاب على رغم التحدّيات.
التعليم في ظلّ النزوح وتبعات الحرب
في العامين الماضيين، شهدت بعض ولايات السودان ومدنه نزوحًا واسعًا، بعد امتداد رقعة الحرب إلى مناطق متعدّدة، ما أدّى إلى حركة سكّانيّة ضخمة نحو المدن والمناطق الأكثر أمنًا نسبيًّا. من بين هؤلاء النازحين أعداد كبيرة من الطلّاب في المراحل التعليميّة المختلفة، والذين وجدوا أنفسهم مضطرّين إلى مغادرة مدارسهم ومناطقهم الأصليّة تحت وطأة الظروف الأمنيّة القاهرة. هذا الواقع خلق ضغطًا غير مسبوق على المدارس في المناطق المستقبلة للنازحين، إذ شهدت اكتظاظًا يفوق قدرتها الاستيعابيّة، سواء على مستوى الفصول أو الموارد التعليميّة والبنية التحتيّة.
بعض المدارس في المدن الآمنة اضطرّت، نظرًا إلى عدد النازحين الكبير، إلى تخصيص جزء من مبانيها لتستخدم مراكز إيواء، ما قلّل من المساحات المتاحة أصلًا للتعليم. ولمواجهة هذا الوضع الطارئ، لجأت إدارات مدارس متقاربة إلى اعتماد نظام التناوب الزمنيّ، بحيث يتناوب طلّاب مدرستين على المبنى نفسه، مع تعديل البرامج الدراسيّة لتناسب الجدول الجديد. هذا النظام، على رغم صعوبته، كان حلًّا إبداعيًّا لتفادي ضياع العام الدراسيّ على آلاف الطلّاب المعرّضين للانقطاع.
في المقابل، أُغلِقت عشرات المدارس في المناطق غير الآمنة بفعل استمرار النزاع، ما حرم آلاف الأطفال من فرص التعلّم، ووضعهم فعليًّا خارج المنظومة التعليميّة. هذه التطوّرات أدّت إلى ارتفاع معدّلات التسرّب المدرسيّ بشكل ملحوظ، خصوصًا بين الطلّاب من الأسر التي تواجه أوضاعًا اقتصاديّة صعبة أو فقدت معيلها بسبب النزاع. وتعمل وزارة التربية والتعليم حاليًّا على تنفيذ خطط لتعويض الفاقد، باعتماد برامج مكثّفة وحصص إضافيّة لإعادة دمج هؤلاء الطلّاب، وضمان عدم اتّساع فجوة التعليم أكثر.
ومع ذلك، يبقى التحدّي الأكبر في إعادة استقرار الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة للأسر المتضرّرة، إذ تعاني كثير من الأسر النازحة صعوبات معيشيّة، تجعل عودة أبنائها إلى المدارس أمرًا معقّدًا. فضعف الإمكانيّات المادّيّة، واضطرار بعض الأطفال للعمل لإعالة أسرهم، عوامل تُبقي نسبة غير قليلة من الطلّاب خارج أسوار التعليم، ما يهدّد بزيادة الفاقد التربويّ، وما يرافقه من تأثيرات طويلة الأمد في التنمية البشريّة.
أزمات التعليم في السودان: جذور ممتدّة ومعقّدة
يواجه السودان أزمة تعليميّة حادّة بسبب النزاعات المستمرّة، والظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة الصعبة. ووفقًا لتقرير اليونيسف الأخير، لا يزال نحو 19 مليون طفل خارج أسوار المدارس، مع إغلاق حوالي 10,400 مدرسة. ويعاني أكثر من 6.5 مليون طفل فقدانَ التعليم بسبب تصاعد العنف وانعدام الأمن، ما يعطّل فرص التعلّم في المناطق المتضرّرة من الحرب. كما يواجه 5.5 مليون طفل في مناطق أقلّ تأثّرًا بالنزاع، تحدّيات مرتبطة بإعادة فتح مدارسهم، إذ يظلّ مصيرها غير مؤكّد. وتعكس هذه الأرقام حجم الأزمة التي تضرب النظام التعليميّ في السودان، وتُبرز الحاجة الملحّة إلى حلول طارئة، مثل التعليم البديل باستخدام التكنولوجيا والتعليم عن بُعد.
تفاوت جغرافيّ واجتماعيّ مزمن في الوصول إلى التعليم
التفاوت في فرص التعليم بين المناطق الحضريّة والمناطق الريفيّة، ظلّ سمة بارزة للنظام التعليميّ في السودان منذ عقود. فالمدن الكبرى مثل الخرطوم، تتمتّع بتركيز أعلى للمدارس والمعلّمين، مقارنة بالمناطق الطرفيّة مثل سنّار وغيرها.
وفي الأرياف والمناطق النائية، يعاني الطلّاب بُعد المسافات التي تصل أحيانًا إلى 3 أو 4 كيلومترات يوميًّا، للوصول إلى أقرب مدرسة. ويصاحب هذا التحدّي الجغرافيّ نقص واضح في عدد المدارس وافتقارها إلى التجهيزات الأساسيّة، ما يجعل العمليّة التعليميّة أكثر صعوبة وأقلّ جاذبيّة للطلّاب وأسرهم.
نقص مزمن في المعلّمين المؤهّلين وضعف برامج التدريب
نقص الكادر التعليميّ المؤهّل يمثّل تحدّيًا طويل الأمد في السودان. فالمعلّمون المتخصّصون في موادّ رئيسة، مثل الرياضيّات والعلوم واللغات الأجنبيّة، نادرون، خصوصًا في المناطق الطرفيّة. وتعود هذه الفجوة إلى عوامل متعدّدة، مثل ضعف الاهتمام بدراسة التربية نظرًا إلى ضعف رواتب المعلّمين، بالإضافة إلى قلّة فرص التدريب المستمرّ، وهجرة الكفاءات داخليًّا وخارجيًّا. وفي كثير من المدارس، يضطرّ المعلّم الواحد إلى تدريس أكثر من مادّة خارج تخصّصه، ما يؤثّر سلبًا في جودة التعليم واستيعاب الطلّاب.
بنية تحتيّة تعليميّة هشّة وضعف في الموارد الأساسيّة
يعاني عدد كبير من المدارس، خصوصًا في الريف والمناطق الطرفيّة، ضعفًا حادًّا في البنية التحتيّة، حيث تُجرى الحصص أحيانًا في فصول غير مهيّأة أو تحت الأشجار، مع افتقار إلى المقاعد والطاولات والسبّورات. كما تغيب المكتبات والمختبرات والمرافق الصحّيّة، ما يجعل البيئة التعليميّة غير مريحة ويضعف تركيز الطلّاب. ويزداد هذا الوضع سوءًا مع تزايد الكثافة الطلّابيّة بعد موجات النزوح الأخيرة.
مناهج دراسيّة قديمة ومحدوديّة في المهارات الحياتيّة
تعتمد المناهج الدراسيّة في السودان منذ سنوات طويلة على الحفظ والتلقين، مع ضعف في تنمية مهارات التفكير النقديّ والإبداعيّ والمهارات الحياتيّة. وتفتقر هذه المناهج إلى موادّ حديثة في التقنيّة والابتكار وريادة الأعمال، ولا تولي اهتمامًا كافيًا لمفاهيم المواطنة والسلام والمهارات الاجتماعيّة. هذا القصور يجعل مخرجات التعليم غير مواكبة لمتطلّبات العصر، ويضعف جاهزيّة الطلّاب لسوق العمل المعاصر، وللتعامل مع التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
آفاق الإصلاح المستدام في سياق هشّ
التحدّيات:
في ظلّ النزاع المستمرّ والأزمات السياسيّة والاقتصاديّة في السودان، يواجه قطاع التعليم تحدّيات كبيرة تتطلّب حلولًا مبتكرة لضمان استمراره. وعلى رغم التحسينات التي تحقّقت بين عامَي 2008 و2018، بإضافة 2800 مدرسة وتسجيل مليون طفل إضافيّ، إلّا أنّ التحدّيات ما زالت قائمة. فقد تسبّبت النزاعات في إغلاق العديد من المدارس، ما حرم ملايين الأطفال من التعليم. وفي هذا السياق، تسعى اليونيسف بالتعاون مع منظّمة "صدقات" لتقديم حلول مبتكرة، إذ افتُتحت مراكز للتعليم الإلكترونيّ في أكثر من 7 ولايات، موجّهة إلى الأطفال بين 7 و14 عامًا لتمكينهم من اللحاق بأقرانهم (اليونيسف، دون تاريخ). وعلى الرغم من أهمّيّة هذه المبادرة، تظلّ الحاجة إلى مزيد من التدخّلات الإصلاحيّة قائمة، خصوصًا مع تزايد أعداد الأطفال خارج أسوار التعليم. ويتطلّب الأمر تبنّي نماذج بديلة ومرنة، مثل التعليم الإلكترونيّ أو التعلّم عبر وسائل الإعلام، لتوسيع نطاق التعليم، وتمكين الأطفال من الوصول إلى المعرفة خارج المدارس التقليديّة. وتُعدّ الشراكة بين الحكومة والمنظّمات الدوليّة مثل اليونيسف، ضروريّة لتعزيز هذه المبادرات، بما في ذلك تفعيل منصّات التعلّم الإلكترونيّ، والتي تتيح للأطفال الوصول إلى الكتب المدرسيّة والأنشطة باستخدام التكنولوجيا.
الحلول:
في ظلّ واقع معقّد يتّسم بالانقسام الجغرافيّ، وضعف الموارد، وتراجع الاستقرار السياسيّ، وتعدّد مراكز القرار، يصبح التفكير في إصلاح النظام التعليميّ السودانيّ، باعتماد نماذج تقليديّة مستوردة من بيئات مستقرّة، أمرًا غير عمليّ. لذا، فإنّ أولى الخطوات الواقعيّة تكمن في تبنّي حلول مرنة ومتدرّجة ومنخفضة التكلفة، تستجيب لحجم التحدّيات الآنيّة، مع بناء أسس لإصلاح أوسع حين تسمح الظروف بذلك.
أوّلًا، يمكن تعزيز مبادرة المدارس المجتمعيّة المؤقّتة. وهي نماذج تعليميّة ظهرت في بيئات نزاع مثل جنوب السودان وأفغانستان، وتقوم على توظيف الفضاءات العامّة مثل المساجد والكنائس ومراكز الشباب، وحتّى ظلّ الأشجار أو الخيام، لتكون أماكن بديلة للتعلّم، مع إشراك القيادات المجتمعيّة في تنظيم العمليّة التعليميّة. ويتميّز هذا النموذج بأنّه منخفض التكلفة وسريع التنفيذ، مع مرونة في استخدام مناهج مبسّطة ومختصرة تناسب الظرف الطارئ. وفي السودان، جرى تطبيقه بفعّاليّة محدودة في دارفور مطلع الألفيّات، ويمكن تطويره بدعم لوجستيّ من المنظّمات المحلّيّة والدوليّة.
ثانيًا، من الضروريّ اعتماد التعليم البديل والمرن، والذي لا يشترط الالتزام الصارم بالحضور أو بالتقويم الدراسيّ الرسميّ. ويشمل هذا البرامج غير النظاميّة، مثل تعليم الكبار والمسرّع، ودروس التقوية في المساء أو أثناء العُطل. ويمكن أن يُدمج مع التعليم عبر الإذاعة — كما طبّقت سيراليون ذلك إبّان وباء الإيبولا ببثّ الدروس الإذاعيّة الوطنيّة — لتوسيع الوصول إلى الطلّاب الذين لا يستطيعون حضور المدارس يوميًّا. وفي السودان، تمتلك العديد من الولايات محطّات إذاعيّة محلّيّة، يمكن أن تؤدّي دورًا مركزيًّا في هذا النوع من التعليم.
ثالثًا، من بين التدخّلات الممكنة إعداد معلّمين محلّيّين بنظام التسريع. فبدلًا من انتظار معلّمين مؤهّلين من مراكز المدن، يمكن إطلاق برامج قصيرة، لتدريب شباب المجتمع المحلّيّ على أساسيّات التدريس والإدارة الصفّيّة. وفي دارفور، في فترات النزوح الأولى، نظّمت اليونيسف ورشات تدريبيّة سريعة لمعلّمي الطوارئ باستخدام موارد بسيطة. إنّ إعادة تفعيل هذا النموذج مع تحديث المناهج ووسائل التدريس، يمكن أن يسدّ فجوة نقص الكادر التعليميّ مؤقّتًا.
رابعًا، يُعتبر ربط التعليم بالحوافز الاقتصاديّة والاجتماعيّة، من أنجح أساليب تقليل التسرّب في ظروف الحرب والفقر. ويمكن تنفيذ برامج مثل الوجبة المدرسيّة (school feeding programs) لتشجيع حضور الطلّاب، أو تقديم منح نقديّة مشروطة (conditional cash transfers) لأسر الطلّاب، مقابل استمرار أطفالهم في الدراسة. وقد نُفّذت برامج مشابهة بنجاح في إثيوبيا واليمن، وأسهمت في استقرار معدّلات الالتحاق على رغم الحروب الممتدّة.
خامسًا، تعزيز مبدأ المرونة الإداريّة واللامركزيّة التعليميّة. ويمكن أن تمنح السلطات المحلّيّة في الولايات مرونة أكبر في تكييف المناهج، وتخفيض الاشتراطات البيروقراطيّة لإعادة فتح المدارس، أو إطلاق مبادرات تعليميّة محلّيّة. وقد أثبتت اللامركزيّة التعليميّة فاعليّتها في دول مثل كولومبيا في فترة النزاع الأهليّ، حيث سمحت بإعادة التعليم تدريجيًّا في المناطق شبه المستقرّة، من دون انتظار قرارات مركزيّة معقّدة.
سادسًا وأخيرًا، تكوين شراكات محلّيّة مرنة مع منظّمات المجتمع المدنيّ والمنظّمات الدوليّة العاملة أصلًا في المناطق المتأثّرة. وتمتلك هذه المنظّمات خبرات لوجستيّة وشبكات محلّيّة تمكن الاستفادة منها في دعم التعليم، سواء بتوفير مستلزمات مدرسيّة، أو إقامة مدارس مؤقّتة، أو دعم المعلّمين بالموادّ والمكافآت. وفي السودان، للعديد من المنظّمات مثل الهلال الأحمر السودانيّ ومفوّضيّة اللاجئين واليونيسف، تجارب ناجحة سابقة يمكن البناء عليها.
هذه التدخّلات، وإن كانت مبدئيّة ومتواضعة، إلّا أنّها قابلة للتطبيق ضمن الإمكانيّات المتاحة. والأهمّ من ذلك أنّها تضع الأسس لإبقاء شريان التعليم حيًّا حتّى في أصعب الظروف، ما يشكّل ركيزة أساسيّة لأيّ مشروع وطنيّ مستقبليّ، لإعادة بناء النظام التعليميّ بشكل مستدام.
***
يواجه التعليم في السودان العديد من الأزمات، لكنّ آفاق الإصلاح المستدام تبقى ممكنة، بتبنّي سياسات تعليميّة شاملة ومبتكرة. وبتحديث المناهج، وتحسين تدريب المعلّمين، والاستثمار في البنية التحتيّة، وتعزيز استخدام التكنولوجيا في التعليم، يمكن للسودان أن يخطو خطوة كبيرة نحو بناء نظام تعليميّ قادر على تلبية احتياجات المجتمع. ويُعدّ الإصلاح المستدام في التعليم الأساس لتحقيق التنمية المستدامة، وبناء مستقبل أفضل لأجيال السودان القادمة.
المراجع
اليونيسف/ السودان. (دون تاريخ). التعليم الجيّد هو حقّ لجميع الأطفال. تمّ الاسترجاع في 15 مايو، 2025.